شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
غرباء يشدّون على يديك في الشارع

غرباء يشدّون على يديك في الشارع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 29 أكتوبر 202412:02 م

فجر يوم السبت، استيقظت وقلبي يخفق بقوة، وجسدي يرتجف، شعري مبلّل، وإحساس ساحق بالرعب يخنقني. كان أول ردة فعل لي هو أن أمسك بهاتفي، أتفقّد بقلق أين سقط الصاروخ. "وين الضربة": أهمس. لكن أثناء تفحص وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام، لم أجد شيئاً، لا ضربة، ولا قنابل صوتية، فقط صمت. لم يكن الواقع ما أيقظني هذه المرة، بل كان كابوساً. لقد اجتاحت الحرب أحلامي، ما جعل الخط الفاصل بين أهوال اليقظة وسلام النوم يتلاشى.

لقد تغيرت أحوالنا أثناء الحرب، فلم تعد الأيام تمرّ كما كانت في السابق؛ بل تتمدّد وتنكمش بشكل غير متوقع، وكأنها محاصرة في نوع خاص من الفوضى. دقيقة واحدة تشعر وكأنها أبدية، تنتظر الانفجار القادم، الخبر القادم، أو الرسالة التالية من شخص عزيز. ومع ذلك، تمر ساعات وأيام كاملة دون أن نلاحظها، يبتلعها ضباب الخوف. كيف يمكن قياس الوقت في الحرب، عندما تحمل كل ثانية ثقل مستقبل مجهول؟

لقد تغيرت أحوالنا أثناء الحرب، فلم تعد الأيام تمرّ كما كانت في السابق؛ بل تتمدّد وتنكمش بشكل غير متوقع، وكأنها محاصرة في نوع خاص من الفوضى

من الغريب كيف تجعلك الحرب تتذكر السلام. ليس الذكريات الكبيرة، بل اللحظات الصغيرة والتفاصيل الصغيرة التي كانت تبدو لك غير مهمة، صوت الكؤوس وهي تتصادم في حانة لم تعد تفتح أبوابها، نسيم بارد خلال نزهة مسائية، وجوه الغرباء الذين كانوا يبتسمون لك في الشارع. تعود إليّ هذه الذكريات دون دعوة، حية ومؤلمة، تذكرني بما كان وما قد لا يعود أبداً. أحياناً، تؤلم هذه الذكريات أكثر من أصوات القنابل نفسها.

وتلك الأصوات، يا لتلك الأصوات. كل ضجيج ضخم يحمل معه احتمالية للدمار. صفير الرياح على النوافذ، صوت باب يغلق بعنف في الممرّ، حتى الهمهمة البعيدة لحركة المرور، كلها أصبحت جزءاً من معزوفة الحرب. في بعض الليالي، تكون صفارات سيارات الإسعاف أو صوت الانفجارات ما يوقظني من النوم، وفي ليالٍ أخرى، يكون الصمت. ذلك الصمت الثقيل الذي يضغط على صدري. لكن في الآونة الأخيرة، كانت الكوابيس، تلك التي تخلط بين الواقع وتجعلك تشعر أن الاستيقاظ مخيف بقدر البقاء نائماً.

هناك خدر غريب يأتي مع كل هذا. في البداية، كان الخوف حاداً، يخترق كل لحظة، ويشعل أعصابي. لكن الآن الأمر مختلف، كأن الخوف استقر في عظامي وأصبح جزءاً مني. لا زلت أشعر به، لكنه أصبح باهتاً وكأنه مكتوم. نسيت كيف يكون الشعور بأن لا أخاف.

حتى عندما نكون محاطين بالناس، هناك وحدة لا تحتمل في الحرب

ومع ذلك، وسط هذا الخدر، هناك شعور بالذنب. ذنب هادئ، زاحف، يهمس: لماذا أنت؟ لماذا نجوت أنا، على الأقل حتى الآن، بينما لم ينجُ الآخرون؟ تسقط القنابل، تنهار المباني، يموت الناس، لكنني هنا، لا زلت أكتب، لا زلت أتنفس. إنه نوع من الذنب الذي لا معنى له، وهذا بالضبط ما يجعله ثقيلاً، لا يوجد سبب له، ولا منطق، ومع ذلك، هو موجود، يثقل كل نفس أتنفسه.

أفكر كثيراً في أولئك الذين تمّ تهجيرهم، أُجبروا على ترك ليس فقط منازلهم، بل حياتهم وأحلامهم. التقيت بهم في وسط بيروت، المكان الذي كان يعجّ بالحياة وأصبح الآن يأوي من فقدوا كل شيء. تحدثت معهم، سمعت قصصهم، لكنني لم أستطع سوى فهم جزء بسيط من آلامهم. حتى عندما نكون محاطين بالناس، هناك وحدة لا تحتمل في الحرب، وكأن كل شخص يعيش في عالمه الخاص من المعاناة، معزولاً بصدمته، حتى ونحن نمرّ جميعاً بها معاً.

ولكن وسط هذه الفوضى، هناك لحظات عابرة من الفرح، ثوانٍ صغيرة وثمينة تذكرني بأنني ما زلت على قيد الحياة. صوت صديق على الهاتف، طعم طبق محبب، نكتة تجعلني أضحك، حتى لو للحظة قصيرة. هذه اللحظات لا تمحو الألم، لكنها تعمل كمرساة صغيرة، تسحبني بعيداً عن الحافة عندما أشعر أن كل شيء ينزلق من بين يدي.

التقيت بهم في وسط بيروت، المكان الذي كان يعجّ بالحياة وأصبح الآن يأوي من فقدوا كل شيء. تحدثت معهم، سمعت قصصهم، لكنني لم أستطع سوى فهم جزء بسيط من آلامهم

ثم تأتي الأحلام، عندما يأتي النوم أخيراً. في أحلامي تأخذ الحرب نوعاً مختلفاً من القوة، تقتحم آخر مساحة آمنة كنت أظن أنها لي. القنابل لا تسقط فقط من السماء، بل تنفجر أيضاً من داخل عقلي. أحلم بالانفجارات، وبالجري في شوارع كنت أعرفها يوماً، وبوجوه لا أستطيع تمييزها تماماً لكنها مألوفة بطريقة ما، وكأنها أصداء من زمن آخر. أصبحت الحرب جزءاً من لاوعيي، وحتى في أحلامي، لا أستطيع الهروب منها.

لا أزال أستيقظ بعد ساعات قليلة من النوم المضطرب، وعيناي منتفختان، أرتدي ملابسي على عجل، أتناول قهوتي، وأتوجه إلى العمل. وفي كل يوم، أواجه ثقل المسؤوليات التي تنسجها الحرب، حرب لا تعرف الرحمة، مدمرة ومهيمنة. في عيون المجتمعات المهمشة التي أعمل معها أرى العجز، وفي أصواتهم أسمع أصداء الخوف. الحرب تجرّدهم من كل شيء، تاركة وراءها مجرد ظلال لما كان.

لكن ربما الجزء الأصعب هو محاولة الحفاظ على شعور بالاستمرارية، النضال للبقاء وكأن الأمور لم تنهار بالكامل. لا زلت أعمل، أكتب، وأحاول أن أعيش تفاصيل حياة تبدو بعيدة ومنفصلة. لكن كل فعل أشعر وكأنه مثقل، وكأنني أتظاهر بأنني شخص كنت عليه قبل الحرب، شخص لست متأكدة إن كنت سأكونه مجدداً.

ليست فقط الدمار المادي هو ما تخلفه الحرب وراءها، بل هي الطريقة التي تكسر بها الزمن، وتشوه الذاكرة، وتحفر في روحك. تصبح جزءاً منك بطرق لا تستطيع الكلمات التعبير عنها بالكامل، وبطرق تجعلك تتغير إلى الأبد. حتى عندما تتوقف القنابل، تبقى أصداؤها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image