للحمامات التركية مكانة مهمة في الثقافة التركية، إذ استضافت العديد من الأحداث الاجتماعية والثقافية المهمة عبر التاريخ، ولذلك هي ليست أمكنةً للاغتسال فحسب، بل هي أيضاً جزء مهم من الحياة الاجتماعية والأحداث الثقافية والسياسية وحتى العلمية.
في آسيا الوسطى، وفي العصر الذي كانت الحياة البدوية فيه هي أسلوب الحياة الأساسي للسكان، كانت ينابيع المياه الساخنة الطبيعية مكاناً لتجمّع الناس للاستحمام وتبادل المعلومات. ومع انتشار الإسلام بين هذه الشعوب، أصبحت النظافة أكثر أهميةً، وبدأت الحمامات تعمل كأحد العناصر المهمة في أداء المراسيم الدينية.
ونظراً إلى الشريعة الإسلامية، شُيّدت مبانٍ خُصصت للاغتسال، وسُمّيت بالحمامات، وبالطبع هذه المباني بُنيت في أنحاء البلدان الإسلامية كافة، ومنها تركيا، حيث يمكن القول إن الحمام التركي في ذلك الوقت كان مختلفاً عن الحمامات في سائر البلدان، وكانت له أوجه تشابه كثيرة مع الحمامات الرومانية واليونانية.
ومنذ العصور القديمة، كانت الحمامات التركية مكاناً لاستعادة نشاط الجسم والنفس، ومكاناً لأداء طقوس التطهر في الإسلام، والوصول إلى السكينة والسلام، ولهذا السبب كانت هندسة الحمامات في غاية الأهمية.
عمارة الحمامات التركية
تتكون الحمامات التركية بشكل عام من ثلاثة أجزاء رئيسية:
أولاً المدخل، أو غرفة تبديل الملابس، وهنا يقضي العملاء وقتاً للراحة والاستعداد للاستحمام، إذ كان يتم بناء الرفوف أو الخزانات في هذا الجزء من الحمام، حيث يمكن للناس وضع ملابسهم فيه، وبعدما يسخّن العملاء أجسادهم عن طريق الاستلقاء على المنصات الحجرية، يصبحون جاهزين لدخول الجزء الرئيسي من الحمام.
للحمامات التركية مكانة مهمة في الثقافة التركية، إذ استضافت العديد من الأحداث الاجتماعية والثقافية المهمة عبر التاريخ، ولذلك هي ليست أمكنةً للاغتسال فحسب، بل هي أيضاً جزء مهم من الحياة الاجتماعية والأحداث الثقافية والسياسية وحتى العلمية
الجزء الثاني من الحمام هي الغرفة الساخنة، وفي هذا الجزء توجد عادةً أحواض رخامية كبيرة يتم حولها غسل الجسم وتنظيفه بالصابون والرغوة.
والجزء الثالث الذي يسمّى بالغرفة الباردة، هو الجزء الأخير في الحمامات التركية، حيث بعد تنظيف الجسم بالبخار والماء الساخن، يستلقي فيه العملاء ويأخذون جلسة تدليك بالزيوت العشبية المعطرة، ما يساعدهم على استعادة طاقتهم وتقليل الضغوط الناتجة عن الحياة اليومية.
حمام ساخن أو قاعة اجتماعات أو مستشفى؟
قبل أن يقوم الناس ببناء قاعة منفصلة لكل احتفال، كانت الحمامات هي المكان الذي يضمّ معظم الأنشطة العامة. على سبيل المثال، كان الحمام مكاناً مرغوباً لإقامة حفلات الزفاف، حيث اعتادت أسر وأقارب العروس والعريس التجمع في الحمام، وغالباً ما كان حفل الزفاف يقام فيه، أو كانت النساء الحوامل يذهبن إليه للولادة، حيث تجتمع النساء الأخريات حول الحامل، فتضع مولودها ويحتفلن بولادة الطفل في الحمام نفسه لأيام عدة.
كما كانت الحمامات، أماكن مهمةً للتجمعات الفنية، إذ استغل الفنانون زيارات الناس المتكررة للحمامات، وعرضوا أعمالهم فيها، كما أن الشعراء كانوا يلقون قصائدهم هناك، وكانت الحمامات ملتقى لشخصيات أدبية مهمة في العصر العثماني. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان مشاهير الشعراء والكتاب يجتمعون في الحمام، ويناقشون أعمالهم، ويشكلون حلقاتهم الأدبية.
والسلاطين العثمانيون، لم يكونوا بمنأى عن سائر الأتراك، حيث كانوا يزورون الحمامات بانتظام، ويلتقون هناك بكبار البلاط ومسؤوليه، وخلال هذه الزيارات والاجتماعات كانوا يتناقشون ويتفاوضون مع مستشاريهم حول قضايا مهمة في البلاد.
خلال الحرب، تحولت الحمامات إلى ملاذات آمنة أو مستشفيات، بحيث كانت تتم رعاية الجنود الجرحى فيها. كما وقعت في الحمامات العديد من جرائم القتل والمعارك التي انتهت بأحداث كارثية.
وفي أثناء شهر رمضان، كانت الحمامات تستضيف المهرجانات، وخلال هذه الحفلات كان يجتمع الناس، وتقام لهم الألعاب والعروض المختلفة.
الثورات والمؤامرات
ويقال إن هذه الحمامات كانت مصدر العديد من الثورات في البلاط العثماني. ففي القرن التاسع عشر، التقى السلطان العثماني محمود الثاني، بالناس في الحمامات، وناقشهم حول كيفية إصلاح الدولة، واتخذ معهم قرارات مصيريةً، وكانت هذه اللقاءات المهمة، هي التي تحدد شؤون البلاد واحتياجات الشعب، ولهذا السبب كان لاجتماعات الملك والشعب في الحمام دور حاسم في مصير الشعب والدولة.
كانت السلطانة (الملكة) كوسم، زوجة السلطان أحمد الأول، شخصيةً سياسيةً قويةً وفعالةً في صراعات القصر، كما كانت قادرةً على إضعاف أعدائها وتوجيه أبنائها إلى العرش وإدارة المنافسة مع أعضاء البلاط الآخرين. استخدمت السلطانة كوسم جميع المواقع الإستراتيجية لتحقيق أهدافها، ومن بين هذه الأماكن، كان المكان الأكثر أهميةً لعقد اجتماعاتها حمامات القرن السادس عشر، حيث كانت تلتقي بنساء البلاط، وذلك لترشدهنّ وتضع لهنّ الخطط والإستراتيجيات.
سليم... السلطان المفقود
وبحسب الأسطورة الشعبية، هناك قصص حول اغتيال السلطان العثماني سليمان القانوني في الحمام. وعلى الرغم من أن هذه الرواية مشكوك فيها تاريخياً، إلا أن انتشار مثل هذه الشائعات في الحمام يدلّ على أهمية الحمام في الإمبراطورية العثمانية. على سبيل المثال، أثيرت شائعات مماثلة حول السلطان سليم الثالث، حيث يقال إن السلطان رتّب مواعيده الرومانسية في الحمام، والتقى بالعديد من النساء هناك. وبعد أحد هذه اللقاءات لم يعد السلطان إلى القصر، وظل مفقوداً لفترة طويلة، حتى تم العثور عليه جثةً هامدةً.
على الرغم من أن الحمامات التركية ليس لها دور اجتماعي كبير اليوم، إلا أنها لا تزال من أهم الأماكن لتنشيط الجسم والنفس، ولا يزال عدد كبير منها يعمل وفق الطرائق التقليدية نفسها التي كانت سائدةً في العصر العثماني
هذه القصة أيضاً ليس فيها يقين تاريخي، لكنها قصة مشهورة بين الشعب التركي. وبالطبع في عهد السلطان سليم، كانت هناك اهتمامات وترتيبات جدية لحماية الملك في الحمام، لا سيما خلال الفترة التي شهدت المزيد من الاضطرابات السياسية في الدولة العثمانية، حيث وقعت في الحمامات العديد من محاولات اغتيال الملوك والأمراء.
تزايدت أهمية الحمامات في هذه الفترة، حيث يعتقد المؤرخون أنه في نهاية العصر العثماني عُقدت اجتماعات سياسية مهمة فيها، ويمكن القول إن الحمامات حملت العبء الاجتماعي لجميع الأماكن العامة، وشهدت جميع أنواع الأحداث التاريخية والاجتماعية، ولعل نهاية الدولة العثمانية تقررت في أحد الاجتماعات في حمام!
دور الحمامات التركية اليوم
على الرغم من أن الحمامات التركية ليس لها دور اجتماعي كبير اليوم، إلا أنها لا تزال من أهم الأماكن لتنشيط الجسم والنفس، ولا يزال عدد كبير منها يعمل وفق الطرائق التقليدية نفسها التي كانت سائدةً في العصر العثماني، إذ تُعدّ الهندسة المعمارية الجميلة والرائعة لبعضها بمثابة تذكير جيد بالدور المهم الذي لعبته هذه الحمامات خلال الإمبراطورية العثمانية.
ومن الحمامات المهمة التي لا تزال قائمةً في مدينة إسطنبول، حمام تشامبرليتاش (بُني عام 1584 وبناه المهندس المعماري سنان)، وحمام قلج علي باشا (بُني عام 1580 وبناه المهندس المعماري سنان)، وحمام آغا (1470)، وبالطبع بين هذه الحمامات الكثيرة، تجدر الإشارة إلى حمام غلطة سراي.
وهناك قصة غامضة حول بناء حمام غلطة سراي، إذ يقال إن السلطان بايزيد تجول في أحد الأيام في منطقة غلطة سراي الحالية في بياغلو في إسطنبول وانبهر بها، وفجأةً، صادف كوخاً كان يعيش فيه رجل عجوز معروف ومحترم يُدعى جول بابا. عند لقائه العجوز، سأله السلطان: "هل لديك أمنية أيها الرجل العجوز؟"، فأجاب جول بابا: "أريد أن يصبح كوخي هذا مدرسةً وحماماً كبيراً، تكون فيهما قباب وأعمدة وساحة جميلة لخدمة الناس لقرون عدة". حينها وعده السلطان بأنه سيحقق حلمه، وفي عام 1481 قام ببناء مدرسة ومجمع حمامات غلطة سراي في المكان نفسه، بالقرب من برج غلطة في إسطنبول.
ولا يزال مجمع مدارس وحمامات غلطة سراي أحد أهم الأماكن في إسطنبول، حتى يومنا هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون