المشهد الأول، بيروت- إلى بلد مشمس
جلسة مع الأصدقاء. نعمل سوياً في مكان قهوة، ويبحثون عن فيزا للعمل في الخارج في وقت الفراغ غير المتاح: "إسبانيا… يمكن هي أفضل مكان لنعيش فيه برّا. بتشبه لبنان، شعبها يحب الفرح ومناخها لطيف علينا. منقدر نبني روتين جديد بعيداً عن هون. يمكن ما تكون أفضل مكان للعمل، بس عنّا خيار فيزا العمل عن بعد. منعيش هونيك.ومنزور لبنان بس يروق الوضع".
أسمع الحديث. أكمل عملي وكأنني لا أعلم أننا نستبدل الخوف من قصف آخر بالقرب منا بالبحث عن مخرج.
أفكّر وأنا أمشي في بيروت المتناقضة: الجميع عليه أن يبدأ من الصفر وأن يشعر بالوحدة. الجميع عليه أن يحارب حتى النفس الأخير للقليل مما تبقّى من الحياة، للحصول على البديهيات. الجميع يبكي ليلاً، أو يغادره النوم أرقاً. الجميع يبصقه بيته، ويغلق أمامه العالم أبوابه.
المشهد الثاني، باريس- نبقى في باريس
جلسة مع صديقتي المقربة، نشرب كأس اللقاء بعد أن غادرت منذ عام لأنها شعرت بأن البلاد ترفضها قبلنا: "تعي على أوروبا. منعيش هون، قريبين من بعض. منشوف بعضنا ثلاث مرات بالسنة على الأقل. منخفّف من وطأة ألم السكن في بيروت على الأقل، وبتبني مستقبل منيح هون".
أعود إلى بيروت بعدها وأحمل ثقل البعد عنها، أفكر في ما قالته لي، أحزن أنها كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على من تحب، وأنني لا أشارك معها لحظات فرحها.
الجميع عليه أن يبدأ من الصفر وأن يشعر بالوحدة. الجميع عليه أن يحارب حتى النفس الأخير للقليل مما تبقّى من الحياة، للحصول على البديهيات. الجميع يبكي ليلاً، أو يغادره النوم أرقاً. الجميع يبصقه بيته، ويغلق أمامه العالم أبوابه
خلف ثقوب الحزن في الطائرة التي تغط قرب مناطق القصف في بيروت، أجد مكاناً للفرح بأن صديقتي خرجت من هذا المكان القاتل، وكأن الخروج والنجاة هو بنفسه إنجاز. أطمئن نفسي بأنني سأرحل أيضاً، قريباً جداً. بطريقة ما، هم سهّلوا علي وجع الوداع، فيقومون به مرة واحدة.
المشهد الثاني، البقاع- إلى رومانيا
جلسة مع أصدقاء كنا نخطط لحضور فرحهم في الصيف القادم. نحتفل بشكل متواضع من زواج صديقتي المفاجئ والسريع، ونتحدّث عن خطتها المستقبلية للهجرة مع زوجها إلى رومانيا: "يمكن نقدر نعيش هونيك، منبني عمل متواضع ومنعيش.. يمكن منزور بعض بس تجي على أوروبا إذا جيتي شي نهار".
تتكرّر مشاعر الفرح بنجاتها، وأنها وجدت خطة تلائمها، وأعود إلى بيروت من طريق "ضهر البيدر" التي تربط البقاع ببيروت، وتقصفها إسرائيل أحياناً، لكنني أثق بشكل ما، أنها لن تقصف قرب سيارتي الليلة.
المشهد الثالث، بيروت- إلى أي مكان
جلسة مع صديقي. يشعر بالألفة عندما أعود من البقاع إلى بيروت بسلام. لم يبق سوانا هنا، فقد رحل أصدقاؤنا المشتركون لخارج بيروت أو خارج لبنان مؤقتاً. هرب من قصف بيروت قليلاً وعاد: "رجعت على بيروت شوي. صحيح أنو بسمع أصوات القصف أكثر هون، بس برتاح كون ببيتي الخاص أكثر. ع فكرة، لازم نفلّ من هالبلد ماكسيموم السنة الجايي. بروح بدرس بأي مكان... بدّي بعّد عن هالمكان القاتل، لازم نفل قبل ما ترجع أزمة ثانية قريباً..".
أهز برأسي: "طبعاً! رح نفلّ قريباً انشالله.. جرّب على أي بلد..". يكمل صديقي عملية البحث عن جامعات ليست مكلفة جداً، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع فيها أن يرحل دون أن يطلب من شركات العالم الغربي قبوله و"رعايته" ومنحه فيزا للعمل، مع أنه من أكثر الناس المهنيين الذين أعرفهم.
أحمل ثقل المحادثة، فأنا أيضاً أستاء يومياً عندما أرى جملة "من شروط الوظيفة أنه عليه أن يكون لديك إجازة للعمل في البلد المشار عليه"، في آخر كل إعلان للعمل بالخارج، إلا أنهم كتبوا في مكان آخر إنهم لا يميزون الإثنية أو اللون أو الجنس أو الجنسية. أضحك، واضغط على زر "إلغاء الإستمارة".
الجميع عليه أن يبرهن على أنه إنسان، يستحق العيش والعمل بكرامة، و أحقية اختيار البلد المفضّل الذي يريد العيش فيه. الجميع يستحق ألا يودع بيته أو منزل أجداده في البقاع، أو الجنوب، أو بيروت.
الجميع يستحق قليلاً من الرفق، والسهولة، و قدرة سماع أصوات هادئة مزعجة دون الارتعاش خوفاً.
المشهد الرابع: بيروت- إلى مكان مجهول
زيارة إلى مخيمات النازحين في بيروت، هم من ودّعوا الكثير من البيوت الدافئة بسرعة فائقة وهربوا منها في ليال مظلمة: "ما عاد عنّا أي مكان نروح عليه. تركنا بيتنا بالجنوب.. كان بيت حلو كتير. وما لقينا مكان نروح عليه. زعلانين وتبهدلنا كتير، بس رح نرجع بإذن الله".
تتمسّك المرأة الحديدية بأمل العودة إلى منزلها الجنوبي. هي التي لا تعلم متى ستعود، لكنها تعلم بشكل ما أنها ستعود إلى ألفة منزلها قريباً. تعزمنا على شرب القهوة اللبنانية وتعتذر عن تواضع المكان. نشكرها ونرحل.
أحمل ثقل حزنها العميق وكبريائها الملفت، وألتفّ حول نفسي من العار. لا أعلم كيف يمكنني أن أخفّف عنها أياً من هذا الألم، وأن أمنحها قليلاً من الهدوء و السلام.
أستكثر رفاهية النوم على فراشي، رفاهية الذي لا زلت أملكه، وأخاف من اختفائه في أي لحظة، فإسرائيل تضرب الأبنية عشوائياً كل يوم. من يعلم ماذا ستقصف غداً؟
أعود إلى منزلي في بيروت، واستحم بخجل. أختبئ من شدّة عجزي، من تكرار النمط نفسه في هذا البلد كل فترة.
أستكثر رفاهية النوم على فراشي، رفاهية الذي لا زلت أملكه، وأخاف من اختفائه في أي لحظة، فإسرائيل تضرب الأبنية عشوائياً كل يوم. من يعلم ماذا ستقصف غداً؟
المشهد الخامس: البقاع - إلى بلد في المقلب الآخر من العالم
وهو المشهد الأقسى، في البقاع الذي تقصفه إسرائيل عشوائياً أيضاً. نجلس على الشرفة مع صديقتي وزوجها ووالدتي، إنها الجلسة الأخيرة قبل أن يغادروا إلى بلد بعيد جداً إلى وقت غير معروف.
"ما عاد عنا خيار تاني، لازم نبلّش من الصفر هونيك، نروح نبني شغل. كل أعمالنا هون فشلت. كنا حابين نجيب طفل هون ونكبر معه بهالبلد، بس الدولة سرقت مصرياتنا الي كانوا بالبنك، وكل ما نحاول نبني شي هون، بتجي مأساة جديدة..". يبرّرون لوالدتي رحيلهم المفاجئ، فتردّ بأنهم لن يعودوا قريباً، تماماً كما رحل أقربائها بعد الحرب الأهلية ولم يعودوا يوماً.
نتمنى أن يصبح أطفالنا أصدقاء مقرّبين دون مجهود كما أصبحنا نحن. نتمنى ألا يكرهوا زيارة الصديقة المفضلة للماما والاضطرار على "مصاحبة" أبنائها.
نولع "سيجارة تصبحون على خير" (هكذا يصفها زوج صديقتي كل مرة قبل أن تنتهي زيارتهم لي)، لكنها سيجارة مختلفة هذه المرة، نعلم أنها الأخيرة، فنقوم بالانتظار أكثر حتى تحترق. لا نرغب في إطفائها، فهي فعلاً "سيجارة تصبحون على خير".
تنتهي السيجارة، نودّع بعضنا على الباب. توصيهم والدتي بالعودة مع طفل في المرة الثانية، هي التي تقول ذلك لهم في كل مرة تراهم. بالعادة، يضحكون لها: "كيف منربّي ولادنا بهالبلد التعبان؟ طولي بالك علينا يا تانت".
هذه المرة لم يضحكوا. بكت أمي وهي تعيد الوصية نفسها وتتذكّر أن من رحل إلى مكان بعيد سابقاً لم يعد. وعدوها بطفلين بعد العودة. بكوا كثيراً، وبشدة. بكينا كثيراً... وبشدة.
إنها صديقتي الأقرب منذ أيام الدراسة حين كنا أطفالاً. أشعر بأنني في البيت في كل مرّة أراها فيها. نجلس دائماً ونعود بالذكريات إلى مشاغبات المدرسة، ونضحك، نضحك كثيراً وبشدة. إنها أكثر من يضحكني.
كيف أعيش دون زيارة أصدقائي مرة في الأسبوع؟ كيف أكمل أسبوعي دون أمل لقاء الأحبة بعد انتهاء أسبوع العمل المرهق؟ كيف يخلق طفل جديد قريب من قلبي، بعيداً عني؟
ابنة أخي تعيش أيضاً في الغربة. لماذا تتعلم يومياً شيئاً جديداً بعيداً عنا؟ إنها تكبر في سلام، بعيداً عن أصوات القصف المرعبة.
أفرح انني لا أخاف عليها من تروما هذه الحرب.
المشهد السادس: بيروت- ليس إلى مكان
هي الصديقة الوحيدة التي تردّد أنها لن ترحل إلى مكان، على الرغم من ترومايات بيروت التي نشاركها: " لوين بدي روح؟ خبريني. وين في بحر حلو مثل بحرنا، وشمس بتجي كل كم شهر مثل شمسنا؟".
على الرغم من رحيل كل أصدقائها، تختار البقاء هنا. لا تتخيل حياة دون زيارة البحر كل أسبوع، وتحزن لكونها لا تستطع التلذّذ حتى في هذا الخيار "البسيط".
أستمد منها بعض الأمل أو تعزية نفس من بقي هنا. هي فعلاً تقول إن كل شيء سيمرّ، مثلما مرّ على أهلنا وأجدادنا.
المشهد الأخير، بيروت- إلى مكان قريب عليهم
أغادر إلى منزلي بعد السيجارة الأخيرة مع صديقتي وزوجها. أشعل سيجارتي وأكمل بكاء لم أستطع مشاركته مع كل هذه الأصدقاء.
أكتب لهم بضع رسائل لطيفة، أشارك صوري معهم على الانستغرام التافه. مجرد محاولة للتعبير.
أكتب الكثير، لكني لا أكتب أنني حزينة لأنني لن أراهم في وقت قريب.
في اليوم التالي، أمشي في بيروت. إنها فارغة.
فرغت شوارع بيروت من الدفء، والاحتواء، والجلسات العشوائية. قلّت فيها المنازل الدافئة والعقول المطمئّنة. صوت الزنانة يرافقني: "مش رح يسمعوا أصحابي هالصوت برّا، مش رح يخافوا من أصوات المفرقعات النارية وجدارات الصوت، مش رح يحسّوا بعجز تام، بأنو العالم حواليه غيمة قلق دايمة".
مرّت كل هذه المشاهد عليّ في أسبوع واحد. لن أرى أحلام أصدقائي تتحقق بسهولة. أرتعب من فكرة عدم رؤيتهم عندما أشتاق لهم. فإحدى جماليات بلدنا القليلة هي أننا نستطيع رؤية أصدقائنا كلما رغبنا بذلك. الجميع كان يبعد 10 دقائق على أقل وساعة على على الأقصى، وموجود، ويضع جلسات الأصدقاء في سلم الأولويات.
أما الآن فالجميع تائه وحزين.
داخلي غضب واستسلام متناقضان. أغضب على حال من فرغ منزله، ودمّرت بلدته بالكامل في الجنوب والبقاع ولبنان. أبكي على اشتباه مشاهد الهروب هذه. على عجزنا من التحكم بأي شيء إذا بقينا في هذا المكان.
علينا أن نعيد الكرّة مجدداً مع أطفالنا يوماً ما إن لم نخرج الآن. أعلم أن البلد سيبقى ثقيلاً على دماغنا وقلوبنا وإن رحلنا الى عالم أهدأ، ثم أعزّي نفسي: ربما، سيكون الوجع أقل مع ابتعاد الجسد عن الأرض.
علينا أن نعيد الكرّة مجدّداً مع أطفالنا يوماً ما إن لم نخرج الآن. أعلم أن البلد سيبقى ثقيلاً على دماغنا وقلوبنا وإن رحلنا الى عالم أهدأ، ثم أعزّي نفسي: ربما، سيكون الوجع أقل مع ابتعاد الجسد عن الأرض
وكأن أحدهم أعطانا نظرة إلى المستقبل، فرأينا خاتمة قصص أهالينا. وفهمنا أننا سنعيش ثقل قلوبهم نفسه إذا سمحنا للبلاد بأن تمتصّنا مجدداً. نختار الهروب بسرعة قبل أن تكبر الحفرة التي تبتلعنا.
ترفض البلاد أن تعانقنا. تبتلعنا، ثم تبصقنا، فنحاول الهروب ضمن مهلة التخدير القصيرة، قبل أن تحاول ابتلاعنا مرة أخرى.
وفيما نهرب، نحاول أن نستعيد ما كنا نملكه بطرق مختلفة: نبحث عن شمس مشابهة، نقنع صديقاً قريباً بالهجرة إلى بلادنا في الغربة، نأخذ توصيات أمهاتنا بجدية أكثر، أو نوضّب كيلو من بنّ القهوة اللبنانية في حقيبة الهروب.
لا أعرف كيف أقسّم نفسي أجزاء وأرحل الى مكان قريب منهم كلهم، أو كيف تنتهي الحلقة الأخيرة من مسلسل هروب أصدقائي… لا أعرف إن كان لبنان سيبقى دافئاً بعد هروبنا جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا