وميض زهري خلف زجاج غرفتي المطلّة على الشارع، قاطعَ تمدّدي الذي صاحب عيون كانت معلّقة نظرها على فضاء رحب مرصّع بالنجوم، تبعه دويّ انفجار قوي باغتني بسرعة الضوء والصوت، وتجاوزني بالاثنتين معاً، دون دراية مني ووسط دوامة عدم إدراكي كلّياً لما يجري.
وجدتُني ألهث بغتةً عند نهاية الممرّ المؤدّي إلى الغرفة، أمعن النظر في شيء لم أدرك كنهه. أسمع دقات قلبي وكأنّها دقات الساعة الأخيرة، ما هذا الانفجار الغول الذي زلزلَ غرفتي وأطاح بزجاجها في ظرف برهة؟
صوت سكان الحيّ يصلني مشوّها: "ضرب صاروخ في بناية كاملة... انضربت، الدخنة غطّت السما. يا الله تجيرنا، الله أكبر.. لك شو هاد؟". صوت آخر: "لا تخافوا لا تخافوا ماما بعيد عنا مو هون مو هون". أحدهم لمسَ كتفي، استدرتُ فإذا بأمّي تنطق بشيء ما؛ لا أسمع صوتها، فقط أرى شفاهاً تتحرّك بألفاظ مرتبكة متلعثمة، وعيوناً جاحظة طافحة بالرهبة، تتوسّع حدقاتها أمامي بوضعية التصوير البطيء، ثوان معدودات من الطنين المزعج، وبدأت الكلمات تتدارك مسامعي ببطء وتشويش: "ماما، أنت منيحة؟"
وجهاً لوجه مع محدوديتنا "الرمادية"
لم أستطع ليلتها أن أجيب أمي بشيء سوى بهزّ رأسي؛ ولا أعلم إن كان نفياً أم إيجاباً، فقط ما أعلمه أن ليلتها لم تنبس شفاهي ولو بكلمة. ولكن في اللحظة التي فتحت فيها عيني صباح اليوم التالي، ارتطمت بي ملامح الإجابة بقوّة، إجابة واضحة عن سؤال الأمس لا يشقّ لها غبار: "لأ، لأ أنا مو منيحة..". اكتسبت هذه الكلمات من القوّة واليقين ما جعلني أراها في قرارة نفسي مكتوبة بأحرف كبيرة.
ولعلّ إجابتي سابقاً كانت أوفر حظّاً باليقين ممّا قد سبق وحظيَتْ به تفاصيل يومياتي منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة مطلع أكتوبر العام الماضي، وتصاعد وتيرة الحرب التي زحفتْ نيرانها إلى لبنان ودمشق، دمشق التي لم تَكد تكفكف جراحها من حرب دامت 13 عاماً، قضمت أرواحاً، وهجَّرت أبداناً، وحوَّلت مدناً وبلدات إلى فضاءات شبحيّة يتعذّر ‑حتى على أهاليها‑ التعرّف إليها.
أنهض وأحاول أن أزيح ثقل هذه الأفكار عن رأسي. أغتسلُ وأبدأ تحضير نفسي للذهاب إلى العمل بحكم سطوة الروتين اليومي، غير أن أفكاري تنال مني رغم محاولاتي البائسة لتشتيتها. يقاطع الآن صوت أمي سيل الأفكار: "يه.. يه! لك لوين رايحة؟ من كل عقلك بعد يلي صار مبارح رايحة على شغلك؟ قعدي بالبيت ما في روحة، بلا ما يجيكي شي صاروخ نكون بشي نصير بشي تاني".
افتككتُ من فصاحتي الساذجة وقلت لأمي دون مبالاة: "دخيلك إن ولعت بكل الأحوال ما في مكان آمن، هون أو برّا". كيف أصف لها شعور أن يكون التغيير هو الثابت، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد الذي يعنون أيّام حياتنا هذه؟
سمعت كلماتها وتملكّني إحساس بالسخرية في قرارة نفسي. أبقى في المنزل! لماذا؟ أهو أكثر أماناً من الخارج؟ كيف أستعيد شعوراً لم تمض سوى ليلة واحدة على فقداني إياه؟ كيف أصدمها وأجيبها بأنه لا مكان آمن في هذه المدينة بعد الآن، وأن قَرْعَ طبول الحرب قد سُمع لكن لا يوجد في آخر النفق رايات نصرٍ لرفعها، ولا فرسان شجعان على خيول عربية أصيلة تتشوّق لتلتحم بالعدو في ساحات الوغى، فيبعث حضورها المهيب يقين السلام.
دمشق... آه على مدينة دمشق: "هل ما تزال في عداد المُدن أصلاً؟ وهل ما تزال طُرقاتها فضاءات عبور جماعي آمن؟"
افتككتُ من فصاحتي الساذجة وقلت لها دون مبالاة: "دخيلك إن ولعت بكل الأحوال ما في مكان آمن، هون أو برّا". كيف أصف لها شعور أن يكون التغيير هو الثابت، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد الذي يعنون أيّام حياتنا هذه؟
لطالما اعترضت منذ طفولتي على فكرة الوسط المتأرجح، فأنا لست طويلة ولا قصيرة، بل في الوسط، لون عيوني ليس بنياً فاتحاً ولا هو أسود، إنه في المنتصف تماماً، لون شعري لا هو فاتح ولا غامق. إنه مزيج غريب بين الدرجتين! لطالما كرهت اللون الرمادي، مبدأً وموقفاً وشعوراً، ولكن لعنته الرمزية لم تنكسر رغم كرهي لها، بل امتدت لتطال مفاهيم أعمق وأكبر بكثير. "الحرب والسلم" وما أصبح بينهما من اختلاط في المعالم والمشاعر. أعادني ثقل نظرات الخوف على وجه أمي الجميل إلى الواقع، ابتسمت وقلت لها: "لا تخافي ما راح يصيرلي شي"، ارتديت حذائي وخرجت.
في سورية، حتى للسماء ثمّة حدود
خرجت في ذلك الصباح وأنا أكاد أشتمُّ رائحة الخوف والرعب والحزن المتلبّدة في الأجواء، أنظر إلى وجوه من حولي، أرى تقاسيماً متشابهة تُتَرْجِمُ تلك الرائحة لملامح موحَّدة: عبوس مخلوط بالدهشة والمهانة.
تنفرج عن وجهي ابتسامة بلهاء رغماً عني وكأنني بها أُطَمْئِنُ من حولي بأحاسيس لا أملكها، أي صوت يصدر من حولي مهما كان سخيفاً يدبّ الرعب في نفسي، ليبدو ذلك عليَّ واضحاً؛ فيفجّر الناس من حولي ضحكاتهم، هازئين تارة ومطمئنين طوراً.
أخرج من مبنى العمل بالقرب من "سِفل التلّة"، أطالعُ السماء فأجدها مكفهرّة عبوسة ككلّ السوريين هنا. أتذكر كلام جدتي ‑رحمها الله‑ عندما قالت لي ذات مرة: "بدي ياكِ اتكوني مثل الطيور تحلّقي لفوق وتضلّ عيونك على السما، لأن كل يلي بركّزوا على السما ما بكون لأحلامهم حدود، السما ما إلها حدود يا حبيبتي".
يتملكني شعور الحسرة وأنا أنظر إلى سمائنا التي أُثقِلَتْ بحمل قاس أضعف سواعدها المهزوزة لتلقي بكل حملها فوق الحطام، فوق أحلامنا التي وئدت حتى قبل أن تحبو، وهوائنا الذي امتلأ حدّ الاختناق برائحة الدمّ والبارود. أستذكر كلامها وأقول لنفسي: "يا لخيبة الدهر وعجز اللغة مليونية المفردات، نحن لم نعد نمتلك سيطرة حدودية خارج حدود أجسادنا، في هذا العالم، عالمنا، لا نحتاج إلى من يقرع بالمطرقة قشرة الواقع لإيقاظنا وكشفنا، فكل من يستيقظ منا يودّ ولو يغفو مجدداً، لأنّ الكابوس أقلّ وطأة من أثمان اليقظة".
عندما أنظر إلى دمشق لا أرى سوى ملامح متآكلة، مشوّهة للجدران والمباني والبنى التحتية والأسواق، ولأبسط مقوّمات الحياة، أشبه بقرية صغيرة لم تصل إليها يد التحديثات بعد، وجاءت الأحداث الأخيرة لتكون قطعة "البازل" الأخيرة في لوحة تشوّهها
أثماننا الباهظة التي ندفعها من جيوبنا المهترئة
أن تكون طرفاً في نزاع ما، يعني أن تصدر بحقّك حزمة من العقوبات تكبّدك الخسائر والأثمان الواجب عليك دفعها إتاوة، طالما أنّك لم تستطع أن تنأى بنفسك عن أعراضه الجانبية التي تشكّلت على مر الزمن، لتصبح في حالتنا عارضاً أساسياً لمرض قاتل لم يُكتشف له علاج، وأصحاب الشأن اتفقوا جميعهم على ألّا يتفقوا إلّا على استمراريته.
كنت أخال أن أعظم ثمن يمكن أن يدفع في الحرب "الأرواح". ثمن مكلف مرعب يُحضرُ فكرة الموت بحرفيتها وثقلها، لكنني كبرت وعشت الحرب وأيقنت كم كنت ساذجة في تصوّراتي، الثمن العظيم لا يكمن في الموت جسداً وروحاً، بل الموت روحاً وإبقاء الجسد على قيد الحياة. فقدت شغفي، فقدت طموحي الذي كان قد عمّر خلال سنين الحرب حتى شاخ، حُبستُ بكل كياني داخل قفص أرى من خلاله الحياة كصورة مقطعة بأعمدة طُولية، أعيش صراع المقاومة والبقاء أملاً في إيصال صخرتي لأعلى الجبل، قبل أن تسقط للمرة الألف فوق أحزاني المتراكمة.
فقدت هويتي التي كبرتُ وأنا أرسم معالمها الدمشقية بيدي. دمشق... آه على مدينة دمشق، تردّدها نفسي بوقع بطيء واستغراب ممزوج باستنكار حزين ترافقه أفكار عبثية: "هل ما تزال دمشق في عداد المُدن أصلاً؟ وهل ما تزال طُرقاتها فضاءات عبور جماعي آمن؟". عندما أنظر إلى دمشق لا أرى سوى ملامح متآكلة، مشوّهة للجدران والمباني والبنى التحتية والأسواق، ولأبسط مقوّمات الحياة، أشبه بقرية صغيرة لم تصل إليها يد التحديثات بعد، وجاءت الأحداث الأخيرة لتكون قطعة "البازل" الأخيرة في لوحة تشوّهها.
تنهيدة طويلة من تعب التفكير، ألجأ بعدها إلى مهربي المعتاد، أخلع نظاراتي الطبية طمعاً بأن تخفّ دقة وضوح الواقع من حولي، أرتدي سماعاتي وأختار أغنية لأم كلثوم وأرفع الصوت عالياً عالياً، علّني أخادع نفسي ولو لنصف ساعة فقط خلال اليوم، أعود فيها لزمن الحب والرقص والغُنى والانغماس في عيش المعاني بكل ما أوتيت من حياة، على أطلال دمشق وأحلامي المنسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...