شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل حب اللبنانيين لوطنهم هو

هل حب اللبنانيين لوطنهم هو "تعلّق غير آمن"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأحد 27 أكتوبر 202412:10 م

في اتصال أصبح شبه يومي مع ٳحدى صديقاتي المقرّبات، تحدثني عن الـ "love/hate relationship" التي تربطها بلبنان. أبتسم من خلف الشاشة، لأنه موضوع احتل المكانة الأكبر من تفكيري خلال السنتين الأخيرتين.

أعيد النظر هذه الأيام لما توصلت ٳليه في بحثي الذي أجريته، في صيف 2022، بهدف الحصول على شهادة الماجستير في علم النفس العيادي، كنت قد درست الشعور بالانتماء ٳلى لبنان لدى 7 أشخاص، صودف أن كانوا نساءً، وكيف يؤثر على ألياتهن الدفاعية عندما حدثنني عن هذا الانتماء.

أذكر أغلب أحاديثهن حتى اليوم، وأذكر المرارة التي رافقت أحاديثهن، ورافقتني طوال رحلة بحثي. 

يسمح التعلّق الآمن بالتعامل مع غياب الأمّ أو مقدم الرعاية بشكل صحّي، ويسمح للطفل بأن يتصور نفسه والعالم من حوله، فيشكل مصادر نفسية تسمح له لاحقاً ببناء علاقات سليمة وصحيّة. بينما التعلّق غير الآمن يولد مشاعر من الخوف والقلق

في العام 1958، طوّر المحلل النفسي جون بولبي في أطروحته نظرية التعلق. يصبح الطفل، منذ الأيام الأولى، مرتبطًا بأمّه أو بالشخص الذي يقوم برعايته، أي مقدم الرعاية وحسب جودة هذه الرعاية -ونظراً لعوامل أخرى قد تؤثر عليها- يبنى التعلق بين الأم والطفل، ويكون ٳما تعلقاً آمناً أو غير آمن.

يسمح التعلّق الٱمن بالتعامل مع غياب الأمّ أو مقدم الرعاية بشكل صحّي، ويسمح للطفل بأن يتصور نفسه والعالم من حوله، فيشكل مصادر نفسية تسمح له لاحقاً ببناء علاقات سليمة وصحيّة.

بينما التعلّق غير الآمن يولد مشاعر من الخوف والقلق، خاصة عند غياب الأمّ أو مقدم الرعاية، ويؤثر بالتالي على علاقة الطفل بذاته وشعوره بالأمان، وكذلك على شكل العلاقات التي يبنيها المرء في المستقبل.

لمست في حديث المشاركات عن لبنان كل مواصفات التعلّق غير الآمن: شبّهن لبنان بحضن الأمّ، لدى وصفهن صعوبة الغياب عن الوطن، حتّى فكرة المغادرة غير محتملة. يجب أن أذكر أن شروط المشاركة في البحث التالي كانت عدم التفكير بالهجرة، وعدم وجود مخطط للهجرة، وعدم امتلاك جنسية غير الجنسية اللبنانية.

لم تكن المشاركات جميعهن بعيدات عن لبنان في الواقع. لكن في حقيقتهن النفسية، في علاقتهن مع لبنان، نلاحظ هذا التأرجح بين القرب والبعد: يقتربن، فيلمسن وجعاً يخيفهن، فيبتعدن، "مسافة أمان"، مسافة تنقذ نفوسهن من جرح الوطن والهوية. 

لدى إعدادي لبحث الماجستير لمست في حديث المشاركات عن لبنان كل مواصفات التعلّق غير الآمن، حتّى فكرة المغادرة عن الوطن كانت غير محتملة. 

تتمثل علاقة "الحب/ الكراهية" بهذا التأرجح: فالقرب يمثل الحب، والبعد يمثل الكره، ويصعب العثور على "حل وسط". يأتي الانتماء للوطن بثقله ليزعزع استقرارًا داخليًا، لأن الانتماء يعني الهوية، وللهوية أوجه كثيرة (منها الاجتماعي والثقافي والجنسي) ومن الممكن أن تصبح قيد الاختبار.

وفي وطن مثل لبنان، لا اتفاق فيه على هوية وطنية موحدة، فلا مفرّ من فصل الشخصي عن الاجتماعي والعكس صحيح.

هنا تظهر ازدواجية العواطف تجاه الوطن، وقد عبّرت عنها المشاركات بشكل ملموس، وعجزت بعض المشاركات عن فهمها، في الواقع، فقط عندما أشرت إلى "الانفصال" تمكّنت المشاركات من توضيح "ارتباطهن" بلبنان. ورغم أن نتائج بحثي لم تكن معممة على كل الشعب اللبناني، ذهبت مراقبتي لواقعنا في هذا الاتجاه: هكذا هي علاقة معظم اللبنانيين مع لبنان، تعلّق غير آمن يتأرجحون في تعقيداته، يحبونه تارةً، ويكرهونه تارةً.

مراهقون نحن في حب الوطن، ننتفض عليه كالمراهق الذي يعترض دوماً على مشيئة أهله، ثم نعود لنرتمي في حضنه كطفل مشرّد لا ملجأ له سوى حضن أمّه.

ٳن كان هذا هو الحال في أيّام "السلم"، فما بالكم في أيّام الحرب؟

لبنان الذي اعتبرته في بحثي "صورة تعلّق" (attachment figure) ، لم يكن يوفر في العام 2022 الأمن لمواطنيه. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها المشاركات للتسامي والعقلنة، فقد عدن جميعهن إلى الأزمات المتعددة التي كانت، وما تزال، تمرّ بها البلاد، وإلى ما تولّده لديهن من عزلة ومعاناة.

تتفاقم الأزمات والصدمات اليوم مع حرب نشهدها منذ سنة، واشتدت في الأسابيع الأخيرة، حرب تضع حياة اللبنانيين على المحك.

في أزمة كهذه، يُترجم "القرب" من الوطن بالمرتبة الأولى عبر مجموعات الانتماء الأوليّة، التي هي على مقربة نفسية، ولا سيما العائلة. وهذا ما شددت عليه المشاركات في بحثي، إذ كانت العائلة سببًا أساسيًا لبقائهن في لبنان، رغم كل الصعاب. نلاحظ الأمر عينه مع اللبنانيين في الاغتراب: فرغم انفصالهم الواقعي عن الوطن، تشكلّ العائلة مرجعًا آمنًا في ظل التخبطات التي تثيرها الحرب في نفوسهم، بالرغم من مسافة "آمنة" تحميهم. يقتربون، ليس عبر التواصل الدائم وحده، إذ لا يبخل المغتربون بالتبرعات التي هي تعبير عن هذه الرحلة -النفسية من أجل الحفاظ، "عن بعد"، على "القرب" من الوطن.

أنهيت مناقشة أطروحتي بأغنية "مسافة أمان" لإياد الريماوي، يقول مطلعها:

"مع ٳنو المسافة بتحمي من رصاص الحرب، بتضلّي بتصيبي بالقلب".

مراهقون نحن في حب الوطن، ننتفض عليه كالمراهق الذي يعترض دوماً على مشيئة أهله، ثم نعود لنرتمي في حضنه كطفل مشرّد لا ملجأ له سوى حضن أمّه. إن كان هذا هو الحال في أيّام "السلم"، فما بالكم في أيّام الحرب؟

نحتمي من رصاص حرب طائشة، ٳلا أن الرصاص يجد طريقه ٳلى نفوسنا، كما وجده قبل ذلك جدار الصوت، فخرق جدارنا النفسي قبل أن يخرق أجواءنا اللبنانية.

تهدد الحرب حياتنا، تهددنا بالموت، فكل يوم هو موعد جديد لاحتمال الموت، فمن خصائص الحرب فجائيتها ووحشيتها ومواجهة الموت. نواجه الموت عبر مسافة آمنة، عبر شاشاتنا أو عبر بضعة كيلومترات تفصلنا عن مكان القصف الذي نسمعه. نحن في قلب الحدث وخارجه. تبدو الحدود هشّة، غير واضحة، بين الداخل (النفسي) والخارج (النفسي)، فيجتاحنا الدمار والدم: هكذا هو التعلق غير الآمن، أم يجدر بي أن أقول الانتماء غير الآمن؟

اقترحت في نهاية أطروحتي أن نتكلم عن أنواع الانتماء ٳلى الوطن كما نتكلم عن أنواع التعلق بالأم أو مقدم الرعاية.

ألسنا نحن من يغنّي "ٳلى بيروت الأنثى"؟

ألسنا نحن من يطلق على أوطاننا لقب "البلد الأم"؟

نعوّل على "مسافة أمان" كي نثبت جذورنا في أرض لبنان، علّنا نرمم انتماء غير آمن، وتتعافى جروح نفوسنا وجروح الوطن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image