منذ عامين، صعدتُ أعلى مِئذنة مسجد "أحمد بن طولون" لأول مرة، ورغم ارتفاعها الشاهق، لكن المشهد يستحق، فالقاهرة القديمة كلها ظهرت أمامي، بمآذنها وقِبابها الأثرية وأزقتها الضيقة، وقلعتها أعلى الجبل كحارسة لتلك البقعة من مصر. فجأة سألت نفسي: ماذا لو تكن كل تلك الآثار موجودة؟ ماذا لو كان الفاطميون دُعاة هدم لا بناء، أو كان المماليك مسموح لهم بتوريث أموالهم، فاحتفظوا بها بدلاً من بناء الأسبلة والمقابر؟ بل ماذا لو كان الغزاة، أي غزاة، قد هدموها أو أحرقوها، وماذا لو استيقظنا ذات يوم ووجدناها مجرد شوارع فقط؟
لا أعرف سرّ تلك الأسئلة الكابوسية التي اجتاحتني، فهبطت درجات المئذنة شارداً، لكن مؤكد أن مشروع "القاهرة التاريخية"، الذي أطلقته الحكومة حينها من أجل "تطوير العاصمة"، كان له دخل في ذلك، فوصفها بـ"التاريخية" يُشبه عندي وصف الرجل لزوجته بـ "أم العيال" حين يستعد للزواج بأخرى، فيحيل "التاريخية" للتقاعد ويستعد لـ "المعاصرة".
تذكرت ذلك، خلال الأيام الماضية، حين ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بصور هدم إحدى القباب الموجودة في مقابر الإمام الشافعي، ضمن حملة لإزالة المدافن القابعة في قلب القاهرة لصالح مشروعات إنشائية وعمرانية، وبعد أن عبّر مصريون كُثر عن غضبهم، خرج علينا كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، ليؤكد أن القبّة غير مسجلة في قائمة عدّاد الآثار، وبمعنى آخر سيتمّ هدمها، هي وكل قطعة مهما بلغت قيمتها الفنية والمعمارية، طالما لم تعتبرها الدولة أثراً في دفاترها.
مشروع "القاهرة التاريخية"، الذي أطلقته الحكومة من أجل "تطوير العاصمة"، يُشبه وصف الرجل لزوجته بـ "أم العيال" حين يستعد للزواج بأخرى، فيحيل "التاريخية" للتقاعد ويستعد لـ "المعاصرة"
على كل، مشهد هدم القِباب والمدافن أضحى مكرّراً، ورأينا سابقاً نقل مقابر مشاهير، مثل الروائي خيري شلبي وغيره، وكل ذلك ليس إلا جزءاً صغيراً من صورة أكبر اتضحت ملامحها خلال السنوات الماضية، وهي صورة "القاهرة" التي يريدها الرئيس عاصمة لبلاده، والتي تعبّر عن أفكاره وتطلعاته، وأول صِفات تلك العاصمة، أن تكون للأغنياء فقط، وهذا ما حدث تحت مسمى "تطوير العشوائيات"، فبدلاً من بناء بيوت للناس في نفس الأماكن التي وُلدوا وعاشوا فيها، تم نقلهم إلى مدن جديدة على أطراف المدينة ليسكنوا فيها، واستفاد النظام من الأراضي التي خلت بأميز مواقع القاهرة، فشيّد مكانها أبراجاً باعها بملايين الدولارات للأثرياء، خاصة العرب، ولم يكن "مثلث ماسبيرو" سوى صورة من ذلك.
ثاني صفات عاصمة الرئيس، أن تكون ممتلئة بالكباري والطرق الواسعة، على غِرار دبي والرياض، وهذا من ناحية يُخدّم على الأثرياء قاطني العاصمة الجدد وسياراتهم، ومن ناحية أخرى، فرصة لإزالة آلاف البيوت واستكمال نقل الفقراء، لكن تلك المرة تحت دعاوي "المنفعة العامة" وتوسعة الشوارع، وأي زائر للقاهرة يستطيع من فوق أي كوبري أن يرى كم البيوت التي هُدمت، أما ثالث الصفات فهي المدينة المكتظة بمحطات الوقود، وكل محطة بها كافيهات حديثة لتحل محل المقاهي الشعبية، إحدى معالم القاهرة التاريخية.
تبقى الصفة الأخيرة، هي تسمية معظم الإنشاءات الجديدة بأسماء قادة عسكريين، مثل محور "المشير"، محور "الفريق كمال عامر"، ناهيك عن آلاف المدارس التي تم استبدال اسمائها الأساسية بأسماء شهداء من الجيش والشرطة، ورغم أن ذلك تصرفاً جيداً، لكن محو أسماء الأدباء والفنانين والمثقفين لصالح القادة العسكريين، جعل القاهرة في النهاية تبدو لكل زائر جديد، مجرّد مدينة تُنجب جنوداً وضباطاً، وشخصياً عشت سنوات في مدرسة تحمل اسم المفكر المصري أحمد لطفي السيد، قبل أن تتحوّل إلى مدرسة أحد الشهداء الضباط.
تلك هي مواصفات القاهرة التي يريدها النظام الحالي، والتي توضّح لنا أنه ليس لديه ثأر شخصي مع التاريخ، ولذلك يهدم المقابر والمدافن الفنية الفريدة، وليس لديه مشكلة مع خيري شلبي بالذات، الأمر أكبر من ذلك. هو يريد تطبيق صورة بعينها، وبالفعل بدأ تطبيقها، ولن يكترث بأي شيء آخر، خاصة إذا كان هذا الشيء نفسه غير ذي قيمة لديه، مثل التاريخ والأدب والثقافة أو حتى الفقراء، فعاصمته يجب أن تليق بـ "مصره الكبيرة"، و"مصره الكبيرة" يعني أن كل شيء فيها ضخم ونظيف وبرّاق، وأسماء معالمها جنود وقادة للدلالة على القوة، بصرف النظر عن أي شيء آخر، مثل الجدوى، القدرة المالية على فعل ذلك، أو حتى وجود شعب قد يعيق التنفيذ، فكل هذا مقدور عليه.
عاصمة النظام المصري يجب أن تليق بـ "مصره الكبيرة"، و"مصره الكبيرة" يعني أن كل شيء فيها ضخم ونظيف وبرّاق، وأسماء معالمها جنود وقادة للدلالة على القوّة، بصرف النظر عن أي شيء آخر، مثل الجدوى، القدرة المالية على فعل ذلك، أو حتى وجود شعب قد يعيق التنفيذ
في عام 2013 ذهبت إلى العاصمة الأردنية عمّان، وحين جلست مع أصدقاء عرب، تحدّثوا عن القاهرة بإعجاب لم استوعبه وقتها، وحين سألتهم لماذا كل هذا الحب للعاصمة المصرية؟ أخبروني أنها المدينة الحيّة طوال الوقت، مزدحمة في الصباح الباكر وبعد منتصف الليل، وهي مدينة قادرة على استيعابك، إن كنت تملك أموالاً كثيرة يمكنك السكن وتناول الطعام في أغلى الفنادق، وإن لم تملك، فيمكنك السكن والأكل في المطاعم الشعبية أيضاً، وهي مدينة لا تكلّفك مزاراتها الكثير، ففي كل ركن هناك مسجد تاريخي ومعلم أثري والنيل، والأهم، أنك فيها يمكنك أن تتعرّف على المصريين الحقيقين، بعيداً عن الأماكن السياحية التي تكون مخصّصة للسياحة لا أكثر.
أعجبتني رؤيتهم التي دفعتني لتغيير نظرتي في القاهرة التي أسكنها، وأدركت أن إجابتهم نتجت عن خبرة زيارة دول كثيرة، شاهدوا فيها عواصم تطفئ أنوارها بعد العاشرة مساءً، وأخرى مخصّصة للأثرياء فقط، وهكذا، لكن الآن، لا أعرف كيف أخبر هؤلاء الأصدقاء أن القاهرة التي عرفوها قد اختفت، صارت تطفئ أنوارها بعد العاشرة مساءً فتبدوا كمدينة أشباح، مقابرها الفريدة تُزال، والمطاعم الشعبية صارت أسعارها تضاهي المطاعم الفاخرة في الخارج بسبب التضخّم، حتى المصريين باتوا يعبرونها ولا يقيمون فيها، كما لا أعرف كيف لم يُدرك النظام أن ما يحدث في العاصمة من الناحية الاقتصادية كارثة، فالسائحون يجيئون للقاهرة التي عرفوها، لا التي يريدها الرئيس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...