شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
وسط واقع أغرب من الخيال… هل من أحد يقيم

وسط واقع أغرب من الخيال… هل من أحد يقيم "صلاة القلق"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 15 أكتوبر 202401:56 م

في نهاية روايته "صلاة القلق"، الصادرة عن دار مسكلياني في حزيران/يونيو 2024، يضع الكاتب المصري محمد سمير ندا، قصاصةً من جريدة الأهرام بتاريخ 17 نيسان/أبريل 1977، عن حوادث شغب في مستعمرة مرضى الجذام الموجودة في مصر، ذهبت ضحيتها مجموعة من النزلاء، مع بعض المعلومات التي تلقي الضوء على المعلومة الأصلية التي استند إليها الروائي في بناء روايته، والتي ستبدو معلّقةً بين الواقع والخيال في أحداث غريبة تستند إلى تواريخ حقيقية.

تدور أحداث الرواية في هذه المستعمرة، أو القرية المسماة "نجع المناسي"، التي فقدت صلتها بالعالم الخارجي وصارت تعيش في دائرة مغلقة تحرّكها هواجس وتهيؤات سكانها المرضى والظلال التي تتحرك بينهم، على هامش الحياة وأحداث الحرب المشتعلة خارج حدودها، وكأن اسمها صورة عن ذهابها في ذلك النسيان الذي فرضه العالم عليها.

وتحت ظلال الحرب المستمرة بالنسبة لها منذ حرب الـ67 القاسية، وبرغم استبدال الهزيمة بنصر بعد حرب الاستنزاف، بقيت الحرب مثل غول يرابط على حدود النجع، وينتزع أبناءه واحداً واحداً إلى غير رجعة، غول قد يكون المرض أيضاً. لكن إدراك السكان لم يكن ليفكر بهذا الاتجاه أبداً، ما جعل الحالة الاجتماعية والنفسية لهم تتدهور، وتظهر الصراعات على المستويين الداخلي الذاتي، والخارجي، مع بعضهم من جهة، ومع "الخوجة" الشخص الذي يمثّل صلة الوصل بينهم وبين "الدولة" من جهة ثانية.

تدور أحداث الرواية في مستعمرة المصابين بالجذام التي فقدت صلتها بالعالم الخارجي وصارت تعيش في دائرة مغلقة تحرّكها هواجس وتهيؤات سكانها المرضى والظلال التي تتحرك بينهم، على هامش الحياة وأحداث الحرب المشتعلة خارج حدودها

يتركهم ذلك في حالة من الشك والقلق والكآبة والإحساس بالضياع والانزلاق إلى حالات نفسية وهلوسات، فالشخصيات تعيش حياتها كأشخاص أسوياء لا يعرفون أنهم مصابون بمرض الجذام، الذي يسبب كل هذه التغيرات في الصفات الجسدية والنفسية، كتساقط شعر الرأس والحواجب، لذا باتوا كسلاحف تدبّ على الأرض، دون أن يدركوا السبب الحقيقي، بل ذهبوا إلى تفسير ذلك بسقوط نيزك بالقرب من قريتهم، مع ما ينعكس من هذه المعاناة على طريقة تعاملهم مع أنفسهم والآخرين والحياة نفسها، إلى أن ينتهي كلّ هذا بفوران الاحتجاج والهجوم على بيت "الخوجة" الذي يحمّلونه أسباب معاناتهم، وإشعال الحريق فيه، ما يسفر عن مقتل العديد منهم أيضاً.

يفرّ في أثناء ذلك ابن الخوجة "حكيم"، وهو شاب مقطوع اللسان، وننتبه إلى أن هناك حالة اتهامٍ لوالده بهذه العاهة دون تبيّن. يصل حكيم إلى المدينة حيث تبدأ رحلة علاجه النفسي بالكتابة، وتكون ثمرةُ هذه الرحلة الروايةَ التي بين أيدينا، إذ يقوم بتدوين ما حدث في "نجع المناسي"، على شكل جلسات متتالية تحمل كلّ منها اسمَ شخصٍ من قاطني المصحّة، يروي على لسانه حقيقة ما جرى هناك.

في البداية لا نتأكد من حقيقة القرية، إذ احتفظ الكاتبُ بإظهار الحالة المرضية حتى النهاية، موظّفاً كلَّ علامات وخصائص المرض في بنية الشخصيات النفسية وتطوراتها وفي إسقاطاته على واقع كبير. فهي قرية منسية في أرض مصر؛ ولهذا نستطيع أن نتخيل أنها نموذج أو رمز لكل قرية عربية تعاني التهميش والتغييب عن الفعل بمختلف أنواعه، الاجتماعية والحقوقية والسياسية والإنسانية، وكلما كبر الأبناء سحبهم الواجب إلى حربٍ لا يدرون مآلها حتى يختلط النصر بالهزيمة، وتستمر إلى الأبد في عقول السكان المعزولين بحقل ألغام يقال إن هدفه حمايتهم، فلا يخرجون ولا يقتربون من العالم الخارجي، ولعله لحماية العالم منهم. هي عزلة مفروضة بالخوف والخطر والتهديد، ولو توقفت الحرب في الخارج فلن يعرفوا بذلك، إذ لا صلة لهم مع العالم الخارجي. حتى أخبار الأبناء المقاتلين لا تصلهم.

وهكذا تبقى فكرة الخطر تمثّل الذريعة التي تتم بها السيطرة على السكان لضمان بقائهم في دائرة محددة تحددها السلطة بشخص الخوجة، الذي تبيّن أنه الطبيب في القرية، وقد استخدمته السلطات كبوقٍ لها؛ فهو يمثّل كلّ شيء وكأنه كعبة النجع التي يحجّ إليها الجميع؛ فلديه المؤن التي يبادلونها بمنتجاتهم ليستمروا في الحياة، ولديه سجلات الوفيات والولادات (الموت والحياة)، وإليه تصل الخطابات والصحافة والأخبار والجوابات من الأولاد في الخدمة العسكرية عبر سيارات الحكومة، الحكومة التي لم تأبه لهم واستمرت بمعاملتها اللاإنسانية لهم.

تبدأ الرواية بالحديث عن الوليّ الشيخ جعفر الذي عاد من موتته الأولى إلى الحياة، وصار يتحدث بشكل غير مفهوم، ما زاد غرائبية عودته ومكانته الدينية التي يتمنّى ابنه "أيوب" أن يصل إليها، ليعود إليه في نهاية الرواية سارداً تجربة عودته من الموت وهواجسه في القبر، وكيف عاش الصراع بين ما انتظر رؤيته، وما رآه في الحقيقة، حتى شك في معتقداته وفضّل الصمت على أن يبوح بما يملأ صدره بالشك.

أما ابنه أيوب، المبتلى ليس فقط بالمرض كما سنعرف، بل أيضاً بالعجز عن إقناع المحيطين به وجذبهم إلى فكرته القائمة على تأدية صلاة خاصة علّها تُذهب البلاء عنهم، وتعيد الغياب، وهي صلاة حملت الرواية اسمها "صلاة القلق"، واستمدته من حياتهم القائمة عليه.

غلاف رواية "صلاة القلق"

أيوب "مبتلى" أيضاً بذرّية من إناث، لهذا ستنقطع سيرته في موته كما هو المعتقد السائد، وما زاد ابتلاءَه هو القهرُ الذي خيّم عليه حين علم أنه قد رُزق بصبيّ لكن القابلة خنقته لأنه مشوّه بستة أصابع في كل يد.

فالقابلة وداد كانت تقوم بعملية اصطفاء مدروسة، وتتخلص من كل طفل ذي عاهة لتوفر التعب عليه وعلى أهله في هذه الحياة.

في القرية كان هناك ناجون من المرض، فشاهي الغجرية الهاربة من قبيلتها بعد تعرّضها للتحرش، سكنت القرية تحت رعاية القابلة وداد، وفتحت حانةً كان يرتادها جميع السكان بمن فيهم الشيخ جعفر قبل وفاته، وابنه أيوب، وهربت من القرية قبل حدوث الهياج.

تُروى الحكاية على لسان حكيم كجلسات علاج، فيتكلم عبر الورق ناطقاً بلسان الحبر وأقوال سكان القرية الذين كانوا يحدثونه ويسمعهم ويبادلونه الحب والعطف برغم كراهيتهم لوالده الذي زرع بينه وبينهم مسافة السلطة، وأتى بتمثال ضخم زعم أنه للزعيم جمال عبد الناصر، لكن أحدهم قام بشطر التمثال ومن يومها وهو يتجول في الليل، وينال من النساء والأولاد الذين يتأخرون في الحقول منتهكاً شرف البسطاء بينما هم يتغنون برجولته التي حُرم الرجال منها. وصل بهم الأمر إلى تقديس الزعيم وتغيير آيات في القرآن لتتضمن اسمه.

بين تلك الرمزية وهذه المباشرة، يتحرك السرد راسماً الجوّ العام للرواية؛ فمنذ البداية يهدي الكاتب روايته "إلى جموع الصامتين الذين شهدوا على كل تاريخ لم يُكتب بعد"، ويأتي اختيار اسم القرية واختيار اسم الناجي الذي يدوّن تاريخ القرية مقطوع اللسان، بينما تنظر الشخصيات جميعها إلى الخارج على أنه مسؤول عن وضعها دون أن تدرك أن العلة فيها، إذ تعيش وساوس وهلوسات المرض.

كان حكيم يفضح الواقع أمام الناس بكتابة عبارات على الجدران ليلاً، فاضحاً فسادهم وحقيقة أفعالهم التي يوارونها وراء نقمتهم من النيزك والحكومة؛ تلك القوى التي تهزمهم بينما يستنزفهم الجهل.

في بداية كل فصل أو جلسة، هناك أغنية لعبد الحليم حافظ، كما لو كانت الموسيقى التصويرية لكل جلسة، وكأن الكاتب أراد أن يتجه بنا إلى تخيّل السرد كمشهد سينمائي متقطع.

أتت الرواية بقلم الناجي حكيم على شكل جلسات، لكن هذا يبقى خفياً علينا حتى النهاية، لذا أتى السرد عبر تعدد الأصوات أو ما يسمّى بـ"البوليفينية"، فتقمّص السارد الشخصيات وعرّاها من الداخل، لكن تناوُل الأحداث ذاتها وفي حدود المكان الواحد، أوقعه في التكرار برغم اختلاف الشخصيات، سواءً في الوصف أو التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات وصولاً إلى الجوّ العام السائد، ما أفقد السرد رشاقته أحياناً، بينما التبس الوصف في حالات أخرى بين واقع الأشخاص وكأنهم سكّان توابيت، وبين ما يأتي في السياق من روائح تعجّ بالحياة كماء الورد ورائحة المسك ورائحة الخبز الطازج التي توحي بحميمية المكان والجمال الخالص، وكأن هذا كله خليط من الذاكرة والهواجس والهلوسات.

هناك تجارب روائية مهمة وعديدة قامت على تأثير الحالات المرضية أو الوباء، كرواية "العمى" لساراماغو، لكنها اعتمدت في البناء الروائي على حالة افتراضية، بينما استثمر محمد سمير ندا، الواقعَ، لبناء متخيّل بإسقاطات الرمزية 

كان بإمكاننا لمس طغيان شخصية الكاتب على بعض الشخصيات، حين كانت تتحدث بلغة تفوق إمكاناتها اللغوية والأدبية، كما حين تتحدث شاهي عن نفسها، وتصف نفسها بالشجرة المثمرة أو حين تربط نفسها في الحلم مع خريطة فلسطين، وحين تتساءل كيف غرق النسّاج؟ هل غرق قبل أن تضمّه الترعة في عناق أبدي وهل الغرق مشروط بالماء؟ وفي حديث النسّاج مع أولاده عن التغيرات التي تطرأ على أجسادهم عند البلوغ.

يأخذنا الكاتب باختيار ذكي إلى المكان والحوادث ليضع رموزه في عهدة القارئ، ففي الجسد الكبير للرواية أجساد حكايات أخرى، كحكاية الريماوي الذي كان رفيق عبد القادر الحسيني، المناضل الفلسطيني المعروف. يقول زكريا النسّاج لابنه: "ما كنّا استُعبدنا لو أعنتم أبي ورفاقه".

ظهرت شخصية السارد الشاب، قويةً واعيةً ومدركةً للأحداث وتقلّباتها، وراصدةً لعلاقة الأحداث العامة في البلاد مع أحداث النجع المحاصر المنسي، وكان من المفارقات الذكية أن يكون مقطوع اللسان أخرس، وهو حال السكان الذين وُهبوا الكلام وبقي كلامهم في حيز الهلوسة والنسيان.

جعل الشاب الأخرس القلم لساناً لكل الشخصيات، وتكلّم عنهم، وأفصح عن مكنوناتهم، ليرسم لوحةً لِما ظل حبيس الصدور.

هناك تجارب روائية مهمة وعديدة قامت على تأثير الحالات المرضية أو الوباء، كرواية "العمى" لساراماغو، لكنها اعتمدت في البناء الروائي على حالة افتراضية، بينما استثمر محمد سمير ندا، الواقعَ، لبناء متخيّل محمّلٍ بإسقاطات رمزية ليصل إلى القارئ بسهولة ويجعله يتوقف ملياً بينما يقرأ رواية "صلاة القلق".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image