عادةً تكون أدوار نجوم السينما والتليفزيون أمام الكاميرات هي محطة التأريخ الرئيسية لمسيرتهم والعامل الأساسي في شهرتهم. الأمر مختلف في حالة الفنان القدير حسن يوسف، الذي غاب هذا الأسبوع عن عمر يناهز التسعين، إذ كان حالةً استثنائيةً امتزجت فيها أدواره أمام الكاميرات بحياته الشخصية، وكذلك بما يُمكن أن نطلق عليها "عواصف التحوّلات" التي مر بها المجتمع المصري لنحو قرنٍ من الزمان، وخاصة في ما يتعلّق بـ"التديّن".
كمصريّ ولد عام 1934، قضى حسن يوسف فترة طفولته ومراهقته في أربعينيات القرن الماضي وأوائل خمسينياته، وهي فترة كانت ثرية للمجتمع المصري من حيث التأثر والاهتمام بالثقافة الغربية، وبداية موجات التعليم الأساسي المجاني.
الثورة ومثالياتها
تغيّرت التطلعات وارتفعت أكثر وأكثر بعد ثورة تموز/ يوليو عام 1952 وتحرّكت السينما المصرية في موازاة التغيرات السياسية في البلاد، مُبشِّرةً على شاشاتها بـ"جيل جديد" يؤمن بالاستقلال، ويسعى إلى تأسيس "بلد أفضل" للأجيال الجديدة. في الأثناء، كانت محطات انطلاق الممثل الشاب آنذاك حسن يوسف نحو الشهرة، هي أدوار مساعدة في أفلام كان من أشهرها "أنا حرة" عام 1959 و"في بيتنا رجل" عام 1961 وكلاهما عن أصل أدبي للمؤلِّف إحسان عبد القدوس.
كمصريّ ولد عام 1934، قضى حسن يوسف فترة طفولته ومراهقته في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، في فترة كانت ثريّة للمجتمع المصري من حيث الاهتمام بالثقافة الغربية والتركيز على الشأن السياسي، فكانت بدايته بأفلام مثل "أنا حرة" و"في بيتنا رجل" قبل أن تتقلّب مسيرته الفنيّة عدة مرات في اتجاهات شديدة التباين مدفوعةً بالتغيّرات المجتمعية
يسلّط "أنا حرة" على الارتباط القوي بين قضايا حرية المرأة و"الثورة"، وتنتهي أحداثه ببطلة تترك معاركها الشخصية الهادفة إلى الاستقلال عن سلطة الأسرة والمجتمع - والتي يتم التركيز عليها بقوة في بداية الفيلم - حتّى تشارك في تحقيق هدف أكبر وأسمى (من وجهة نظر صناع الفيلم) وهو مساندة "الثوّار" الذين يقاومون "الاحتلال".
أما "في بيتنا رجل"، فتدور أحداثه حول أسرة مصرية عادية لا شأن لها بالسياسة، تجبرها الظروف على إيواء شاب مصري يناضل ضد الاحتلال الإنكليزي، رغم فداحة هذه المخاطرة.
تبلورت بفضل هذه الأعمال وغيرها، هويّة فنية لحسن يوسف وقتها كانت معطياتها الشاب الجامعي البسيط المهذب المليء بالحماس والحيوية، الأقرب شكلاً وجسماً للشاب ورجل الشارع العادي مقارنة بنجوم الأجيال السابقة من أمثال فريد شوقي ورشدي أباظة وأحمد مظهر. وعلى الأغلب كانت هذه النقطة تكفل له فرصاً جيدة في أعمال درامية جادة، لولا التغيرات السياسية اللاحقة وانجذابه إلى الأفلام "الخفيفة".
في جميع الحالات توارت هذه الهويّة سريعاً أمام تركيبة "الشاب الشقي" التي لازمته كنجم في الأفلام الكوميدية والرومانسية.
مرحلة "النكسة"
غيّرت هزيمة مصر في حرب عام 1967، التي تُعرف بـ"النكسة"، والإحباطات التي أعقبتها المزاج العام في مصر، وبعد أن كانت الأنظمة السياسية هي الطرف الحريص على تحويل السينما لبوق لخطابها السياسي والاشتراكي، صارت أكثر حرصاً على توجيه دفة السينما بعيداً وشغل الناس بالترفيه لتخفيف حدة الانتقادات والتدقيق في النظام السياسي والبحث في أسباب الهزيمة وتداعياتها.
لذا، اتجه الإنتاج نحو أفلام الكوميديا والتسلية، وهو ما ازداد حين أصبح لبنان محطة إنتاج وتصوير العديد من الأفلام المصرية.
غيّرت "نكسة 1967" المزاج العام في مصر، وبعد أن كانت الأنظمة السياسية حريصة على تحويل السينما بوقاً لخطابها السياسي والاشتراكي، صارت أكثر حرصاً على توجيه السينما نحو شغل الناس بالترفيه، فراجت الأفلام الكوميدية والرومانسية، وقد استفاد حسن يوسف من هذا التوجّه وتبلورت أكثر وأكثر شخصية "الشاب الشقي" التي التصقت به حتّى بعد اعتزاله
استفاد حسن يوسف، كما العديد من نجوم جيله من هذا التوجّه، وبدأ مرحلة ذهبية من حيث عدد الأدوار السنوية، تبلورت فيها أكثر وأكثر تركيبة الشاب الشقي الذي يجيد اللعب والمقالب ومغازلة الجميلات، وشَكَّل ثنائيات ناجحة مع نجوم آخرين مثل نجم الكوميديا محمد عوض، والنجمة سعاد حسني والنجمة زبيدة ثروت والنجمة نادية لطفي.
رافقت هذه الصورة الذهنية حسن يوسف والتصقت بمشواره الفني إلى اليوم، حتّى أن العديد من وسائل الإعلام والقنوات اختزلت مسيرته فيها في المواد التي اقتطعتها من أعماله لتأبينِهِ لدى وفاته.
بالنظر إلى قائمة أفلام حسن يوسف المنشورة على موقع "السينما"، تؤكد العناوين أكثر وأكثر هذه الجزئية، مع التكرار الملحوظ لكلمات ومشتقات مثل (إجازة - الصيف - الشياطين - المغامرون - الأشقياء - الأصدقاء - الثلاثة - التلميذ - المراهقة - البنات - الحب - الغرام). وجميعها كلمات تسويقية تنقل بوضوح ومباشرة للمتفرّج التركيبة المنتظرة في هذه الأفلام التي تتضمن عادةً (شباب مرح على الشواطىء - جميلات يرتدين مايوهات - حوارات مليئة بالغزل - حبكة تدور حول الحب - مواقف ومآزق كوميدية - نهايات غرامية سعيدة).
الكثير من هذه الأفلام مسلٍ بالفعل، وبعضها صمد أمام اختبار الزمن بفضل كاريزما نجومها بالأساس، لكنها تظل حلقة ضمن عقد السبعينيات الذي يصنفه كثيرون على أنه العقد السينمائي الأضعف والأكثر سطحية للسينما المصرية خلال القرن المنصرم.
ورغم بعض محاولات حسن يوسف للخروج من هذه العباءة في أفلام مثل "الجبان والحب" الذي قام بإخراجه أيضاً عام 1975، يصعب النظر إلى اختياراته طوال العقد باعتبارها تحمل طموحاً حقيقياً، باستثناء الطموح إلى زيادة رصيده البنكي، إذ تعكس كلها مرحلة زمنية متخبّطة في حياة أغلب المصريين أيضاً، وسط طوفان من الأحداث الكبرى المتلاحقة كان أبرزها: حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ومن بعدها اتفاقية السلام مع إسرائيل، واحتجاجات عام 1977 التي عُرفت باسم "انتفاضة الخبز"، والانفتاح الاقتصادي بعد عقود من السياسات الاشتراكية، ومقاطعة الدول العربية لمصر بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل.
"الصحوة" وما أدراك ما "الصحوة"
إلى ذلك، تبقى فكر "الصحوة الإسلامية" العاصفة الأكبر التي شكّلت بصمة واضحة في مسيرة حسن يوسف وجمعته بباقي المصريين خلال فترة ثمانينيات القرن الماضي، وهو العقد الذي شهدت بداياته اعتزال زوجته الممثلة شمس البارودي التمثيل وارتداء الحجاب، وتصريحاته هو المتكرّرة حول ندمه على الكثير من أعماله، وتأثره بالشيخ محمد متولي الشعراوي وخطابه الديني على نحو خاص، وهو الشيخ نفسه الذي ساهم في هيمنة الأصولية الدينية على كثيرين في المجتمع المصري بكل طبقاته من منتصف السبعينيات حتى وفاته عام 1998.
حتى اليوم يرى كثيرون في توجه نجمة اشتهرت بجمالها وفتنتها وملابسها الجريئة على الشاشات مثل شمس البارودي الى الحجاب والاعتزال، كواحدة من أهم لحظات انتصار وهيمنة فكر "الصحوة الإسلامية"، لتنتهي الثمانينيات بالحجاب وهو الزي الذي ما يزال سائداً بين السيدات في مصر، وتراجع في الحريات الشخصية حتى اليوم بذرائع دينية.
الصحوة كمان وكمان
استمر حسن يوسف فنياً على أى حال رغم قلة أعماله بداية مرحلة "تدينه"، وظهر في أعمال سينمائية وتلفزيونية خلال ثمانينيات القرن الماضي كان أشهرها ليالي الحلمية، وحاول أن يجمع بين التمثيل وقناعاته الجديدة في مسلسلات دينية لم تحقق النجاح المرجو مثل مسلسل ابن ماجة القزويني عام 2001 قبل أن يحقق نجاحه التلفزيوني الأكبر في مسلسل يجسّد حياة الشيخ الشعراوي بعنوان إمام الدعاة عام 2003.
كانت صورة حسن يوسف وابنته مشهداً آخر مثيراً للجدل في حياته، تماماً كما كانت دليلاً آخر على أنه عاش ومات وكل مرحلة من مراحل عمره تعكس - ربما عن قصد أو غير قصد - العواصف والتغيّرات التي شهدها المجتمع المصري خلال عقدٍ من الزمن
ولأن "التدّين" كان محور الأضواء حول حسن يوسف وزوجته، شمس البارودي، على مدار عقود، كان ظهور ابنتهما ناريمان التي تخرّجت من كلية بيركبيك جامعة لندن، محور دهشة الكثيرين حسبما عبّروا على السوشيال ميديا منذ سنوات، كونها غير محجبة.
حسن يوسف مع ابنته ناريمان.
تحوّلت صورة عادية لأب مع ابنته إلى مثار جدل حول حقيقة إيمان حسن يوسف وشمس البارودي بالأفكار التي طالما عبّرا عنها علناً منذ "التزما دينياً"، حسبما وصف الفنان الراحل "تدّينهما" في لقاءات تلفزيونية عديدة. انتقد البعض دور الفنان المخضرم وزوجته المعتزلة في تلميع صورة شيخ مشهور بفتاويه المثيرة للجدل حول المرأة، وتحديداً لبسها وعملها وأدوارها في الأسرة والمجتمع، بما في ذلك الدور الذي لعباه عن قصد أو غير قصد في إقناع الكثيرات بوجوب ارتداء الحجاب، بينما تركا ابنتهما حرّةً في خياراتها الشخصية، كما ينبغي لجميع النساء والفتيات.
على جانب آخر، اعتبر فريق من المتفاعلين مع الصورة أنها ترمز إلى جيل جديد (ممثّل في الابنة) خرج - أو لا يزال يكافح للخروج - من هيمنه هذه الأفكار.
على كلٍ، كانت الصورة مشهداً آخر مثيراً للجدل في حياة الفنان الذي لم يترك تراثاً سينمائياً دسماً أو بصمة فنية قوية ككثير من أبناء جيله، رغم الشعبية الواسعة التي حققتها أدواره "الخفيفة" وموهبته الفنية التي برهنت عليها قلة من الأعمال "الجادة"، تماماً كما كانت دليلاً آخر على أنه عاش ومات وكل مرحلة من مراحل حياته تعكس - ربما عن قصد أو غير قصد - العواصف والتغيّرات التي شهدها المجتمع المصري طوال قرابة قرنٍ من الزمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 11 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 13 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 23 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.