في المجموعة القصصية «بلاد الطاخ طاخ» للكاتبة العراقية أنعام كجه جي، الصادرة عن دار المصرية اللبنانية بالقاهرة، تبدأ السوريالية من الغلاف. هو عبارة عن لوحة للفنان علي آل تاجر، يؤدي فيها «جيفارا» رقصة صوفية على طريقة المولوية. مرتدياً ثوباً أحمر، ومعتمراً قبعته الشهيرة.
الغلاف يعبر عما في المجموعة من واقع فانتازي، حيث تتحكم السوريالية في مصائر الناس. ربما استمدت الكاتبة حالة العبث مما نعيشه من واقع مرتبك، أطلقت عليه تعبيراً صوتياً "بلاد الطاخ طاخ" بما يتناسب مع دول أضحت الكلمة فيها لصوت الرصاص.
كتبت أنعام كجه جي مجموعتها، التي ضمت 12 قصة، خلال العامين المنقضيين. أثناء أزمة كورونا، الوباء الذي شهد مناخاً سوريالياً، لم تعد صاحبة "النبيذة" قادرة على كتابة فن الرواية، المجال الذي قدمت فيه عدداً من الأعمال، وصل بعضها إلى قائمة البوكر للرواية العربية.
القادة السياسيون والمراحيض
القصة التي حملت عنوان المجموعة "بلاد الطاخ طاخ"، جرت في واقع سوريالي غلفه العبث، إذ تصطف تماثيل الحكام الشمع داخل متحف بارد، غير أن أحد هؤلاء الأشاوس فاق من غفوته، وعقد صفقة مع الحارس مقابل أن يحرره من وقفته الأبدية.
كتبت أنعام كجه جي التاريخ السياسي للتمثال، فهو "ناضل، واغتال، وطورد، وانقلب، وأُعدم، وجلس على سدة الحكم".
بعد انعقاد الصفقة بين الرئيس الشمعي والحارث، تحرك التمثال داخل المتحف. رأى ملوكاً يرث كل منهم كنيته من السابقين. حتى انقطعت سلالتهم بصوت "الطاخ طاخ"، لتنبثق بعدهم جمهوريات، لكن "لا يتوقف الطاخ طاخ". كأن عالمنا لم يعرف غير الرصاص أداة للتغيير.
لم تقتصر البلاد على العراق، موطن الكاتبة، بل شملت الدلالة الوطن العربي، فبعدما ملّ التمثال صحبة الملوك، انتقل إلى صالة الانقلابيين، وانفرجت ابتسامته "في حضرة الثوار والمجاهدين والضباط الأحرار. وأدى التحية العسكرية لعبد الناصر وعبد الكريم قاسم وبن بلة. ومرّ بالقذافي مرور الكرام. وعانق صديقه بومدين، وتأرجحت مشاعره أمام بورقيبة".
اتسع متحف الشمع حتى شمل العالم، ضم تماثيل من غير العرب. فلم يفت التمثال الذي دبت الروح في أوصاله، أن "يتأمل لينين ويصافح كاسترو يقيس قامته بقامة مانديلا. يتقدم نحو تمثال غيفارا ويطرق حزناً".
صورة رئيس في الحمام
في "صورة المرحوم" إحدى قصص المجموعة، ثمة مكان آخر سحبت إليه الحكام بعد موتهم، بدأت القصة وقت استنجدت بالبطلة سيدة جزائرية تدعى "هوارية" تقوم على تنظيف البناية. ذلك لأنها لم تقض حاجتها من "البول" منذ أسبوع.
كانت شركة الخدمات قد طلبت منها أن تذهب لتنظيف شقة في شارع "بونتيو"، لتكتشف أن المبنى هو مديرية الضمان الاجتماعي للعمال الجزائريين في فرنسا، التي طالما رافقت أباها إليه وهي صبية. كان من الممكن أن يمر اليوم كسابقيه، غير أنها بعدما قضت ساعات العمل، وهطل عرقها، دخلت الحمام لتقضي حاجتها، فكانت المفاجأة.
وجدت هوارية صورة هواري بومدين، مركونة وراء الباب، "في الزاوية مع الكراكيب". قالت الكاتبة على لسانها: "فجأة رأيته يخزرني فتيبس جسمي. نظرة صارمة ومخيفة تطالعني من صورته".
وقع الخوف في قلبها بمجرد أن رأت صورة الرئيس الثاني للجزائر المستقلة مهملة، ورغم موته منذ زمن، كان قادراً على أن ينفث الخوف في قلبها، فالشعوب تهاب حكامها، حتى وإن كانوا صوراً ملقاة في المراحيض المهجورة.
كان بومدين مهاباً في صورته، و"لا يمكن لامرأة مثلها أن تقضي حاجتها في حضرته". ومن ثم "احتبس الماء في جسدها ولم يخرج، انقبضت عضلاتها وانسدت مساماتها ونشف عرقها".
شعرت هوارية أنها جرحت في وطنيتها، فـ "عجزت عن المضي في تنظيف الشقة"، وأصبح همها أن تنقذ الصورة.
عن علاقة المثقف بالسلطة في "بلاد الطاخ طاخ"
ملمح آخر يمكن رصده خلال تتبع قصص المجموعة. ففي "بلاد الطاخ طاخ"، كل من اقترب من الحاكم احترق، مثلاً في قصة "عارية في الوزيرية"، نحت الفنان التشكيلي العراقي سالم الشذري، الرئيسَ بعينين غير متناسقتين، ووشى به زميل حسود، ففُصل من أكاديمية الفنون، ثم أمضى ثلاثة أشهر في الأقبية، قبل أن يهرب من البلاد إلى غير رجعة.
أيضاً في قصة "المترجم رجب" بعدما صدر الأمر بتعيينه مترجماً خاصاً لصاحب الفخامة، تطفلت أنعام كجه جي على أفكاره، رأت كيف تبدلت أحواله، وفتنته مرآته، حتى أنها تلخص حالته بعدما ملت التطفل، قائلة: "قد بات المسكين مفتوناً بنفسه إلى حد يقترب من الهوس".
سرق المترجم من نفسه، أبعده المنصب عن أبنائه وأصدقائه، وحالت الوظيفة الجديدة بينه وبين زوجته، استولت عليه حتى ذهب عقله.
كانت النهاية يوم وقف بجانب صاحب الفخامة في مؤتمر دولي، يومها سُئل الرئيس، ونقل رجب جوابه بدقة، لكن كانت المفأجاة وقت توقف صاحب الفخامة عن الحديث ولم يتوقف المترجم. فقد تسرب إليه غطرسة الحاكم دون أن يدري، ومن ثم فقد عقله، وتفجر ما نما داخله، بعدها "صعد إلى المنصة رجلان مدنيان، اقتادا المترجم من كتفيه إلى خارج القاعة".
امرأة منظفة ذهبت إلى المرحاض، ففوجئت بصورة "الرئيس" في الزاوية مع الكراكيب، خافت، "لا يمكن لامرأة مثلها أن تقضي حاجتها في حضرته". تقول القاصة أنعام لرصيف22: "السريالية هي في الواقع الذي حولنا، لا في قصصي"
عن العلاقة بين السلطة والمبدع، وبحث الأخير عن الحرية، والتحليق بعيداً عن الأطر والقوانين، أيضاً جاء في إحدى قصص المجموعة، أن شاعراً توقف عن الكتابة بعدما أهداه حاكم البلاد مسدساً من ذهب، حيث ارتبك، وطارت منه الصور والمفردات.
أهداه الحاكم المسدس لإعجابه بقصيدة كتبها، كانت قصيدة نثر، لا وزن فيها ولا قافية، تتحدث "عن شاعر يجمع ريش الطيور على مدى عامين لكي يصنع لنفسه جناحين".
شتتت الهدية تفكير الشاعر، فما عاد قادراً على كتابة أي شيء، كأن ثمة رسالة بأن ذهب الحكام مسموم.
كل تلك القصص التي تحركت أحداثها في منطقة ما بين المثقف والحاكم، فتحت باب التساؤل بشأن المسافة التي يجب على الكاتب أن يبقى فيها مبتعداً عن السلطة، ومدى تأثير ذلك التقارب على كل منهما.
وبطرح السؤال على الكاتبة أنعام جه جي، قالت لـنا: "أنت توصلت إلى مغزى من القصة، ويمكن لقارئ غيرك أن يتوصل إلى مغزى آخر. وقضية علاقة المثقف بالسلطة قديمة وأسالت أنهاراً من الحبر، لا دلو عندي فيها".
"الصحافة مشتبكة مع السياسة"
إنعام كجه جي، المولودة في بغداد عام 1952، وفي جامعتها درست الصحافة، وعملت في الإذاعة العراقية قبل انتقالها إلى باريس، لتكمل أطروحة الدكتوراة في جامعة السوربون، تشتغل حالياً مراسلة في باريس لجريدة "الشرق الأوسط" في لندن، ومجلة "كل الأسرة".
لم تبتعد عن الصحافة في مجموعتها القصصية، سواء من حيث تناول أحداث يومية اتسمت بعاديتها أحياناً، أو نقل بعض الهزائم التي لحقت بالوطن، مثل الغزو الأمريكي له، حتى أنك ترتاب إن كانت واقعية من حياة الكاتبة أم مجرد قصص.
"سبع شقيقات خوافات"، تخاف إحداهن المرض، والثانية الزمن والأخرى الحرب، يخفن أيضاً رؤسائهن في العمل، وأزواجهن، وعنوستهن. يخرجن في رحلة العمر، كأنهن في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة
كذلك تناولت بعض المشكلات التي تواجه العمل الصحفي، سواء من حيث التضييق السياسي ومحاولات سلب المهنية، أو في علاقة الصحفي بمالكي الجرائد الذين يسخّرون كل شيء في سبيل كسب المال.
ظهرت الصحافة في قصتين من المجموعة، الأولى "صورة المرحوم" التي تعكس علاقة الصحفي بمالك الجريدة المتاجر بدم شقيقه "شهيد الكلمة"، والثانية "الكاميرا الأولمبس" حيث يستولي المسؤول الكبير على كاميرا البطلة، بل ويهددها بسلاحه عندما تذهب لاستردادها.
سألنا الكاتبة أنعام كجه جي عن رأيها في وضع الصحافة العربية، وحريتها، أجابت: "أي صحافة عربية وأين؟ هل تشبه أوضاع الصحافة السعودية، مثلاً، أوضاع الصحافة في تونس أو في مصر؟ هل تتاح للصحافة العرية المقيمة في بلادها ما هو متاح للصحافة العربية المهاجرة؟ منذ نشأة الصحافة في العالم وهي مشتبكة مع السياسة ومع الممولين والإعلانات. نعم هي مستلبة في الأغلب، ولا أدري كيف يمكن لصحافي فرد أن يسترد مهنته من أي كان، هل يفتح جريدة لنفسه ولأهل بيته؟".
ضفيرة طويلة وخصلات متشابكة
في "بلاد الطاخ طاخ" الكل خائف. هناك قصة "سبع شقيقات خوافات"، تخاف إحداهن المرض، والثانية الزمن والأخرى الحرب.
يخفن أيضاً رؤسائهن في العمل، وأزواجهن، وعنوستهن. تلك القصة التي اعتبرتها درة المجموعة، تدور في عالم فانتازي، حيث تواجه الشقيقات خوفهن، ويخرجن في رحلة العمر، هي الأقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة، هي قصة مليئة بالحنين لكل ما ولّى، والخوف مما هو آت.
"يصبح الخوف رفيقًا مخلصاً في رحلات الخروج والدخول".
كتبت أنعام كجه جي: "يصبح الخوف رفيقًا مخلصاً في رحلات الخروج والدخول".
على امتداد المجموعة، ثمة شاعرة تختبئ في لغة الكاتبة العراقية، إذ التشبيهات الشعرية، وتساءلت: لم لا تتكلم بمنطق سياسي بحت؟
مثلاً في "صورة المرحوم" ترى العلاقات الجزائرة الفرنسية عبارة عن "ضفيرة طويلة من خصلات متشابكة، شعر معقد لا ينفع معه مشط ولا زيت". وفي محاولة لفك شفرة التشابك بين البلد ومحتلّها السابق، تقول إن ما بينهم "عداوة لا فكاك من عناقها. واقع أسود يقطعه بحر أبيض".
جاءت لغة المجموعة طيعة، السهل الممتنع، ما بين تراكيب شاعرية وألفاظ فصيحة يشوبها بعض العامية.
تقول صاحبة "الحفيدة الأمريكية" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2009، والتي رشحت لجائزة نوبل للآداب عام 2022: "نعم، لغتي بسيطة، أو تبدو كذلك. وأظن أنها تشبهني في شخصيتي وانفعالاتي وطريقة كلامي اليومية. مع هذا لا يجوز أن أفرض شخصيتي على كل شخوص الرواية. لابد أن يعبر كل منهم بلغته ومنطقه المناسب لظروفه".
رغم الحزن المسيطر على أغلب القصص، واليأس الباحث عن أمل بين ثناياه. لم تتخل أنعام كجه جي عن سخريتها. جاءت حوارت الشخوص لاذعة. تسخر دائماً من الحرب والقتلى، وأوضاع البلاد الأمنية. تسخر حتى من الجثث، رأت في حرقها توفيراً مقارنة بالدفن.
سألتها عن سر تلك السخرية، وكيف حافظت عليها وسط "بلاد الطاخ طاخ"، وإن كانت تجد فيها مهرباً من الواقع السوريالي الذي ظهر في أغلب القصص؟
قالت: "هل تراها سخرية؟ أراها نزفاً، السوريالية هي في الواقع الذي حولنا، لا في قصصي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع