شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"اللاهي" بأبطال الروايات الشهيرة، جان دوست

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 20 نوفمبر 202207:02 م

أنتج الأدب عبر تاريخه عدداً لا يحصى من الشخصيات الأدبية التي تجاوزت حيزَها الورقي لتصبح مجموعةً من المفاهيم والرؤى التي يمكن أن نقرأ بها أحوالنا وأحوال العالم من حولنا، وقد سماها كلٌّ من الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وفليكس غواتري "الشخصيات المفاهيمية". ذهب الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل في مشروعه الموسوعاتي حول عالم القراءة إلى تقصي شؤونها في مؤلفه "وحوش خرافيون: دراكولا، أليس، سوبرمان، وأصدقاء أدب آخرون"، والذي تُرجم للعربية تحت عنوان "شخصيات مذهلة من عالم الأدب"، وهو كتاب تناول فيه شخصيات تخييلية بعضها كان شهيراً، وبعضها ظلّ في الهامش، وقدم في روايته "ستيفنسن تحت أشجار النخيل" مقاربةً روائية معاصرة لعالم كاتب الأطفال الشهير روبرت لويس ستيفنسن، وغير بعيد عنه كتب البرتغالي أفونسو كروش روايته "الكتب التي ابتلعت والدي" ليستدعي فيها شخصياتْ وعوالمَ روائيةً عالميةً شهيرة.

يلعب الروائي السوري الكردي جان دوست في روايته "اللاهي" ذات اللعبة انطلاقاً من عوالم شبه ديستوبية تحت فرضية تخييلية. ماذا لو اجتمعت كل تلك الشخصيات في مكان واحد كما تجتمع في رأس القراء؟

أصل الحكاية

يعتبر مانغويل أن الشخصيات المفاهيمية تغلّبت حتى على مؤلفيها شهرةً، فالقراء حول العالم يعبّرون "عن تقديرهم لأشخاص مثل شيكسبير وسيرفانتيس، لكن هذه الكائنات المخلّدة في بورتريهات واعدة وصارمة أقل حضوراً من مخلوقاتها الخالدة. فالملك لير والليدي مكبيث ودون كيخوته ودلسينيا تشكل حضوراً حقيقياً حتى بالنسبة لكثير ممن لم يقرؤوا كتب شكسبير أو سيرفانتيس". ولأن جيل دولوز وفيليكس غواتري وسّعا من الشخصية/المفهوم لتشمل بعضَ الأدباء والمؤلفين الذين صاروا مفهوماً، كما كافكا ونيتشه، اختار جان دوست أن يستدعي من هذه الشخصيات كلاً من دون كيخوته وجيوفاني دروغو وغريغور سامسا وسانتياغو وزوربا اليوناني وإيما بوفاري والليدي كونستانس تشاترلي وإدريس الجبلاوي وقابيل وراسكولينكوف ويوهان موريتز وآدسو البنديكتي، وأضاف إليهم ماركيز دو ساد. ولم يكن هذا الأخير شخصيةً تخييلية، بل شخصية مرجعية فرضت نفسها مثلها مثل "مازوخ" كمفهوم.

اختلق جان دوست شخصيةَ كاتبٍ عجوز محبط من المشهد الروائي، حيث كان يستبعَد من كلّ الجوائز والحضور الثقافي بسبب فساد الأفراد والمؤسسات القائمة على ذلك المشهد. هجر ذلك العالم الواقعي لينعزل في مكتبة قصية مهجورة، ويبدأ في إعادة قراءة الروايات الرائعة التي عرفها، والروايات الجديدة التي صار يكتشفها ويكتشف أبطالها. وهكذا بدأ في استيهامات خاصة تجعله يتخيل دخوله إلى عوالم كلّ رواية، ليحرك أحداثَها حسب مشيئته، ولا يترك الكاتب للقراء اكتشافَ ذلك التناص الواضح بين الكاتب ودون كيخوته، فيكتب: "كثيراً ما قارن نفسه ببطل ميغيل دي ثرفانتس الشهيرة، الفارس دون كيخوته دي لامنشيا، الذي قضى أوقاتاً طويلة يقرأ قصص الفروسية حتى فقد عقله، وقرر أن يصبح فارساً جوّالاً يجوب الآفاق ليدافع عن المظلومين".

سيكون لهذا العمل أثره لو حُوّل إلى مسرحية أو إلى كتاب مصور أو اقتُبس للسينما أو للصور المتحركة، فهو مادة جاهزة بحبكتها. نص الرواية صندوق نفائس الأدب ودليل قراءة لأروع ما أنتجه الأدب الإنساني... رواية "اللاهي" للروائي السوري الكردي جان دوست

وقد اختار الكاتب العجوز في رواية جان دوست ثلاث عشرة رواية، ليسحب أبطالها، ويختبر تجمعهم معاً في عالم واحد ورواية واحدة، إلا أن الحرب التي اندلعت، دمرت المكتبةَ واختفى الكاتب. لكن الديستوبيا التي بدأت تتشكل مع اندلاع تلك الحرب، سرعت بحدوث معجزة شبهها الكاتب بالحلم السوريالي، تمثلت في تحرر الأبطال الثلاثة عشر الذين انتقاهم الكاتب من مسودة عمله كما يتحرر المساجين، و"هاموا على وجوههم في المدينة الموحشة، حتى قادهم الطريق إلى المكان المعلوم، حيث اجتمعوا في فندق باراديسو المقفر ذي الأضواء الليلكية، لينسجوا هذه القصة التي لطالما حلم بها الكاتب ذو العكازة القرمزية والبدلة البيضاء بتدوينها".

الجثة الضرورية والحبكة البوليسية

من عوالم العجائبي التي أدخلنا إليها الكاتبُ في الفصل الأول وبعث الحياة في شخصيات ورقية، وتشييد تلك الديستوبيا من عالم الخراب ومخلفات ما بعد الحرب، يدخلنا الفصلُ الثاني إلى عوالم رواية الجريمة أو الرواية البوليسية، فيرمي لنا منذ البداية جثةً مجهولة لا ندري من قتلها.

مكتشف الجثة لم يكن سوى دون كيخوته، والجثة لم تكن سوى جثة غريغور سامسا، بطل رواية "المسخ" لكافكا، اكتشفه جيفاني دراغو بطل رواية "صحراء التتار" للإيطالي دينو بوتزاتي. وهكذا تتجمع كلّ الشخصيات في الفندق، لتلتقي بالروائي العجوز الذي سيعطيها أدواراً جديدةً، لكنه يصدم بقصة الجريمة والجثة التي حدثه عنها دون كيخوته، تلك الجثة التي تختفي بعد ذلك، ويتعرف على هويتها الجميع عندما يكتشف الروائي أن الغائب الوحيد هو سامسا.

استطاع جان دوست أن يقدم لنا الشخصيات بذكاء عبر أسئلة دون كيخوته، وهو أكبرهم سناً، وروايته أقدم الروايات، وكان طبيعياً أن يعرفه الجميع ولا يعرف هو أحداً.

هدف هذه الرواية الألهية لا يتمثل فقط في إعادة تدوير هذه الشخصيات الشهيرة، بل مقاربة الواقع عبر استدعائها، وطرح قضايا تبدو قديمةً، لكنها أبدية حول الموت والحرب والإنسان والوجود. إنها رواية وجودية إنسانية تسقط كلّ خصوصية لتتناول المشترك الإنساني عبر الأدب والشخصيات الأدبية باعتبارهم خلاصةَ التجارب الإنسانية ونماذجها التي خلقها الأدب.

يناقش جان دوست في هذه الرواية كلَّ شيء؛ الأدب والحب والحرب والسلام والخطيئة والدين والحرية والمسؤولية،  ولكنه يركز على موضوع أساسي، هو الجريمة، فلا شيء في هذا الوجود البشري يمكن أن ينجو من الجريمة بوصفها علةَ وجود هذا الكائن على الأرض.

القتل هو الأصل

يقول قابيل الخارج من رواية "قايين" لساراماغو إثر مقتل دون كيخوته: "لقد سننت للبشر من بعدي سنّة قبيحة: اقتلْ لترث القتيل. ثم تطوّر البشر بعد ذلك حين تناسلوا وملأوا ظهر الأرض فصاروا يجيّون الحروب، يقتل بعضهم بعضاً، ويرث جيش القتلة الغزاة، ليس فقط ممتلكات المقتولين وأراضيهم ودورهم ومساكنهم، بل يسْبون نساءهم أيضاً. القتلة ورثة المقتولين في كل شيء".

هكذا لخص لنا قابيل، ومن ورائه الكاتب، أصلَ الحرب؛ قتلٌ قديم ودم قديم أريق في بداية الخلق، ولم تحترمه عدالة، ولا كان هناك قصاص من القاتل. تلك الجريمة الأولى التي اقترفها قابيل، والتي تبرأ منها إدريس بطل رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، هي قناع إبليس، ويُعتبر أن قابيل لم يكن مدفوعاً بشيء غير رغبته في القتل، فهي التي وضعت لبنة التاريخ الدموي للبشرية، وسببت كل هذا الدم الذي سال من أول الخلق إلى اليوم. إنه دم سليل ذات القصة، قصة الإنسان، والذي يحاول منذ ذلك الزمن أن يرمي بالتهمة على إبليس.

الكاتب المبثوث في كل شيء

تكشف الرواية أن الكاتب لا يمكن أن يموت أو يتوارى في عمله إلا على نحو خديعة؛ فالعجوز صاحب العكاز، وبرغم ادعاءاته أنه سيحرر الشخصياتِ الروائيةَ من مصائرها التي أوجدها فيها كتابُها ونحاتُها، إلا أنه أسقطها جميعاً في قبضته، فكان مستبداً مفرداً في صيغة الجمع. كان الكاتب وفياً لصورة القاتل أيضاً، فظلّ طوال الرواية يقتل تلك الشخصيات التي بعثها للحياة، ليتحول بدوره إلى قاتل متسلسل خفي.

يناقش جان دوست في رولية "اللاهي" كل شيء؛ الأدب والحب والحرب والسلام والخطيئة والدين والحرية والمسؤولية، ولكنه يركز على موضوع أساسي، هو الجريمة، فلا شيء في هذا الوجود البشري يمكن أن ينجو من الجريمة بوصفها علةَ وجود هذا الكائن على الأرض

يقول راكولينيكوف الذي يتهم الكاتبَ بالقتل: "أحييتنا لتقتنا وتتسلى بالعرب الذي نكابده مذ جئنا إلى أرض روايتك. كنا نقيم سعداء في أعمال رائعة يعرفها الجميع في كل مكان، وسنبقى أحياء إلى الأبد بدون لعبتك هذه، أتيت بنا لتتسلى بقتلنا".

يكتسب خطاب الشخصيات في الرواية طابعاً حجاجياً نقدياً لكلّ المسلمات التي وضعها المتلقون عبر تاريخ القراءة والحكاية ليهزّ يقينياتٍ ومسلماتٍ ترسخت عبر التراكم، وعبر غياب السؤال، فلا إبليس مسؤول عن جرائمنا، ولا كاتب السادية بساديّ، ولا الحرب واجبة، ولا البشر أبرياء.

يتطرق جان دوست إلى خطايا التلقي وكيف يحاسب الكاتب بتهم التخييل، وكيف ينقلب الدفاع عن الإنسانية إلى أدلة تدين الكاتبَ، فلا يفرق القراء بما في ذلك النقاد والمؤرخون بين المتخيل والواقع.

يقول ماركيز دو ساد في رواية جان دوست: "احتقرني العالم لأنني كشفت أكثر الأعماق ظلمة في النفس البشرية. لقد كتبت رواية (مئة وعشرون يوماً في سدوم) في ثلاثة وثلاثين يوماً وأنا في سجن الباستيل. تماماً كما كتب ثربابنتس قصة هذا الفارس المسكين دون كيخوته الذي دفنّاه اليوم وهو في السجن. السجون أفضل مكان لكتابة الروايات. لقد كتبت في هذه الرواية ما يمكن أن يقوم به الإنسان من فظائع لتحقيق لذاته الشخصية. صوّرت الإنسان في أقسى صوره فالتبس الأمر على الناس واعتبروني مرتكبَ ما جاء في روايتي من جرائم فعلاً".

لقد أعطى جان دوست في ظلّ تلك عوالم الجريمة والتحقيق لكلّ شخصية مجالاً لكي تترافع ضد العالم، ولتدافع عن نفسها، فكانت الجرائمُ ذرائعَ الكاتب لكي تعبر الشخصيات عن إدانتها لتاريخ الظلم الذي تعرضت له عبر التاريخ.

يقول ساد: "أنا مجرم في الكتابة. روايتي مجرمة، خيالي مجرم. شخصياتي معتوهون مهومسون بالجنس الشاذ، لكن ما كتبته على تلك الورقة الطويلة في الباستيل كان نوعاً من التخييل. تصويرُ قبحٍ وبشاعةُ جريمةٍ لا تعني أبداً بشاعة من يقوم بذلك. هل المخلوق الوحش الذي أبدعه فيكتور فرانكشتاين في رواية ماري شيلي حقيقي؟". فترد إيما بوفاري التي يطلبها ساد للزواج، بأنها تتفهم ذلك، وأنه لا يمكن اتهام كاتبها فلوبير بكلّ ما ارتكبت هي في الرواية.

تلاعب جان دوست عبر الروائي العجوز بالعلاقات، وربط علاقات جديدة بين هذه الشخصيات في هذا الفندق الذي تجمعت فيه مع المحافظة على أغلب ملامحها وشخصيتها التي تجعلنا نتعرف عليها من أول وهلة. فلعبة التناص في الكتابة معلنة، وليست خفية، والمَشاهد وبعض الكلام منتقى من أصل المتون التي خرجت منها الشخصياتُ بتحويرٍ جزئي يجعل النص جديداً.

"أنا مجرم في الكتابة. روايتي مجرمة، خيالي مجرم. شخصياتي معتوهون مهووسون بالجنس الشاذ، لكن ما كتبته على تلك الورقة الطويلة في الباستيل كان نوعاً من التخييل"... ماركيز دو ساد

وما أثقل الرواية بعض الشيء هو حضور الناقد بمصطلحاته الثقيلة كالميتاسرد والزمن في الرواية، وحتى وجود الكاتب العجوز الذي كان يمكن للرواية أن تستمرّ دونه بعد أن اختفى في أول فصل، وأن تجتمع الشخصيات دونه في الفندق، ويحدث كلّ الذي حدث دون تدخله، فيظهر طيفه في آخر الرواية لنفهم كل شيء. ومع ذلك يبقى هذا خياراً فنياً ارتآه الكاتب، ولا يمكن أن نتدخل فيه أكثر من هذه الملاحظة.

لا يمكن أن يكون هذا الكمّ الكبير من الحكم والمفاهيم التي أطلقها جان دوست في روايته غريباً عن شخصيات مفاهيمية يقع استدعاؤها من متون مختلفة، لتحكي عن رؤيتها للعالم، وخلاصة تجارب حياتيه معقدة عاشتها في متونها الأصلية، وتابعت عبر التاريخ موقف القراء والنقاد منها.

لا يغفل القراء عن البعد الموسوعي للرواية الذي يحتاجونه كما الطلاب، فالنص صندوق نفائس الأدب، ودليل قراءة لأروع ما أنتجه الأدب الإنساني. سيكون لهذا العمل أثره لو حُوّل إلى مسرحية أو إلى كتاب مصور أو اقتُبس للسينما أو للصور المتحركة. فهو مادة جاهزة بحبكتها عبر هذا الترحيل المتميز لهذه الشخصيات إلى وحدة زمنية هي الحاضر، ووحدة مكانية هي الفندق، ووحدة خطابها التأملي الفلسفي في قضايا إنسانية عامة وراهنة تمتد جذورُها إلى الأزمنة الغابرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image