بمجرد أن أعلنت دار "غاليمار" الفرنسية، خبر منعها من المشاركة في معرض الجزائر الدولي للكتاب، حتى بدا من الواضح أن سبب المنع ليس إلا رواية الجزائري كمال داود، "حوريات" أو "حور العين"، الصادرة مؤخراً عنها، والتي طرقت باب محظور لا يُسمح بطرقه في الجزائر؛ ففي بلد يتشابك فيه التاريخ والسياسة والدين في تفاعل معقّد، يظهر بين الحين والآخر عمل أدبي يتحدّى المألوف، ويتسبب في حظره وحظر دار نشره، وهو ما حدث على الرغم من تأكيد "غاليمار"، أن منعها من المشاركة تمّ من دون تقديم أسباب لذلك.
رواية "حوريات" (Houris)، واحدة من هذه الأعمال، إذ واجهت المنع في الجزائر قبل أن تصل إلى قرّائها بمناسبة معرض الجزائر للكتاب المزمع انطلاقه في الأسبوع الأول من الشهر المقبل تشرين الثاني/نوفمبر، وهو منع يثير مجدداً العديدَ من التساؤلات حول حدود التعبير والحريات الفردية. فهذا الكتاب الذي يتناول مواضيع حساسةً تتعلق بالدين والسياسة، فضح الرقيب المتخفّي عادةً خلف مسمّيات كثيرة وشعارات أكثر، أيسرها حضوراً في الذهن "المساس برموز ومبادئ الدولة والمجتمع".
الجرح المفتوح للعشرية السوداء
أحد أبرز محاور المنع هو تناول كمال داود، في روايته، فترة الحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء، وهي الفترة التي شهدت صراعاً مسلحاً بين الدولة الجزائرية والجماعات الإسلامية المسلحة وما زالت موضوعاً حساساً في الذاكرة الجماعية الجزائرية، حتّى أنه منعاً لأيّ نبش لما خلّفته تلك الفترة الدموية من جروح، وُضع ما سُمّي بميثاق المصالحة الوطنية، الذي يحظر أيّ استخدام أو استغلال لـ"جراح المأساة الوطنية" في أي شكل من الأشكال.
یتناول الكتاب مواضيع حساسةً تتعلق بالدين والسياسة، ويفضح الرقيبَ المتخفّي عادةً خلف مسمّيات كثيرة وشعارات أكثر، أيسرها حضوراً في الذهن "المساس برموز ومبادئ الدولة والمجتمع"
رواية "حوريات" (Houris)، تقتحم هذه المنطقة المحظورة بتسليط الضوء على الآثار النفسية والاجتماعية التي تركتها الحرب على النساء، وكيف أصبحت أصواتهنّ غير مسموعة في ظل غياب العدالة التاريخية. في الصفحة 118 من الرواية، يعبّر الكاتب عن الغموض الذي ما زال يحيط بأسباب هذه الحرب وأهدافها، مشيراً إلى أن الصراع الداخلي كان أشد قسوةً من الاستعمار نفسه: "الحرب كانت بيننا. حرب بين الأنفس، حرب دمرت البلاد ولم نعرف بعد لماذا حاربنا. حتى الآن، لا نملك إجابات".
هذا التناول، على الرغم من أهميته الأدبية، وُوجِه بمنطق القانون الجزائري الذي يرفض أي محاولة لإثارة هذه الذكريات، خوفاً من إعادة فتح جروح الماضي. وعليه، جاء المنع كإجراء وقائي بزعم الرقيب الضمني، وهو مدرك أن الصمت لا يقدّم إجابات، بقدر ما يوهم بأنه يقدّمها.
الدين بين الاستغلال والنقد
أحد الأبعاد المثيرة للجدل في الرواية أيضاً، هو النقد الذي وجهه داود إلى بعض الشخصيات الدينية، مثل الإمام "كشك"، الذي يمثّل نموذجاً للخطباء المتشددين. الرواية تُظهر كيف يتم استخدام الدين كأداة سياسية، وتحديداً في القضايا المتعلقة بالنساء؛ ففي رواية "حوريات"، يفضح كمال داود، العقلية المتزمتة المتخفية خلف جلباب الدين، من خلال تصويره لشخصية الإمام الذي يحتقر المرأة، إلى درجة أن يجعل منها مجرد جائزة يحصل عليها الرجل المتديّن في الجنّة بعد موته، وهو ما يعدّه داود رمزاً لاستغلال الدين في تكريس صورة نمطية سلبية عن النساء، ومما يعزز العداء الاجتماعي تجاههنّ.
في الصفحة 97، يُظهر داود كيف تتأثر النساء بهذه الأفكار المتشددة، فيكتب على لسان بطلته: "نحن النساء، نحن الجميلات، لكن لا يمكننا منافسة حور العين، اللواتي يُوعد بها الرجال في الجنّة. الإمام كشك يروّج لهذه الفكرة، يصوّر المرأة كجائزة بعد الموت، ويتركنا نحن الذين نعيش، نعاني في ظل هذه الأفكار."
ولأنّ أي نقد يمسّ السلطة الدينية في مجتمع محافظ مثل الجزائر، يُعدّ تجاوزاً للخطوط الحمراء، فقد عُدّ هذا النقد جريئاً من داود الذي تناول موضوع استخدام الدين لتبرير القمع وتقييد الحريات، وهو ما عبّرت عنه الكاتبة سامية بن فضيلة، في مراجعتها للرواية حين كتبت: "أظهر داود شجاعةً نادرةً في نقده للممارسات الدينية التي تسهم في قمع النساء وتغذية الفكر الذكوري".
في رفض خطاب النسيان
منع رواية "حوريات" وحظرها في معرض الجزائر الدولي للكتاب، لم يمنعا انتشارها في المشهد الأدبي في الجزائر وخارجها، ولا حرماها من التنويهات النقدية التي حصدتها وسمحت لها بالترشح إلى أكبر الجوائز الفرنسية والعالمية، على غرار الغونكور ومدسيس العريقيتَين، لتؤكد حقيقةً أخرى تتعلق بقدرة الكتابة والفن على تجاوز كل الخطوط الحمراء، واستحالة إسكات القلم الحرّ كلما تعلق الأمر بالحريات الفردية والحق في إبداء الرأي المختلف والمخالف، لا سيما إذا تعلّق الأمر بالتاريخ ومحاولة إسكاته وعدم السماح بمراجعة التجربة الوطنية بشكل علني وشفاف. فهذه الرواية عكست بحق عدم الرضا عن السياسات التي تفرض "النسيان القسري"، بدلاً من مواجهة الماضي بشجاعة.
لا شك في أن السياسات التي تفرض الصمت على الكتّاب والأدباء حول موضوعات حساسة، تمثّل انتهاكاً صريحاً لحرية التعبير، وهي إشكالية قديمة في الجزائر وحتى في الوطن العربي، فمنع الرواية جاء ضمن هذا الإطار، حيث تُعدّ كل محاولة لإعادة طرح أسئلة حول الحرب الأهلية والدين تهديداً للوحدة الوطنية والاستقرار السياسي بمنظور السلطة.
المرأة وصوتها الغائب
من الخصائص المهمة التي أثارت الجدل في الرواية، التركيز على النساء ودورهنّ في المجتمع الجزائري. "حوريات" تسلّط الضوء على الصراع الداخلي للنساء في مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية. النساء في الرواية يصارعن العنف والصمت المفروض عليهن، سواءً من خلال القيود الدينية أو السلطة الأبوية. في الصفحة 81، يتمّ تسليط الضوء على التحيّز ضد المرأة في المجتمع والدين، حيث يتم انتقاد الخطب التي تهاجم النساء اللواتي يضعن العطور أو يتركن شعورهنّ مكشوفةً: "الإمام يكيل الانتقادات لكل النساء اللاتي يتزينّ أو يتعطرن، حتى أن النساء في الصالون (صالون الحلاقة النسائي)، كنّ يستغربن هذا الهجوم وهن يتساءلن: لماذا يكرهنا الله إلى هذا الحد؟".
تُظهر الراوية هذا الصراع الداخلي بين المرأة الجزائرية والمجتمع الديني الذي يفرض عليها قيوداً شديدةً، وتصف في الصفحة 21، كيف يتنازع الإمام المحلي مع صالون التجميل، كرمزٍ لتحرر النساء، ما يعكس التوترات الاجتماعية والسياسية بين الانفتاح والقيود: "بدأت الحرب بين صالوني والمسجد. الإمام نشر الفتوى، والمجتمع استجاب. الجميع ينظر إلى المرأة كجسد يجب أن يظلّ مغطّى، ومسيطراً عليه".
في هذا السياق، تشير الباحثة في علم الاجتماع الثقافي، فاطمة الزهراء بوذراع، إلى أن "المرأة الجزائرية ما زالت تُعاني من خطاب يُكرّس دورها كجسد مُغلق ويضعها تحت رقابة دينية وسياسية".
شيء من تاريخ الكتب الملعونة
في مراجعات ومقالات مختلفة، أكد العديد من الكتّاب على أهمية رواية "حوريات" أو "حور العين" في تسليط الضوء على فترة العشرية السوداء في الجزائر. يشير كمال داود إلى أن الرواية تستكشف الصمت المفروض على الأفراد الذين عاشوا الحرب الأهلية الجزائرية، وهو صمت يعكس القوانين والقيم الاجتماعية التي تمنع الحديث عن تلك التجارب المؤلمة.
زيادةً على ذلك، يعدّ داود، الروايةَ أداةً قويةً لنقل المشاعر والتجارب الإنسانية، ما يجعل الأدب خياراً مفضّلاً للتعبير عن المآسي بدلاً من التقارير الصحافية التي قد لا تعكس عمق المعاناة، فالرواية تسمح دائماً بإعادة التفكير في الذكريات التاريخية والتجارب التي تم تجاهلها، كما لا تجد حرجاً في طرق باب محظور التفكير فيه على غرار تناول الصراع بين السلطة الدينية والحرية الفردية، وهي جرأة امتلكتها رواية داود، بحيث كانت بلا شكّ عملاً أدبياً يتحدى النسيان ويعمل على استعادة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري.
الرواية تُظهر كيف يتم استخدام الدين كأداة سياسية، وتحديداً في القضايا المتعلقة بالنساء، ففي رواية "حوريات"، يفضح كمال داود، العقليةَ المتزمتة المتخفية خلف جلباب الدين، من خلال تصويره لشخصية الإمام الذي يحتقر المرأة
تُظهر العديد من الكتب العربية كيف يمكن للأدب أن يتجاوز قيود الرقابة ويحقق النجاح برغم المنع. على سبيل المثال، مُنعت رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، فترةً من الزمن، لاعتبارات دينية، ومع ذلك، اكتسبت لاحقاً شهرةً واسعةً حتى عُدّت واحدةً من أعظم الكلاسيكيات الأدبية في العالم العربي.
أما رواية "وليمة لأعشاب البحر"، للكاتب حيدر حيدر، فقد أَثارت هي الأخرى جدلاً كبيراً عند صدورها، بل تم منعها في بعض الدول، لكنها برغم المنع لا تزال تُعدّ مرجعاً أدبياً مهماً لا يمكن تجاهله. وبالمثل، حظيت رواية "شقة الحرية"، لغازي القصيبي، التي مُنعت في السعودية لفترة، بشعبية بعد نشرها، حيث تعكس التحديات الفكرية التي تواجهها الشخصيات في القاهرة.
تمثّل هذه الأعمال الأدبية دليلاً على قدرة الكتاب على التعبير عن قضايا حساسة، وعلى كيفية تمكّن بعض الأعمال من تجاوز القيود المفروضة عليها، ما يعكس أهمية الحرية في التعبير الفني والإبداعي في العالم العربي.
الشهود العمي... الحاضرون الغائبون
برغم أن منع رواية "حوريات"، لكمال داود، يطرح العديد من الإشكالات حول حرية التعبير والتعامل مع الماضي في الجزائر، فإن معظم الكتّاب الجزائريين لم يحرّكوا ساكناً تنديداً به, كأنما جاء هذا المنع ليكون بمثابة شهادة موت للمثقف النقدي بعد أن خلنا أنه كان يحتضر فقط، ليعود سؤال الخوف ويُطرح من جديد، بحثاً عن أي تبرير لهذا الصمت: هل يُعدّ الخوف من الحقيقة وفي المقابل الخوف من السلطة مبرراً كافياً لمنع الأعمال الأدبية والرضى بهذا المنع؟ أم أن الحقيقة، مهما كانت مؤلمةً، يجب أن تظلّ حاضرةً ليتمكن المجتمع من التعافي والمضي قدماً؟ هذا السؤال يبقى مطروحاً في أوساط المثقفين، حيث نجد أن هناك تراجعاً واضحاً في ردة فعل الأدباء والمثقفين إزاء مثل هذه القضايا. تشير الباحثة زينب بن رحال، إلى أن "الثقافة النقدية في الجزائر تعيش مرحلةً من الركود نتيجة الخوف من العواقب السياسية والدينية، مما جعل المثقف يتراجع عن أداء دوره النقدي الفعّال".
عدم تحرّك الكُتّاب لرفض منع "حوريات"، قد يعكس شعوراً بالإحباط وانعدام الثقة لديهم في قدرة الأدب على إحداث تغيير حقيقي في مجتمعاتهم. هذا الصمت الجماعي قد يُفهم على أنه نتيجة مباشرة لثقافة الرقابة الذاتية التي طالت معظم الكتّاب في العالم العربي، حيث يعاني الأدب من تهميش مستمر في ظل ظروف سياسية قمعية. الرقابة ليست مجرد إجراء حكومي بل تمثّل أيضاً ضغوطاً اجتماعيةً تجعل الكتّاب والمبدعين أكثر حذراً في اختيار مواضيعهم، خوفاً من ردود فعل سلبية أو انتقادات قد تُفضي إلى عواقب وخيمة.
يبقى الأدب، برغم القيود، مجالاً حيوياً للتعبير عن التجارب الإنسانية والمعاناة، ويمثّل صوتاً للأجيال القادمة. وعليه، فإن حرية التعبير يجب أن تُحاط بالاحترام والدعم، لأن الثقافة المتنوعة تُثري المجتمعات وتساعد على بناء حوار مجتمعي صحّي. إن كسر حاجز الصمت، والتمسك بحرية التعبير، يبقيان الأمل الأخير للكتّاب والمثقفين من أجل استعادة مكانتهم كصوت لضمير الأمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...