باغتتنا صباح نهار الأربعاء، في الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، أخبار عن نشر الناطق الرّسميّ للجيش الاسرائيلي "أفيخاي أدرعي" لتحذيرات بوجوب إخلاء شوارع وأحياء وأسواق في مدينة صور، وبدأت المواقع الإخبارية بعدها بنقل مقاطع تصويريّة للدفاع المدني في المدينة بينما يجوبها ويدعو المواطنين - الذين أصرّوا على البقاء في مدينتهم رغم العمليات العسكريّة- إلى الإخلاء الفوري عبر مكبّرات الصوت، ويقفل مداخل المدينة مانعاً الدخول إليها. ما هي إلّا ساعة، حتّى بدأت مشاهد احتراق الشوارع والأحياء المطبوعة في ذاكرتنا بالانتشار.
تكرّر السيناريو نفسه نهار الاثنين الذي تلاه. ظهرت أوامر الإخلاء مرّة أخرى عبر الشاشات، تنكبنا مجدّداً مشاهدة احتراق شوارع مدينتنا التي أحببناها. مدينتنا التي طالما نبضت بالحياة والحبّ قبل الحرب، شاهدناها تتحطّم، وتتحطّم معها الأيّام والصور والذكريات.
أسقطت مشاهد الدمار في صور حصون قلبي. صور صخرة تربض فوق جراح الزمان، ونحن أبناء القرى الملاصقة لها، نحبّها كما لو أنّ المدن لم تخلق قبلها، ولم توجد بعدها الأسواق والأزقّة والشّطآن والبحار. فلا بحر كبحرها ولا ليل كليلها، ولا ناس كناسها، ولا لذّة لطعام شعبيّ يؤكل إلّا في أزقّتها، وحدها ملكة على عرش الطعام الشّعبيّ، فلا تنازعها مدينةٌ على "طبق فول" أو "عروس فتايل" أو "فلافل" أو "شاورما".
أسقطت مشاهد الدمار في صور حصون قلبي. صور صخرة تربض فوق جراح الزمان، ونحن أبناء القرى الملاصقة لها، نحبّها كما لو أنّ المدن لم تخلق قبلها، ولم توجد بعدها الأسواق والأزقّة والشّطآن والبحار
صور هي أعيادنا، أولى محاولات التسكّع والاستقلاليّة، وباكورة مغامراتنا العاطفيّة، وبداية عهدنا بالمكتبات، مميزّة بكل ما فيها، حتّى في برجوازيّة أثريائها، ولهجتهم التي ترفض إمالة الحروف، فتجمع تأثير هواء المدن بلهجة أهل فلسطين، وصيّاديها الذين يتعرّون قبل نهاية شباط، فتمعن في تلوين أجسادهم الشمس. صور وحدها التي تقبل الجميع، وحدها المدينة التي تتلاصق فيها الصبايا بسراويلهنّ القصيرة وشواديرهنّ فلا يجد أحد في المنظر شيئاً غريباً.
يسافر قلبي الآن في رحلة عبر الزمن إلى صور. أين هو الآن؟ هل أرافق أبي لمكتبة "كاعين" فنشتري مجلّة "العربي الصّغير"، وأسأله عن سبب تسمية "شارع السنغال" بهذا الاسم؟ أم نتناول المعجّنات المحشوّة بالزبيب من "أفران بحر" ونقرّر تسميتها "رزان"؟ هل نمشي قرب الميناء ونشمّ رائحة السمك، ونعجب لرؤية سوّاح أجانب رغم كلّ الخراب؟ أو يكون صباح نهار أحد، نأكل فيه الفول المدمّس في السوق لدى "مزرعاني" أو "بارود"؟ أو ظهراً نأكل فيه أطيب شاورما من "سمحات" أو فتايل من "محفوظ"؟ قد نكون في الأسبوع الذي يسبق العيد، فنتبع خطوات أمّي لتشتري لنا أثواب العيد التي تفاخر أنهّا ابتاعتها من "قدادو" أو "هاشم"، أو ثاني صباحات العيد التي يصحبنا بها أبي إلى كرمس "كشّاف الجرّاح"؟ أو يكون نهار سبت غير بعيد، تشرب فيه أختي القهوة على "شاطئ الجمل"، وتقول كالعادة إنّها تريد أن تستمرّ هذه اللحظة للأبد، أو عصر صيف حارق نسبح فيه في منطقة الخيم، فأصرّ أنا كلّ مرة بأن تسمية كلّ المنطقة باسم "شاطئ الإليسا" سيكون أكثر شاعريّة؟
صور هي أعيادنا، أولى محاولات التسكّع والاستقلاليّة، وباكورة مغامراتنا العاطفيّة، وبداية عهدنا بالمكتبات، صور وحدها التي تقبل الجميع، وحدها المدينة التي تتلاصق فيها الصبايا بسراويلهنّ القصيرة وشواديرهنّ، فلا يجد أحد في المنظر شيئاً غريباً
لعلّ الزمن يتوّقف عند آخر سنيّ مراهقتنا ونحن نتجوّل الآن في "الحارة المسيحيّة"، أو نتكلّم بصوت عال قرب "المدرسة الجعفريّة"، تباغتنا الحاجة لاستعمال المرحاض، فندخل إلى المسجد في الحارة القديمة، ونسمع تأنيباً لعدم التزامنا بآدابه، أو نتجوّل في الآثار مقابل ألفي ليرة، ونقيم وقفة تضامنيّة ساخرة نطالب بها بالحريّة من أجل "جورج عبدالله".
قد تعجب صديقتي من طول قامة الفينيقييّن، ظانّةً أن هذه الأعمدة ليست سوى مقابر طوليّة، فنسخر طويلاً من سذاجتها، أو يكون الخميس، فتدلّلني صديقتي وتدعوني إلى غداء دسم في أحد مطاعم شارع "الجامعة الإسلامية"، أو قد يكون منتصف ليل نُغضب فيه أمي بسبب ذهابنا لتناول "شاورما أبو ديب"، أو موسم مباريات كرة القدم التي نشاهدها عند "شعيب" المعروف بأشهى منقوشة صاج. تنتهي المحاكاة في رأسي وأستفيق على السؤال المرعب: هل كلّ ذلك صار بعيداً يا صور، هل الفرح والأعياد صارت ذكريات؟
لا لن يكون كل ذلك مجرّد ذكريات. فيا صور، يا حبيبة القلب، وحدك أنت بلاد البشارة، وحدك تجلسين آخر الأرض وأولّ السماء، ليت الصّباغ الأرجواني لم يستحل دماً، أيّتها العتيقة بعمر الزمان، والأنيقة دون مساحيق تبّرج، قفي وانتظرينا أيتّها الجميلة، فلا الاسكندر ظلّ ولا نبوخذّ نصّر كسرك، قفي فوحدك الصخرة وكلّ الغزاة ملحٌ يذوب بماء بحرك. أما أنا فـ "إن بعّدني الزمان رح ضلّني حبّك، وإن نسيتني الأيّام على طول بحبّك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...