شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الرواية التي ظلمها شارع فيصل

الرواية التي ظلمها شارع فيصل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الخميس 6 يونيو 202401:52 م

لبعض الكتّاب أعمال محظوظة، أحياناً عمل واحد، لا يشبه بيضة الديك، لكنه يحظى بجاذبية تحجب الأعمال الأخرى، وتضعها في الظل، بتأثير ظرف خاص أو عمومي، وربما من دون سبب مفهوم.

يحيى حقي أصابته لعنة "قنديل أم هاشم". ولعل "عرس الزين" للطيب صالح أهم من "موسم الهجرة إلى الشمال" التي وضعها رجاء النقاش تحت الأضواء، بمقاله "الطيب صالح... عبقرية روائية جديدة"، مؤكداً "ميلاد عبقرية جديدة في سماء الرواية العربية"، فضلاً عن إعادة نشرها في سلسلة في "روايات الهلال". والنقاد الكسالى يذكرون "الحرام"، رواية وحيدة ليوسف إدريس، لسبب غير أدبي، لأن روايته الأولى "البيضاء"، الأكثر تدفقاً وعمقاً، تدين التجربة الشيوعية في مصر.

لبعض الكتّاب أعمال محظوظة، أحياناً عمل واحد، لا يشبه بيضة الديك، لكنه يحظى بجاذبية تحجب الأعمال الأخرى، وتضعها في الظل، بتأثير ظرف خاص أو عمومي، وربما من دون سبب مفهوم

غابرييل غارسيا ماركيز كان ضحية هذا المصير معكوساً، حتى إن أضواء نوبل، الكفيلة بإنارة أي عمل يحمل اسمه، لا تهتم بروايته الأولى "عاصفة الأوراق". هل تجاهلها بعد أن تجاوزها؟ ولماذا تخلو منها قائمة أعماله؟ وإذا كانت عناوين رواياته تتنافس في قمة واسعة، فإن هذه الرواية المبكرة تظل مظلومة، وأفسّر ظلمها في مصر بمغادرة النقاد ومدرّسي النقد شارع فيصل، إذ جذبتهم ضواحي الأثرياء، والأحياء الجديدة الأقل صخباً والأكثر تحفظاً، أما أندية القراءة في صفحات التواصل الاجتماعي فهي تهتم بالكتب الرائجة الضخمة، الكومبو، ذات كعب كبير يلائم التباهي، وصور استعراض المقتنيات في الأيدي، وعلى الأرفف، وعززت جوائز النفط هذا الاتجاه، حجماً وكيفاً.

غلاف كتاب "موسم الهجرة إلى شمال"

شارع فيصل ربما هو الأكثر ازدحاماً وبطئاً في مصر، ويحلو للناجين منه القسم ألا يعودوا إليه إلا اضطراراً، ولا يعلمون أن المغادرة حرمتهم نعمة اكتشاف كتب مهمة، نحيلة من فرط الخفة، مثل رواية ماركيز "الأوراق الذابلة"، التي ترجمها إلى العربية مصطفى عبود بعنوان "عاصفة الأوراق".

ومنذ سنوات قررت التغلب على معاناة الشارع، ساعة أو أكثر في الذهاب، ومثلها في الرجوع، فلماذا لا أصطحب كتاباً رشيقاً، يزيد قليلاً على مئة صفحة؟ تجربة أنستني الضجر، واستعجال الحركة، والشتائم والخناقات، وهذا يلزمه اختيار مقعد خلفي في الميكروباص يمنع التطفّل، بالنظر والأسئلة، ويعفيني من مسؤولية لمّ الأجرة، وتحمّل ما يسقط من الفكّة تحت المقاعد.

نسيت متى اقتنيت "عاصفة الأوراق"، ولماذا لم أضعها مع أعمال ماركيز في المكتبة؟ ظلتْ تائهة على المكتب، وسط كتب مثلها، صغيرة القطع، مرشحة لصحبة الميكروباص في رحلة الخروج من شارع فيصل، وبعضها نحيل؛ فلا يتسع الكعب لكتابة اسم المؤلف والعنوان، وفي البداية أنكرت الرواية، لولا أن النسخة تحمل شعار جريدة "السفير" البيروتية، وهي ثمرة مشروع "الكتاب للجميع"، وكانت تُوزع مجاناً في بضع دول عربية، وفي مصر كانت صحيفة "القاهرة" تعنى بكتابة مقدمة للكتب، فرواية جوزيه ساراماغو "كل الأسماء"، ترجمة صالح علماني، نشرت في جزأين، وكتب أستاذ الأدب الإسباني الدكتور حامد أبو أحمد مقدمة طويلة، ثماني عشرة صفحة، للتعريف بالمؤلف وعالمه.

غلاف كتاب "عاصفة الأوراق"

في "عاصفة الأوراق"، تخلّى المترجم مصطفى عبود عن القراء، فلم يكتب مقدمة تضع الرواية في سياق أعمال المؤلف، وأخلى المسرح لأبطال الرواية، وسرعان ما يجد القارئ نفسه في عوالم ماركيز، بداية من المقدمة عن الزوبعة الإنسانية المترتبة على تأسيس شركة الموز، وتنتهي المقدمة بتوقيع "ماكوندو 1909"، وهي القرية الأسطورية التي عرفها قراء الأدب الرفيع في العالم، بعد حصول ماركيز على جائزة نوبل، واقتران اسمه برواية "مئة عام من العزلة"، وارتباط الرواية بأماكن مثل قرية ماكوندو، والكولونيل أورليانو بوينديا. وفي "عاصفة الأوراق" المنشورة عام 1955 بذور أنماها المؤلف طوال اثني عشر عاما، وأثمرت عام 1967 روايته الكبرى "مئة عام من العزلة".

في القرن التاسع عشر، قال ستيفان مالارميه: "لا يوجد، في الحقيقة، سوى كتاب واحد، يحاول تأليفَه كل الكتّاب، حتى النوابغ، من دون أن يدري". قد تستبد قصة قصيرة بكاتبها، فتنهض ولا تتركه إلا بعد استيفاء شرطها الفني بإتمام إنضاجها روائياً. وفي "عاصفة الأوراق"، وددتُ لو أغناني ناقد بدراسة تكشف شيئاً من المكر الفني للمؤلف، وماذا كتب خلال اثني عشر عاماً، لكي تكتمل روايته "مئة عام من العزلة"، وقد وصفها مترجمها المصري سليمان العطار بأنها أمثولة تعيد تأليف "سفر التكوين" لشعب أمريكا الوسطى، وربما "لنا"، نحن أبناء العالم الثالث. لكن النقاد تركوا شارع فيصل، ولا يركبون الميكروباص، فلم تصادفهم هذه الرواية.

حتى أضواء نوبل، الكفيلة بإنارة أي عمل يحمل اسمه، لا تهتم برواية ماركيز الأولى "عاصفة الأوراق". هل تجاهلها بعد أن تجاوزها؟ ولماذا تخلو منها قائمة أعماله؟ 

وكما يُظلم مؤلف باكتفاء اسمه برواية محظوظة "ظالمة"، فإن عملاً للمؤلف يُظلم لمقارنته بأعماله الكبرى، ولو كتب مؤلف آخر "عاصفة الأوراق" لاهتم به النقاد، حتى الذين لا يقيمون في شارع فيصل، أما ماركيز فهو يريح النقاد الكسالى بوفرة الكتابات عن أعماله الشهيرة، فتتناسل الدراسات الجادة كتاباتٍ انطباعية، وبخاصة عن أعمال صارت عناوينها تغطي شبكة من السلوك والمفاهيم وتغذّي مستهلكي الاقتباسات السهلة، فما أكثر التنويعات على عناوين مثل "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، "الجنرال في متاهته"، "الحب في زمن الكوليرا"، وكذلك "غرفة تخصّ المرء وحده" لفرجينيا وولف. والكسالى قلّدهم صغار يتفادون الاجتهاد، خشية العاقبة، فتُغنيهم دراسات سابقة، وما أكثرها عن ماركيز.

في مذكراته "عشتُ لأروي" كتب ماركيز أنه كان مسافراً مع أمه بالقطار، وعلى الطريق مرّ بمزرعة الموز الوحيدة، وقرأ اسمها على البوابة "ماكوندو"، تلك الكلمة التي تُسمّى بها المزرعة استرعت اهتمامه منذ الرحلات الأولى مع جده، "ولكنني لم أنتبه، إلا بعد أن كبرت، إلى أن إيقاعها الشعري يروقني. لم أكن قد سمعت أحداً ينطق الكلمة. حتى إنني لم أسأل عن معناها"، واستخدمها كقرية متخيلة في "عاصفة الأوراق"، وفيها شبح الكولونيل أورليانو بوينديا الذي كتب، في بنما، رسالة توصية خاصة بطبيب غريب، وحملها الطبيب إلى الكولونيل بطل "عاصفة الأوراق" التي تبدأ بانتحار ذلك الطبيب، بعد خمس وعشرين سنة أقامها في ماكوندو.

ضمنتْ "عاصفة الأوراق" الانتقال من المكتب إلى المكتبة، تؤاخي أعمال ماركيز الكبرى، الشهيرة. ستجاور عصا موسى، "مئة عام من العزلة"، جواراً آمناً في حماية طبعتين مصرية وعراقية، إلى أن يتذكرها باحث دؤوب فيطلبها

تبلغ الترجمة العربية للرواية 135 صفحة، ويتناوب على السرد كلٌ من الكولونيل المتقاعد وابنته إيزابيل وابنها الصبي. وتبدأ الرواية بالعثور على الطبيب منتحراً، ويحاول الجد أن يدفنه، "كما ينبغي أن يدفن المسيحي"، لكن هذا الإجراء الطبيعي ضد مشيئة قرية يريد أهلها ترك جثته تتعفن، غضباً عليه منذ طرقوا بابه، ليلة اجتاح البرابرة المسلحون ماكوندو، وجاءوا بالجرحى، فخاطب الناس من وراء الباب المغلق أنه نسي "كل شيء يتعلق بالطب. فخذوهم إلى مكان آخر". الطبيب الوحيد في المنطقة خذلهم، ورفض فتح الباب، فنما الغضب وانقلب "إلى مرض جماعي لم يعط الراحة لماكوندو طيلة حياتها"، وأنزلوا عليه اللعنة، بأن يتعفن في غرفته نفسها.

ماذا يفعل الجدّ، الكولونيل العجوز، في مواجهة الغضب؟ يتعاطف مع ميت غامض كان عشيقاً لخادمة هندية اسمها "ممه"، حملت منه واختفت، واُتّهم بقتلها، ودفْنها في حديقة البيت، لأنه خاف أن تستغلها القرية الغاضبة في دسّ السم له، وبموته انتهى الأمل في العثور على عظامها، فالسلطات حفرت الحديقة دون جدوى. والكولونيل رجل مؤمن، ويوماً سأل الطبيبَ: "هل تؤمن بالله؟"، والسؤال لا يثير انفعاله، وينفي أنه ملحد، "فأنا أضطرب عندما أفكر بأن الله موجود، قدر اضطرابي عندما أظن أنه شيء لا وجود له. ولهذا السبب أفضّل أن لا أفكر في هذه المسألة"، فيقدّر الكولونيل أن الطبيب "إنسان يثير اللهُ الاضطرابَ في نفسه".

ضمنتْ "عاصفة الأوراق" الانتقال من المكتب إلى المكتبة، تؤاخي أعمال ماركيز الكبرى، الشهيرة. ستجاور عصا موسى، "مئة عام من العزلة"، جواراً آمناً في حماية طبعتين مصرية وعراقية، إلى أن يتذكرها باحث دؤوب فيطلبها، ولن أبخل بها عليه، ولو لم يُعدها إليّ؛ فوعود المتعة المنتظرة من دراستها أكبر من أنانية الاقتناء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image