شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من الوهابية إلى الشعراوي... تحوّلات التدين الريفي في مصر؟

من الوهابية إلى الشعراوي... تحوّلات التدين الريفي في مصر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني

الأحد 20 أكتوبر 202412:51 م

يعد الدين بكل مؤسساته الرسمية أحد أجهزة الدولة الأيديولوجية، فيقوم عبر توظيفه وتشغيله كآلية للضبط والسيطرة، وإضفاء الشرعية وتبرير وتسويغ السياسات والممارسات، إلى حد إضفاء قداسة دينية عليها استنادًا إلى احتكار النص الديني وتأويله أيضًا.

يكون الخطاب الديني في هذا السياق خطابًا مسكونًا بالاستسلام، يطالب المؤمنين بالإذعان والخضوع، ويحاول إسدال غطاء من الإبهام على الدين بمجمله، وعبر هذا الخطاب يتم التأكيد أو التشديد على نصوص دينية بعينها، وإهمال نصوص أخرى في عملية اختيار انتقائي وتحكمي مغرض، يُخرج النصوص من سياقاتها التاريخية ويبسط سلطانها على الواقع الراهن.

وتتمثل مهمة هذا التدين في العمل الدائم لأجل ترسيخ وتقديس أنساق القيم والمعايير السائدة التي تضمن بقاء ودوام علاقات السيطرة على المستويين الاقتصادي والسياسي، وهى القيم التي تضمن بالضرورة انضباط المجتمع بكامله، فلقد باتت فئة رجال الدين مجرد شريحة اجتماعية، وظيفتها الوحيدة الإنتاج الأيديولوجي التبريري عمومًا، وبات مطلب معظم رجال الدين استعادة وظيفتهم السياسية، بحجة أن "الدين سياسة" حتى ولو كانت الدولة ذاتها دنيوية، وضعية، إذ أنهم لا يمانعون في إضفاء المقدس الديني على السياسي الدنيوي، ويري عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم أن بعض المعتقدات الدينية قد تحمل في طياتها معارضة دنيوية ضمنيًا قد تظهر في الحياة المدنية أو خارجها.

طقوس دينية أم فلكلور ريفي؟ 

يمارس الفلاح المصري الكثير من الطقوس الدينية، فهو يؤمن بأمور قد يعتقد البعض بأنها من الخرافات، لكنها في اعتقاده سلوك ديني خالص، فما يعتبره البعض معتقدات شعبية ومن الفولكلور الريفي، ينظر إليها الريفيون على أنها طقوس دينية بغض النظر عن أنها شعبية أو غير شعبية.  

ما يعتبره البعض مجرد موروثات شعبية من الفولكلور الريفي، ينظر إليها من الريفيين على أنها طقوس دينية، وبغض النظر عن كونها شعبية أو غير شعبية.  

فالدين يعتبر المصدر الأساسي في حياة الريفيين حتى في أبسط التفاصيل، انطلاقًا من نمط الإنتاج الزراعي الذي رسّخ الأفكار والسلوكيات التي عبرت عنه، مثل التصرف كجماعات وعائلات واحدة أثناء الزراعة، ومن ثم تدرج هذا الفعل إلى درجات متفاوتة من التطفل الاجتماعي، وبما أن الله هو من يزرع ويثمر الأرض فبالتالي تم إسقاط هذه الفكرة على الأنساق والعلاقات الاجتماعية.

وبناءً عليه فإن مظاهر الطقوس الدينية عند الفلاحين من مظاهر تدين (سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي)، ومكانة المرأة عند الفلاحين في ضوء الدين، هي إشكاليات طفت على سطح واقع وحياة المصريين، وحولتها إلى أزمة ضخمة حملت في طياتها التحريض والكراهية والتدخل في الحياة الشخصية وترسيخ مبدأ الاستباحة.

اجتماع الوهابية مع التدين الريفي 

لقد أصبح الدين وما يترتب عليه من مظاهر تدين في القرية المصرية –وفي المدن أيضًا بفعل الهيمنة الثقافية السلطوية وتغلغل النمط الريفي وتداخله مع المدينة-؛ أصبح أداة استباحة وأكل حقوق الطرف الأضعف، خصوصًا المرأة، ترافق هذه "السُلطة" سلوكيات اجتماعية قميئة، مثل التطفل والنظرة المعادية إلى الآخر نظرة، لكن هذه التركيبة لا يمكن أن تكون بمعزل عن نمط وطبيعة النشاط الاقتصادي المتمثل بالأساس في الزراعة، ذلك النشاط الجماعي في الريف، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة خاصًة في فترة السبعينات أثناء حكم الرئيس الراحل أنور السادات المعروفة بقوانين الانفتاح الاقتصادي، والتي أدت إلى خراب شامل للمجتمع على أصعدة مختلفة أهمها التفاوت الطبقي الكبير وظهور ما يسمى بالشرائح الطفيلية التي تتغذى على فائض القيمة بلا أي قيمة انتاجية أو مضافة حقيقية، ما جعل الفلاح المصري يتطلع إلى كسب العيش من أسهل الطرق غير نشاطه الأصلي ومن ضمنها بل وأبرزها هي السفر إلى دول الخليج حيث نعيم النفط والغاز.

ساهم السفر -تحديدًا إلى السعودية- التي تخضع للثقافة المتزمتة التي اصطبغت بالصبغة الوهابية الحنبلية في تغيير العقول وبوصلة التدين إلى نسخة أكثر تطرفًا وحدية، تضاف وتتراكم على المخزون الديني المرتبط بالأرض الزراعية لدى الفلاح المصري، وظهرت آثار ذلك بعد العودة في مظاهر عدة منها الملبس وطريقة الكلام وإرجاع أسباب كل شئ إلى الدين.

هذا يجرنا للحديث عن النظرة للطرف الأضعف وهي المرأة، فضًلا عن الإيمان الشديد بالحسد إذا تعرض لخسارة مادية أو تعرض لمشكلة، فسرعان ما يبرر بعداء الحاسدين له، بالإضافة إلى الكارثة الكبرى وهي استباحة الغير التي تعتبر تطور للتطفل، فهي من سمات التدين الريفي الذي يمكن أن يجعل مجموعة أهالي يقتحمون منزلًا لمجرد سماعهم تواجد امرأة مع رجل وهما غير متزوجين في شقة واحدة، بل ويعتدون بالضرب عليهما وتصنيع فضيحة في القرية كلها، وتبرير إيذاء من يُتصور أنه ضد الدين والتحريض عليه.

ثنائية المرأة الضعيفةو الرجل القوي في الريف 

يفضل كثير من الريفيين الذكر على الأنثى، ويجعلونها أقل منه في الحقوق، ويضعونها في مكانة أقل منذ بدايتها، وترجع المكانة المتدنية للمرأة الريفية إلى كثير من الأفكار التقليدية السائدة عن قصور طبيعة المرأة ودورها في المجتمع، فدور المرأة خصوصًا الريفية هو دور التابعة الضعيفة أمام الرجل المتحكم القوي، ويعود هذا الوضع في كثير من الأحيان –بجانب الأسباب الاقتصادية والسياسية- إلى تصورات دينية خاطئة تراكمت على مر العصور، أدّت إلى انعدام التكافؤ والمساواة بين الرجل والمرأة، تلك التصورات تغذيها نصوص دينية قد نظرت إلى المرأة على أنها مخلوق أدنى مرتبة ومنزلة من الرجل، وتظهر آثارها جليًة في المسائل الاجتماعية، مثل مسألة الميراث والتي ميزت الرجل تمييزًا كبيرًا بحقه بأن يأخذ ضعف المرأة بلا أي مبرر أو مسوغ حقيقي. 

قوانين الانفتاح الاقتصادي خلال حكم السادات، أدت إلى ظهور ما يسمى بالشرائح الطفيلية التي تتغذى على فائض القيمة بلا أي قيمة انتاجية أو مضافة حقيقية، ما جعل الفلاح المصري يتطلع إلى كسب العيش من طرق أسهل من نشاطه الأصلي ومن ضمنها السفر إلى دول الخليج

كذلك مسألة الزواج والعلاقة الجنسية والحميمية بين الزوجين تحت الحكم الديني بأن الرجال قوامون على النساء، فضلًا عن جريمة ختان الإناث المنافية للقانون والأخلاق والضمير؛ لأنها تتعمد الإيذاء البدني والنفسي للفتاة.

على أن الدافع الحقيقي ليس نصرة الدين وتعاليمه بل الرغبة الدفينة والمعلنة في أكل حقوق النساء والإمعان في الهيمنة والتحكم من أجل ضمان استمرار عملية أكل الحقوق، وإبراز الأمر على أنه تطبيق للشرع، خصوصًا في مسائل تعدد الزوجات، وأكل الميراث، وحرمان المرأة من استكمال التعليم، وتزويج القاصرات، بغية كسب مزيد من المال أو انتشال الأسرة من الفقر على حساب جسد ونفس وحياة الفتيات القاصرات، علمًا بأن كثيرات من النساء الريفيات يُعِلنَ أسراً بأكملها، لأسباب مختلفة، كعجز الزوج أو مرضه أو البطالة.

الشعراوي وترويج فكرة الاستباحة

عندما تنتج أي بيئة مثل تلك الأفكار فلا بد من أن تجد من يجسدها ليسهل وصولها وتمريرها باعتبارها ثقافة شعبية؛ لتخلق صورة ذهنية جديدة، وبمرور السنين تترسخ في العقل الجمعي للمجتمع على أنها هي الصورة الصحيحة للدين وللتدين، وما سواها هو بدعة في دين الله ومحاولة لنشر الفتن والفحشاء وتقويض ثوابت الشرع.

الأمر لا يقف عند تمرير ونشر فكرة الاستباحة فحسب، بل يتعلق بالشكل والطريقة التي تتعلق بنشرها، والشكل والطريقة لا بد أن يكونا أقرب للعقلية الريفية التي لا تفهم التعقيد أو التقعر في الدين، فكان ظهور محمد متولي الشعراوي من قلب الريف المصري والذي تخرج من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر ليصبح كما قيل عنه مفسرًا للقرآن، رغم الاختلاف الشديد بين المفسر الذي يعتمد على اللغة العربية ومفرداتها ليوضح معانيها وبين المفسر الذي يعلم السياقات التاريخية لتفسير النص الديني.

خصص التلفزيون المصري للشعراوي مساحة أسبوعية منذ منتصف السبعينات، وهي الفترة الذهبية للأصولية الدينية التي تمكنت من ناصية المجتمع المصري بدءًا من الريف، وعرف هذا البرنامج باسم "خواطر الشعراوي"، هذا إلى جانب استضافته في البرامج الأخرى واللقاءات المختلفة، إلا أنه استغل ذلك في الترويج لأفكار الاستباحة والتحريض ضد المختلفين في الدين، ليس هذا فحسب بل ضد المرأة وتارك الصلاة الذي أفتى بقتله علنًا دون محاسبة أو مساءلة قانونية، وضد من يقوم بعمليات نقل أعضاء أو زرع شبكية تحت زعم تغيير خلقة الله، وكانت طريقته أحد اسرار الانبهار به حيث جلسته المعهودة على كرسي يدنو من الأرض أشبه بالمصطبة الريفية وجلسات الشاي الليلية وسط حشد من المريدين والأتباع والمهاويس كأنهم تحت تأثير مخدر يؤيدون ويؤمنون على كل كلمة يقولها بتكبير وتهليل وحمد لله.

على سبيل المثال لا الحصر قال الشعراوي ذات مرة أن المرأة هي عبارة عن مصرف لشهوات الرجل فإذا ما وجد في نفسه هيجانًا جنسيًا وهو خارج منزله فلا بد أن تتجهز المرأة لكي تصرف شهوة رجلها الهائج فهي خلقت لذلك، وهذه نظرة تتفق ونظرة الريف إلى المرأة، لذا تجد تكراراً لأحاديث من نوعية لعن الملائكة للمرأة التي تقصر في أدائها الجنسي مع زوجها، أو تمتنع عن الفراش، ليكمل الشعراوي الصورة في عقول البسطاء بأنها مجرد مصرف شهوة. 

خصص التلفزيون المصري للشعراوي مساحة أسبوعية منذ منتصف السبعينات، إلا أنه استغل ذلك في الترويج لأفكار الاستباحة والتحريض ضد المختلفين في الدين 

ما سبق جعل من الشعراوي "نجم شباك التدين" في نسخته الريفية فمجد انعكاسًا لذلك سيكولوجيا واجتماعيًا في مشاهد الحياة العامة، فصوره ملصقة على وسائل النقل والمواصلات العامة والخاصة، أو على محلات عصير القصب، ليظهر وجهه على العصارات، أو يظهر صوته في أحد الأدعية على خلفية لحن تتر موسيقي شهير لأحد المسلسلات المصرية الكلاسيكية كنغمة للأسانسيرات، أو نغمات وكول تون للهواتف المحمولة؛ بهذا تترسخ تلك الصورة الذهنية كأنه نبي جديد أرسل في هذا الزمان، لدرجة دفعت بالكثيرين لاقتراح إنشاء ضريح له بوصفه ولي من أولياء الله على غرار الصوفية.

قصارى القول هو أنه نتيجة تفاعلات متداخلة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا شكلت معًا نسقًا ثقافيًا؛ أُنتجت بعض الأنماط المنغلقة والرجعية من التدين، والتي تسببت بدورها بتحويل المجتمع إلى جمر ونار وتسلط ورغبات محمومة في قهر وإخضاع الآخر.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image