"المستحقّون للرثاء حقاً هم الذين اغتربوا... وخلفوا وراءهم حباً"؛ بهذه العبارة المؤثرة للشاعر الفرنسي رينييه سولي برودوم، المأخوذة من ديوانه "منفى"، يصدّر الروائي العراقي نجم والي في روايته "عمّتي الرومانتيكية"، حيث يخلق حالة من التأمل في مفهوم الاغتراب النفسي والاجتماعي؛ تأمّل لا تعكسه الرواية كغربةٍ جغرافية فحسب، بل أيضاً كمنفى داخلي يغوص في أعماق النفس البشرية.
عن الاغتراب النفسي والاجتماعي
وظف والي شخصية "عمّة الراوي" التي تعيش قصة حب رومانسي عاصف، على نحوٍ جعلها شخصيةً معقدة تعكس تناقضات الإنسان بين الرغبة في الهروب من الواقع القاسي والاصطدام بمصير لا يُمكن تغييره. في ظل الظروف القاسية التي تعيشها، تسعى العمة إلى الهروب إلى عالم الرومانسية، لكنها تدرك في نهاية المطاف أنها مقيدة بأحلام غير قابلة للتحقيق.
وظف الكاتب شخصية "عمّة الراوي" التي تعيش قصة حبّ رومانسي عاصف، على نحوٍ جعلها شخصية معقدة تعكس تناقضات الإنسان بين الرغبة في الهروب من الواقع القاسي والاصطدام بمصير لا يُمكن تغيير
تجسد العمة، من خلال محاولتها الهروب من الواقع عبر الرومانسية، الاغترابَ النفسي الذي تعيشه. في الرواية، نرى كيف تظل العمة مرتبطة بالماضي، عاجزة عن التعامل مع الحاضر الذي تحكمه الحروب والصراعات. هي تحاول أن تجد في الحب ملاذاً، لكنه يتحول إلى جزء من مأساتها. يتضح هذا بشكل خاص في أحد المشاهد حيث توزع العمة الشايَ على صديقاتها في محل الزهور، قائلة: "كل ما نريده هو الحب، ثم تغافلنا الحرب". هذه العبارة البسيطة تكشف عن حالة الاغتراب التي تعيشها؛ فهي تدرك أن الحلم بالحياة الرومانسية بات مستحيلاً في ظل الحروب التي تمزق حياتها.
الحبُّ كوسيلة للهروب
العلاقة التي تجمع العمة بإبراهيم، حبيبها الأول، تسلط الضوء على تعمق الاغتراب في شخصيتها. هذه العلاقة لم تكن مجرد قصة حب فاشلة، بل تجربة عمّقت إحساسها بالفقدان والخذلان، ما جعلها تعيش في حالة دائمة من التردد بين الماضي والحاضر. إبراهيم لا يمثل فقط الحبَّ الضائع، بل هو تجسيد للفرص المهدورة والهروب الذي لم يكتمل.
الصراع بين الفرد والنظام
هكذا ينأى نجم والي بالحب في روايته "عمتي الرومانتيكية" عن نطاق العلاقات الشخصية، ليجعله ضمن سياق اجتماعي وسياسي معقد تشكلت فيه الأحداث. الحروب التي عصفت بالعراق خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لم تكن مجرد خلفية للعمل، بل كانت قوةً رئيسية تؤثر على مجرى حياة الشخصيات. هذه الحروب تدمّر العلاقات وتجعل من الحب صراعاً آخر يُضاف إلى قائمة الصراعات التي يعيشها الناس في ظل الأنظمة القمعية.
يظهر ذلك بوضوح في شخصية خال إبراهيم، الذي يجسد النظام العسكري القمعي، فالسلطة التي يمثلها الخال لا تفرض فقط نظاماً قاسياً على حياة إبراهيم، بل تجعل من الصعب على أي شخصية في الرواية تحقيق أحلامها أو رغباتها.
الحروب التي عصفت بالعراق خلال الثمانينيات والتسعينيات لم تكن مجرد خلفية للعمل، بل كانت قوةً رئيسية تؤثر على مجرى حياة الشخصيات.
من خلال العلاقة بين العمة وإبراهيم، نرى كيف يصبح الحب، في ظل هذا السياق، محاولة يائسة للهروب من واقع خانق. إبراهيم، الذي كان يوماً ما أملاً للعمة في الهروب من الحياة الصعبة، ينتهي به الأمر كجزء من النظام الذي يحكم حياتها ويقيد حريتها. في النهاية، تصبح العلاقة بينهما معركة ضد القمع، لكنها معركة محكومة بالفشل منذ البداية.
هذا الفشل لا يعكس فقط خسارة العمة لحبها، بل يمثل رمزاً لفقدان الهوية في مجتمع يعيش تحت وطأة القمع. استخدام اسم "العمة" بدلاً من اسمها الحقيقي في الرواية يشير إلى تهميش الأفراد وتقليص هوياتهم. العمة، التي كانت في طفولتها تلعب وتبني المنازل ثم تهدمها، تتحول إلى شخصية تعيش على هامش المجتمع، غير قادرة على تحقيق ذاتها. الهوية الضائعة تظهر أيضاً في رفضها للزواج التقليدي وعيشها وحيدةً مع أمها. اسمها المفقود يمثل الهوية التي ضاعت في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي فرضتها الحرب.
الزهور التي ترتبط بالعمة في الرواية تمثل ذكريات وأحلاماً لم تتحقق، وهي استعارة لما فُقد من حياتها بسبب الاغتراب والحروب. الزهور في هذا السياق ليست مجرد عنصر جمالي، بل هي رمز للحياة التي تلاشت والأمل الذي ضاع.
عندما نقارن رواية "عمتي الرومانتيكية" بأعمال أخرى تناقش الاغتراب النفسي والاجتماعي، على غرار رواية "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، نجد أن هناك تقاطعات مهمة في كيفية معالجة الحب والاغتراب في ظل الأزمات السياسية بين الروايتين، فبالرغم من اختلاف العملين فقد اشتركا باستعانتهما بشخصيات محاصرة بتجاربها الشخصية والاجتماعية، غير قادرة على الهروب من الماضي. الحب يصبح وسيلة للهروب، لكنه في النهاية لا يوفر الخلاص المنشود، بل إن هناك عبارة شهيرة لماركيز يقول فيها إنّ "الأمر ليس ما يحدث لك، بل كيف تتفاعل معه"، نجدها تنطبق بألم وبشكل كبير على العمة في رواية والي، إذ كلّما تقدمنا في الرواية نراها تتفاعل مع خيبات الحب، بحيث كلما انغمست في الرومانسية بجنون، كلما وجدت نفسها أمام واقع لا يمكن تجاوزه حتى بالجنون.
عكست البنية السردية للرواية تعقيدَ الشخصيات وتداخل الحكايات، فتقسيم الرواية إلى أربعة أقسام رئيسية: "في خبر رجالها"، "في خبر صديقاتها"، "في خبر زهور عمتي"، و"في خبر الحب وتبعاته"، يعزز من فهمنا لشخصية العمة وتعقيدات حياتها. هذا التقسيم لا يعبر فقط عن مراحل حياتها، بل يكشف عن تشابك بين قصص الآخرين وحكاياتها الشخصية. كل قسم يضيف عمقاً جديداً للشخصية ويظهر تداخل الماضي بالحاضر، والواقع بالخيال.
في الرواية، نرى كيف تظل العمة مرتبطة بالماضي، عاجزة عن التعامل مع الحاضر الذي تحكمه الحروب والصراعات. هي تحاول أن تجد في الحب ملاذاً، لكنه يتحول إلى جزء من مأساتها
وهنا لا بدّ أن نعرج على العلاقة بين الراوي والعمة، التي تكشف عن أن الحكاية ليست مجرد سرد لتجربة العمة، بل هي أيضاً قصة الراوي الذي يتورط في حكاية لم يكن شاهداً على أغلب تفاصيلها. هذا التداخل يجعل من السرد مشتركاً، حيث يتقاطع مصير الراوي مع العمة في مراحل مختلفة من حياتهما، مما يخلق إحساساً بأن هذه ليست حكاية فردية بل حكاية جماعية تعبر عن تجارب متعددة، جميعها تظهر أن الحب في زمن القمع والحروب ليس مجرد علاقة عاطفية، بل هو محاولة يائسة للبحث عن السلام الداخلي في عالم مضطرب: "إنه أمر محزن بالفعل أن نتورط نحن بالذات في ورطة كهذه... كل ما نريده هو الحب، ثم تغافلنا الحرب".
تظهر العلاقة بين العمة وإبراهيم بشكل خاص كأحد المحاور الرئيسية في الرواية، فهي ليست فقط قصة حب انتهت بالفشل، بل هي تمثيل لصراع أكبر بين الفرد والنظام القمعي. إبراهيم، الذي كان يوماً أملاً للعمة، ينتهي به الأمر جزءًا من النظام الذي يسيطر على حياتها. هذا التناقض يعكس كيف أن كل حب في الرواية محكوم بالفشل، ليس بسبب الشخصيات وحدها، بل بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحكم مصائرهم.
نقد اجتماعي من منظور نسوي
الرواية تقدم أيضاً نقداً اجتماعياً قوياً من منظور نسوي. العمة ترفض القيودَ الاجتماعية التي تحكم النساء، وتحاول التمردَ على الأعراف التقليدية التي تحكمها، لكنها تجد نفسها في النهاية محاصرةً بوحدتها واغترابها الداخلي. في مجتمع يعاني من قيود اجتماعية صارمة، تصبح العمة رمزاً للمرأة التي تحاول التحرر، لكنها تجد نفسها عاجزة عن الهروب من قيود التقاليد والحرب. الرواية تعكس كيف أن الحرب لا تؤثر فقط على الرجال، بل تلقي بظلالها الثقيلة على النساء أيضاً، لتصبح حياتهن معقدة ومتشابكة مع قيود المجتمع.
في النهاية، تفتح رواية "عمّتي الرومانتيكية" نافذةً لفهم تأثير الحروب على العلاقات الإنسانية، وكيف يتحول الحب نفسه إلى معركة ضد القمع. نجم والي يقدم من خلال هذه الرواية نقداً اجتماعياً وسياسياً عميقاً، حيث تصبح الشخصيات عالقة بين الحب والحرية من جهة، وبين القمع والحروب من جهة أخرى. تظل العمة رمزاً للشخصية التي تسعى للحرية في عالم لا يعترف بأحلامها، وتبقى الرواية استكشافاً مؤلماً للاغتراب في زمن القمع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع