قبل عقد من الزّمن، جاء المستوطنون الإسرائيليّون بفكرة إقامة "سينما سديروت"؛ عند مغيب الشّمس يتجمّعون على التلال فوق كراس بلاستيكيّة وكنبات، "يفصفصون البذور"، ويدخّنون النارجيلة ليشاهدوا القنابل والنار التي تُقذف فوق بيوت الغزيين، ويقضون ليلةً ممتعة!
ويبدو أنّ ما هذه الظاهرة "الساديّة" التي ستُسمّى لاحقاً بسياحة الإبادة، لم تنته عند ذلك الحدّ. فقد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مأخوذ من فيلم وثائقي بعنوان: "الفداء المقدس: سرقة الأراضي الفلسطينية"، يبيّن مجموعة مستوطنين ينظمون جولات في القوارب لمشاهدة الصواريخ التي تنطلق من إسرائيل باتجاه غزة لتهدم المباني وتوقع مئات الضحايا المدنيين.
"إن مشاهدة السياح الإسرائيليين لويلات حرب الإبادة تجسد شعور التوحش ولذة ما بعد الألم"، كما يصفها الباحث أباهر السقا لرصيف22.
ولا تنفصل سياحة الإبادة عن الأيديلوجيّة الصهيونيّة الدينيّة الاستيطانيّة، التي برزت خلال هذه الحرب على وجه خاصّ، وجوهاً كثيرة لتمثّلها، من بينها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئل سموتريتش ودنييلا فايس، مؤسسة جمعية "نخالا" الاستيطانية التي قادت بنفسها إحدى جولات القوارب لمشاهدة الإبادة.
مشاهدة الإبادة عن قرب
عادةً ما يتجه السياح إلى أماكن الصراعات والحروب لمشاهدة بقايا دبابة أو طائرة حربية، بغرض استذكار ويلات الحروب والإبادة الجماعية التي تعرضت لها الشعوب، بما يسمى بسياحة الإبادة. وقد اكتسب هذا النوع من السياحة رواجاً في تسعينيات القرن العشرين، حين كان يزور معسكر "آوشفيتس" في بولندا نحو نصف مليون سائح سنويّاً؛ وهو المكان الذي ارتكب فيه النازيون أبشع جرائم الإبادة الجماعية.
تتقارب سياحة الإبادة بما يعرف بسياحة الموت أو السياحة السوداء أو السياحة المظلمة، وهي تعني بحسب المصادر، السفر إلى مناطق الحروب السابقة أو الحروب التي لا تزال مستمرة.
ظهر مصطلح "السياحة المظلمة" عام 1996 في كتاب للأكاديميين جون لينون ومالكولم فولي من اسكتلندا، بعنوان: "السياحة المظلمة: الانجذاب إلى الموت والكوارث"، وهو يستكشف "البعد الأخلاقي للأشخاص الذين يزورون معسكرات اعتقال وتعذيب في أوروبا الغربيّة والشرقيّة، على سبيل المثال، بعدما تحوّلت إلى مواقع تراثيّة، كبرج لندن وقلعة إدنبرة في بريطانيا، وكجدار برلين في ألمانيا".
بعد تطور أدوات التسويق، أخذت سياحة الإبادة تأخذ منحىً مختلفاً. يقول فيليب ستون، مدير معهد أبحاث السياحة المظلمة في جامعة سنترال لانكشاير بالمملكة المتحدة، "إن الجديد في السياحة المظلمة هو تسويقها، أي إضفاء الطابع الرسمي على هذه الرحلات من خلال كونها جزءاً من صناعة السياحة، فضلاً عن توظيفها للتكنولوجيا بشكل كبير لجذب السياح من كل مكان".
موقعية إسرائيل في سياحة الإبادة
ولكي يتّخذ الأمر طابعاً سياسيّاً، ابتدع سياسيّون ومستوطنون إسرائيليّون طرقاً سياحية جديدة لا يمكن من خلالها مشاهدة مخلفات الحروب وحسب، بل تجعل مشاهدة ويلاتها بأم العين.
إن الجديد في السياحة المظلمة هو تسويقها، أي إضفاء الطابع الرسمي على هذه الرحلات من خلال كونها جزءاً من صناعة السياحة
فشكل موقع دولة إسرائيل منطقة جاذبة لسياحة الإبادة، باعتبارها منطقة تكثر فيها الحروب. فاستقبلت إسرائيل آلاف الزوار في المناطق الحدودية لمشاهدة حروبها الدموية في فلسطين وسوريا، في مراحل زمنية مختلفة.
ففي فلسطين، شهدت منطقة "سديروت" المقامة على أراضي بلدة النجد المهجرة، زيارة عشرات السياح لمشاهدة تنفيذ عمليات عسكرية واسعة في المناطق الحدودية مع قطاع غزة بعد عام 2005، يجلسون على مقاعد ويصفقون عند مشاهدة الصواريخ التي تطلقها الطائرات ضد المدنيين، ويحتفلون عند اعتراض القبة الحديدية لصواريخ المقاومة، بحسب تقرير بعنوان "صعود السياحة المظلمة".
أما في سوريا، فيذكر تقرير أنّ "مرتفعات الجولان شكّلت منطقة جذب للسياح لمشاهدة القتل والدمار الذي حل في سوريا بعد الثورة. حينها، توجه السياح الإسرائيليّون ليشاهدوا أعنف المعارك، وأعمدة الدخان المتصاعدة والمذابح المستمرة، من أعلى الوادي في المرتفعات، وهو يعرف باسم "بوابة دمشق الجنوبية".
سياحة الإبادة بعد السابع من أكتوبر
تكثفت سياحة الإبادة على حدود غلاف غزة منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيليّة في السابع من أكتوبر 2023، فوفقاً للتقديرات الإسرائيلية، جاء إلى غلاف غزّة حوالي 200 ألف زائر خلال النصف الأول من عام 2024، مقارنة بـ 100 ألف زائر خلال الأعوام السابقة، منهم بعثات التضامن من الخارج أو زوار محليّون مثل الجنود وضباط الشرطة في "جولات تعليمية".
يزور فيها "السيّاح" آثار السابع من أكتوبر في "كيبوتسات" غلاف غزة، فيشاهدون آثار حرق البيوت، ويظهر سرير طفل، موضوع في الشارع، مليء بالرصاص، في مشهد يجعل المكان متحفاً مفتوحاً، ويروّج لسردية الكيبوتس أمام الزوار المحليين والعالميين، وشخصيات مثل إيلون ماسك وغيره الذين لبّوا دعوة إسرائيل إلى التفرج. كما تنبّأت منظمة "بيرثرايت إسرائيل"، "Birthright Israel"، وهي منظمة تقدم رحلات مجانية لمدة 10 أيام إلى إسرائيل للأميركيين اليهود، بأن نحو 13500 مشارك سيزورون "سديروت"- المقامة فوق أنقاض مدينة نجد الفلسطينية- وموقع مهرجان نوفا الموسيقي، مؤكدةً أنها ستوفر دفعة اقتصادية ومعنوية للسكان.
بدورها، كثفت الشركات السياحية الإسرائيلية إعلاناتها عن جولات سياحية بعد السابع من أكتوبر بشكل ملحوظ، إذ أعلنت شركة "بين هاريم" Bein Harim Israel Tours، للخدمات السياحية والمرخصة من الحكومة الإسرائيلية عن جولة خاصة في غلاف غزة، حيث بلغت تكلفة الرحلة 800$، تشمل رحلة باتجاه حدود إسرائيل مع غزة لمشاهدة السياج الفاصل، والتوجه إلى "معبر إيرز" لمشاهدة الإذلال الذي يتعرض له العمال الفلسطينيون يومياً خلال توجههم للعمل في الأراضي المحتلة، ومناطق أخرى مرتبطة بعمليات السابع من أكتوبر.
وفي موقع سياحي آخر باسم "Green Olive tours"، أعلن عن رحلة تحمل اسم "رحلة إلى حدود غزة". تتوجه الرحلة إلى غلاف القطاع لرؤية الحصار الذي يتعرّض له، وتاريخ إزالة المستوطنات والأنفاق المؤدية إلى مصر فيها، بالإضافة إلى زيارة المواقع المهمة لرؤية الهجمات الصاروخية وتجربة الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من تلك الحدود.
التفرج على القتل علاج المرض بالمرض
يذكر محللون أن سياحة الإبادة ترتبط بعلاقة الإسرائيليين بالحدود والأمن. يرى الباحث في الإبادة الجماعية ديرك موزس "أن إسرائيل، بعد السابع من أكتوبر، أصبحت أكثر شراسة بالدفاع عن حدودها، معتبرة الحدود هي خطوط الأمان بالنسبة لها ويجب مراقبتها بشكل مستمر. وبالتالي فإن سياحة الإبادة ليست مجرد تضامن مع من فقدوا أحباءهم في الحرب، بل هي تضامن مع الحدود؛ مع أولئك الذين فقدوا هذا الأمن من الناحية النفسية في الأقل".
لكن المحلل والباحث الفلسطيني أباهر السقا لا يرى أن سياحة الإبادة لها علاقة بالهوس الإسرائيلي تجاه الحدود والأمن، كونها دولة بلا حدود، وما زالت تسعى للتوسع الاستعماري الاستيطاني بشكل أكبر.
ينظر الكثير من الإسرائيليين لهذه الجولات كوسيلة للترويج لرواية الاحتلال التاريخية أمام العالم، ومحاولة لتغيير وجهات النظر الدولية تجاه طبيعة الحرب
"لسياحة الإبادة علاقة بتماهي الاحتلال مع فعل التوحش الذي ينصهر مع الجمهور المستهلك؛ "السياح" المؤيدين للفعل، ومع الجيش الإسرائيلي الذي يقوم بالفعل. ففي تلك المنطقة السياسية تلتقي عقلية الانتقام والتوحش تجاه الفلسطينيين الذين يستحقون الموت بشتى الطرق"، يقول السقا لرصيف22.
كما تكتسب سياحة الإبادة أهمية نفسية لدى الإسرائيليين، إذ وصفها أحد السياح بأنها تشكل علاج المرض بالمرض. فمن خلال فيلم "War Matador "، وثقت إبرامسون، مخرجة أفلام إسرائيلية من القدس، مشاهد لسياح معظمهم من المستوطنين، في حدود قطاع غزة، يراقبون مشاهد انطلاق الصواريخ. ويظهر مهاجر أمريكي يقول: "إنه لأمر سريالي ... أن المعاناة والحياة تحدثان بهذه الطريقة وفي الوقت نفسه".
ويرى السقا أن "مشاهد الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون، تتمثل في أنها مادة للاستمتاع واللذة، إذ يتم التمثيل بجسد الضحية والفرجة عليها، في ظل غياب تام للمشاعر والعواطف، بأكثر الصور فظاعة واعتيادية".
وتأخذ سياحة الإبادة طابعاً رمزياً لصيرورة البقاء. تقول المتحدثة باسم مستوطنة "نير عوز" إريت لاهف والتي تنظم العديد من الجولات إلى حدود غزة في مقابلة معها عبر موقع اسوشيتيد برس: "إنها ليست قصتنا الشخصية فحسب، بل قصة دولة إسرائيل بأكملها"، وتضيف "من المهم للناس أن يأتوا إلى هنا ويشموا رائحة الموت المحروق، وأن يتخيلوا أن الضحايا هم أصدقاؤهم أو آباؤهم".
سياحة لترويج رواية الاحتلال
لا تعتبر سياحة الإبادة ممارسة قانونية، بحسب عزام سلامة المختص بشؤون السياحة في فلسطين، "لأن القانون الدولي لا يعترف بقانونية المستوطنات كونها تمثل خرقاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف، ولأنها مخالفة للإعلانات الدولية، وبالتالي أي ممارسة إسرائيلية تقام على هذه الأراضي هي غير قانونية بالمثل"، يقول لرصيف22.
لسياحة الإبادة علاقة بتماهي الاحتلال مع فعل التوحش الذي ينصهر مع الجمهور المستهلك؛ "السياح" المؤيدين للفعل، ومع الجيش الإسرائيلي الذي يقوم بالفعل
ويرى سلامة أن "الهدف من سياحة الإبادة هو التضليل والتشويه والسرقة من خلال نشر رواية الاحتلال وتعزيز مزاعمه التاريخية والسياسية بالسيطرة على الأرض. كما ترتبط الزيارات بالبحث عن الجذور الدينية والتاريخية التي يستخدمها الإسرائيليون كجزء من خطابهم القومي والديني لتبرير الاستيطان والتهويد".
ويضيف: "ينظر الكثير من الإسرائيليين لهذه الجولات كوسيلة للترويج لرواية الاحتلال التاريخية أمام العالم، ومحاولة لتغيير وجهات النظر الدولية تجاه طبيعة الحرب، ولكنها في الحقيقة تفعل عكس ذلك وتزيد من تشويه صورة وحشية الإسرائيلي وانتهاكه لحقوق الإنسان".
"وعلى الرغم من عدم قانونيتها، ما زالت السلطات الإسرائيلية تعطي تراخيص للشركات التي تعزز من رحلات مشاهدة الإبادة، كطريقة من طرق تعزيز الاستيطان على الاراضي الفلسطينية المحتلة"، بحسب قوله.
وبينما توجه قديماً الآف السياح الإسرائيليين إلى المعسكرات النازية لمشاهدة آثار الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحقهم، يتوجهون حالياً عبر تخوم الجبال وامتداد البحار، لمشاهدة أفظع جرائم الإبادة التي يرتكبونها ضد المدنيين في قطاع غزة، كتحول من دور الضحية إلى دور الجلاد. فقد صرح عضو المجلس البلدي لمدينة المطلة في شمال إسرائيل: "يجب إفراغ قطاع غزة بالكامل وتسويته بالأرض، تماماً كما حدث في أوشفيتز".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...