وجدتُ نفسي هنا، في هذه الشقة الهادئة والحزينة في آنٍ واحد، قذفتني الحرب النفسية إليها، وانا أبحثُ عن الأمان في أمكنةٍ لا أمان فيها، هنا قرب الزهور التي تحاولُ أن تبشّر بجمالٍ ما، بجمالٍ يحاربُ وحش البشاعة، أفي مثل هذا الخوف تتفتح زهرة؟ وهذا الضوء الخفيف مثل الأمل الخفيف داخلنا، ونحن نسأل السؤال الدائم الملتصق باللسان كاللعاب: متى تنتهي الحرب؟
تتفتح الزهرة في الحوض الأوّل، في ساعات الليل الأخيرة، هذا ما تركتهُ الذاكرة لي، كل تفاصيل هذه الحرب معلّقة في المخيّلة، في القلب وفي الوجدان، في كل كلمة تكتب، وفي كل خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، لا يُصدّق الذي يحدث لنا، كلُّنا ضحايا التفكير الطويل في التفاصيل.
قذفني القلق إلى هذه الغرفة، القلق من البقاء في دائرة الاستهداف بالصواب أو بالخطأ، أشعل الضوء كي أرى نفسي التي تعانقُ نفسها الوحيدة. الغرفة تعانقني أنا والقلق والفكرة، لا مفرُّ من الهروب من الاحتمال القادم، حتى من الخبر القادم الذي يشبه القذيفة القادمة، ربّما يصيب، وربّما يُخطىء، مثل قصة اليوم مع الرسالة التي أتت للمرأة على هاتفها المحمول، يطلبون منها إخلاء منزلها، فأخبرت أصحاب البناية في المخيّم بإخلاء البناية قبل أن تقصف، فأصبح الناس جميعهم في الشوارع، قلقين من القصف القادم، وبعد قليلٍ، انتبه الجميع بأنّ الرسالة هي للمرأة الجنوبية، وقد أخلت منزلها ونزحت إلى مخيّم نهر البارد مؤخراً، وقد قذفهم القلق جميهم للشارع، فعادوا إلى البناية بعد أن تأكّدوا بأنّهم لن يستهدفوا بعد، فنضحك وسط الخوف المستمرّ، نضحك في الفرح المفخخ بالمفاجئات التي لم تظهر بعد، ونضحك كأنّنا لم نضحك من قبل، ولم يسأل أحدٌ منّا: متى يأتي الغد؟ في كلّ ساعةٍ يتغيّر المشهد، لا شيء يبقى على حالهِ في الحرب، لا المزاج ولا الشهواتُ ولا القدرة على حرية الاختيار، فالعدوّ الإسرائيلي يخوض حرب الإبادة ضدّ البشر والحجر، فكيف نعرف ما شكلُ هذا الغد؟ ولا يوجد خطوط حمراء أمامهُ، لا في لبنان ولا في غزة.
، لا شيء يبقى على حالهِ في الحرب، لا المزاج ولا الشهواتُ ولا القدرة على حرية الاختيار، فالعدوّ الإسرائيلي يخوض حرب الإبادة ضدّ البشر والحجر، فكيف نعرف ما شكلُ هذا الغد؟
الشقّة التي كانت تتسع للجميع، أصبحت مكاناً لإيوائي، وهذه الزهور البريئة كانت تفوح منها رائحةُ الذي فقدناهُ في الاستهداف الأخير، شهيداً تفوحُ منهُ رائحة المسك والمهمّة النبيلة والروايات الثلاث، لا أريدُ أن أتكلّم مع الوردة من الشرفة، كي لا أرى ملامحهُ أمامي، لا أتذكر ولا أنسى.
نهار الأحد، الأذن ليست في عطلة عن صوت الطائرات، لا يوجد هدنة ليومٍ واحدٍ يستريح العدوّ فيها من الحرب؟ أصواتٌ تعلو وتهبط، تدخلُ الأصواتُ الغريبة بزقزقة العصافير، موسيقى تحت الحرب، تفاؤلٌ ممزوجٌ بالتشاؤم، أحنُّ إلى قبلةٍ عابرةٍ أنسى فيها ما حدث أو سيحدث، كما أحتاجُ هدنةً من أجل قبلةٍ وسط هذا الجمود الحذر في حربٍ شرسةٍ.
لو كانت معي هنا الآن، لقلتُ لها: أتسمحين لي أن أحبّكِ في الحرب كي أنسى؟ أنا وحيدٌ هنا مثل مقاتلٍ ملّ الإنتظار في خندقٍ هشٍّ، وبندقيّتي عيناكِ، وقوّتي يداكِ، فاسمحي لي أنتِ بهدنةٍ كي أنتصرَ، فنحنُ في يوم عطلةٍ، ألا يحقُّ لنا أن ننام على سريرٍ من حرير؟ ليسقط خوفي وخوفك، قبل أن تمرّ الطائرات فوقنا، قبل أن ينقضوا علينا الأعداء بسلاح المسيّرات الخفيّ، ويقولون: "وجدناهُ مع حبيبته، فلا يحقُّ لهُ أن يحبّ ويقاتلُ في آنٍ واحد، يجب أن يكون إمّا وحيداً وخائفاً وإمّا ميّتاً وخائفاً، كي نطمئنّ على سلامة الحرب ضدّ هذا العدوّ العاشق".
ومثلما يقولون الصهاينة: "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميّت"، فعليّ أن أكون ميّتاً كي أكون جيّداً بنظريّة العدو. النوم غيرُ مسموحٍ، والجلوس على طاولة الكتابة غيرُ مسموحٍ، والتجوّل غيرُ مسموحٍ، والأكلُ والشربُ والقراءة، كُلّها في السجن غير مسموحةٍ. لكي تكون جيّداً عليك أن تموت، وحدكَ في الغرفة المقفلة التي قد تحوّلها القذيفة إلى طحينٍ ناعمٍ يصلحُ للخبز من أجل فطير الصهيونية، والمخيّم يتربع فوق بعضه البعض، أصبح اليوم يتربع في المخيّم ثلاثة مخيّمات جنوبية أخرى. يعني اللاجىء ضيف النازح والنازح ضيف اللاجىء، والنازح ضيف النازح من بيتهِ نتيجة الحرب النفسية التي يعيشها، وتستمرُّ شبكة النزوح واللجوء إلى ننتصر إن شاء الله.
أنظرُ من الشرفة على هذه المشاهد المتناقضة التي تغزو مخيّلتي، متى تنتهي الحرب؟ ومتى ننتصر؟ ما زال الطريق الساحلي المؤدّي إلى المدارس يفيضُ بالنازحين، بينما كان هذا الطريق الهادىء لا تسمع فيه سوى صوت الموج، وأقولُ لنفسي: "من حسن حظ النازح أنّ شرفات المدارس تطلُّ على البحر، فلهُ التأمُّل في الأزرق، ولهُ التفكير في العودة إلى بيتهِ المدمّر في الجنوب".
النفس تزدادُ صفاءً يوماً بعد يومٍ، بعد حربٍ نفسيّةٍ متواصلة تتبع الحرب العسكريّة، الناس هُنا تتهلوس بكلّ شيءٍ، صوت السيّارة بصوت الطائرة، رؤية الدخان من بعيدٍ، الناس تسألُ: هل هذا الدخان ناتجٌ عن قصفٍ أم دخان الحريق؟ وكلّما لمعت نجمةً، قالوا: مسيّرة، وصوت المفرقعات الناريّة، يقولون: مَن المستهدف؟
وأصدّقُ أنّ للحرب وسائلها العديدة، ومنها: الحرب النفسية، لأنّ القصف قد يدخلُ إلى النفسِ كي يترك ندوباً لا تمحى معالمها بانتهاء القصف. إنّها ندوبٌ تتسلل إلى الذاكرة، وتستقرُّ في المخيّلة، وتبصرُ في الندوبِ ندوباً أخرى، للندوبِ أثر الجرح المتجدّد، وللنفس قصصها في الحرب.
الناس هنا تتهلوس بكلّ شيء، صوت السيّارة بصوت الطائرة، رؤية الدخان من بعيدٍ، الناس تسألُ: هل هذا الدخان ناتج عن قصف أم دخان الحريق؟ وكلّما لمعت نجمة، قالوا: مسيّرة، وصوت المفرقعات الناريّة، يقولون: من المستهدف؟
تتصل بي أمّي في ساعة الظهر: "أين أنت؟"، "في نواحي البيت": أجيب، "حين تأتي إلى مأوى النزوح، لا تدخلُ من طريق السوق"، قلتُ: "لماذا؟"، قالت: "هناكَ دخانٌ كثيفٌ على الطريق ناتجٌ عن صراعٍ بين الرجل والمستأجر، فخرج الرجل وأخرج معهُ أغراض المستأجر من برادٍ وغسّالة، وأحرقهما في الشارع، فهبّت النار العالية والدخان، فظنناهُ استهداف جديدٌ في المخيّم، وربّما، تشتعل أكثر"، قلتُ: "سأسلك الطريق ّالساحليّ لكي أتفادى جميع الاحتمالات".
لا أعرفُ لماذا ابتعدتُ عن الحدث الذي أعرفُ سببهُ، ربّما لأنّ مخيّلتي امتلأت بالاحتمالات الصائبة، ومن أثر الفواجع، قلتُ: الطريق الساحليّ أقل خطراً، لكنّهُ يخدشُ العواطفَ قرب البحر والنازحين الجدد، تذكّرتُ قصيدة محمود درويش: "وأنت تعودُ إلى البيت بيتك، فكّرْ بغيركَ، ثمّة مَن لم يجدْ حيّزاً للمنام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع