تناول الروائي اللبناني يوسف حبشي الأشقر (1929-1992)، مبكّراً، قضيةً من أعقد القضايا في المستويين النفسي-الوجودي والاجتماعي، وذات حساسيّة في العالم العربي على وجه الخصوص. هي قضيّة متشعّبة ومتعدّدة الوجوه للحبّ والعلاقات الجنسيّة والأُسريّة في ارتباطها مع الإيمان الديني والأزمات الشخصيّة. ففي الجزء الأول "أربعة أفراس حمر" (1964)، من ثلاثيته الروائية "الظل والصدى"، يضعنا أمام مأزوميّة أبطاله باتّخاذها وجوهاً ثلاثة: في الحبّ الغَيريّ والمساكنة خارج مؤسسة الزواج الكَنَسي، وفي المثليّة الجنسيّة، وفي ازدواجية الانجذاب الجنسي.
الصراعات إذاً، صراعات داخليّة أوّلاً، ليتراجع الصراع مع الآخر إلى المنزلة الثانية، وأهمّها صراع الغريزة (الطبيعة) مع الثقافة، بوصف أيّ معتقد ديني ثقافةً يربى الإنسان وفق تعاليمها. وفي هذا النموذج الرّوائي، المعتقد المسيحي الكاثوليكي هو المهيمن على الشخصيّات. القطب في حركة الأحداث بطل إشكاليّ يُدعى يوسف الدرعوني، الذي تبدو مأزوميته مثلّثة العلاقات، غير أنّ جذرها واحد: علاقته مع أمّه ميليا بحكم مساكنتها الخواجة سمير حالما هجرها زوجها الذي سافر بغير رجعة، وبغير طلاق أيضاً؛ وعلاقته بمها مزدوجة الميول الجنسيّة، وعلاقته بإيمانه الديني. أزمة يوسف تؤكّدها أزمة ميليا إزاء وضعها، وأمام ابنها تالياً، كما تستتبع أزمة مها في علاقتها مع جانين، القطب الثالث من العلاقة. وهذه الأخيرة (أي جانين)، ذات الميول المثليّة من دون أدنى التباس، تعاني من أزمة حادّة لا تضعها في موقف بَينيّ مثل مها، بل أمام أحد خيارين: إمّا الاستمرار مع مها، وإمّا الانتحار.
يضعنا الروائي اللبناني يوسف حبشي الأشقر أمام مأزوميّة أبطاله باتّخاذها وجوهاً ثلاثة: في الحبّ الغَيريّ والمساكنة خارج مؤسسة الزواج الكَنَسي، وفي المثليّة الجنسيّة، وفي ازدواجية الانجذاب الجنسي
هذه الإشارات تنحو بالرواية لكي تكون روايةً وجوديّةً بامتياز. وقد لاحظ الفيلسوف ميرلوبونتي، أن الأدب في القرن العشرين غدا فلسفيّاً أكثر مما كانه في أيّ فترة سابقة. وإن كانت أفكار الفرنسيَّين جان بول سارتر (الوجودي) وألبير كامو (العبثي) متمثّلةً بوضوح في الرواية، لجهة التساؤل عن معاني الحياة، والاختيار، والالتزام، والمسؤولية، والموت، ومفاهيم القلق والحبّ والفقد؛ فمفاهيم أخرى من القاموس الديني المسيحي مكرّسة أيضاً، من قبيل: الخطيئة والكفارة والاعتراف والقربانة وغيرها. وهذه المفاهيم الأخيرة هي الدافع المؤجّج للتنازع الداخلي لدى يوسف ومها، وللتأزّم في العلاقات بين الشخصيّات بوجه عامّ.
جيل الستينيات: جيل اللامبالاة أم جيل الرفض لأبطال بغير بطولة؟
تكبر بعض الشخصيات يوسف ومها بعقدٍ من الزمن، في علاقة تتعدّى كونها علاقة تجاور إلى صداقة. وتجادل في شأن الجيل، مستفهمةً عمّا إذا كان هذا الجيل (جيل يوسف ومها) جيل الرفض أو جيل القبول، وبأقلّ بكثير ممّا كانت تقبل به هي نفسها: "هؤلاء يقبلون ما رفضناه نحن ويرفضون ما كنّا نفتّش عنه... طريقة التعبير انتقلت عندهم من التفكير إلى التجسيد... يقال إنهم وجوديّون، يؤمنون بالإقبال على الحياة".
ركائز ثلاثة تشكّل مثلث الرفض لدى هذه الشخصيات، بتطلّعها ربما إلى السيطرة على "زمن سائل" (والتعبير لعالم الاجتماع زيغمونت باومن)، وإدارة مخاوفها. وهي تعرّف الزمن بأنّ حدوده الموت: "في أعماق كلّ إنسان محاولة لتجميد الزمن. منهم من يحاول ذلك بالحبّ، ومنهم بالمال، ومنهم بالعبادة". وتشبّه شخصيات الجيل السابق، مواقف الجيل الشاب بمواقف أطفال يتقلّدون أبطال وهميين، "الطفل يحرد كما تحردون".
ويعلّل أحد أبناء هذا الجيل موضع الجدل، بالقول إنه لا يؤمن بالحب الذي آمنوا هم به، ولا آمن بالاستهتار الذي آمن به من جاء بعده. وهو الجيل الذي شهد مأساة نهاية الحرب (العالمية الثانية). هذه المجادلة تقودنا إلى فهم شخصية يوسف اللامساومة، وموقفه "الصلب" إزاء الحب؛ بل مأزقيته في عدم قدرته على الحبّ. شخصيّته محيّرة في إمكانية وضعها في مقام يناسبها من التصنيف لفهمها: أهي شخصية عبثيّة (التصادم بين الإنسان العقلاني والكون المضطرب، وبوصف الوجود أمراً سخيفاً)، أم أنها وجوديةّ تبحث عن المعنى والقيمة في عالم دائم التشكّل يعتوره العطب؟!
يوسف وميليا... وليست ميليا سوى أمّه
في الواقع، فإنّ "يوسف" يشعر بالتخلّي، وبأنه الخيار الثاني وليس الأول بالنسبة إلى أمّه وإلى مها على حدّ سواء. وليس بإمكانه أن يفصل علاقته بمها عن أزمته مع أمه. وتضعنا شخصيته وجهاً لوجه أمام السؤال الفلسفي القديم: هل القدر يحدّد شخصيّة الإنسان، أم أنّ شخصيته هي من تحدّد قدره؟ وذلك حين يفصح الراوي عن دخيلة يوسف: "حياته هو، هذا النسيج من اللّو: لو لم تنشب الحرب، لو لم يسافر أبوه، لو لم يصيّف سمير في القرية، لو لم تكن جانين... لو لم يذهب لما كان التقى مها... لولا كل ذلك، كان يمكنه أن يكون ما لا يكره".
تنازع الشخصيّات بين خطابَي الإيمان الديني من ناحية، والنوازع الفطريّة والضرورة من ناحية أخرى، يتظهّر في نماذج حدَثيّة (موتيفات) ثلاثة لكلّ من يوسف ومها وجانين أمام الصليب.
إزاء وضع أمّه، يتساءل يوسف: "دينيّاً ما مصير أمّي؟ السماء؟ المطهر؟ أم جهنّم؟". ونخاله يغتبط الخواجة سمير، شريك أمه في المساكنة، لأنه عرف أن يحبّ، ووجد من يحبّه، ولكن "مروراً فوق جثة ابن... فوق محبة ابن، حياة ابن". وفي صراعه هذا، يبرّر لأمّه أيضاً حقّها في الحبّ والاختيار، والحريّة. وفي مناجاته-المحاكمة، يسأل: "من قال: على الحبّ أن يُسجن في شرائع وإرادات! أليس تعبيراً حرّاً؟ أليس أوضح صرخات الحريّة؟"، ويقرّ بأنّ الشريعة لم يكن في متناولها تقييد أمّه؛ إذ إنّها بحبّها كانت تمارس حريّتها. ويذكر وصيّةً دينيّةً تضع يقينه على المحكّ، ولعلّه يريد بها تخفيف قسوته عليها، حين يقول: "لا تزنِ، وصيّة معروفة، مشهورة، ثابتة، شائعة المخالَفة، أكثر الوصايا العشر تعرّضاً للمخالفة".
هل شُفي يوسف من جرحه؟ الإجابة: لا. ففي اعترافه في الكنيسة -بعد خمس عشرة سنةً من ترك الصلاة والاعتراف- قال إنّه ينتظر بحقد حلول العدالة؛ إذ يرى أنّ أمّه زانية بمساكنتها رجلاً، فلا يستطيع أن يغفر لها إلا إذا تركت سميراً. ويرى أنّ وجوده هو نفسه كوجود جلّاد، "كالضمير في وجهها". غير أن الكاهن يؤكّد له أن تمزّقه هذا يغفر له، بل يؤكّد حاجته إلى الغفران؛ ولا تساعده إلا المحبّة: "من يحبّ يغفر".
خطاب الكاهن يبطن قولاً ليسوع الناصري، وإن لم يصرّح به: "من كان منكم بلا خطيّة، فليرمِها أوّلاً بحجر" (يوحنا 8:7). يوسف، في قانون الكنيسة، على علاقة غير شرعية بمها؛ فكيف يحاكم غيره؟ وفي سؤال الكاهن، ما يؤكّد هذا التفسير بالكيل بمكيالين في أحكام يوسف: "ألأنها أمّك؟... ليس عليك أن تسأل لماذا لا تتركه. لماذا لا تترك امرأتك أنت؟".
رغبات جنسيّة ثنائيّة التوجّه: مها ويوسف وجانين
تنازع الشخصيّات بين خطابَي الإيمان الديني من ناحية، والنوازع الفطريّة والضرورة من ناحية أخرى، يتظهّر في نماذج حدَثيّة (موتيفات) ثلاثة لكلّ من يوسف ومها وجانين أمام الصليب، إمّا في غرفة خاصّة في مناجاة الإله، وإما في كنيسة على كرسي الاعتراف. تحدّد مها علاقتها بيوسف على أنّها علاقة حبّ باختيار، وبجانين على أنّها علاقة مسؤولية وضرورة: "لم أختَر حبّاً ثانياً"؛ تبدو مأزومةً بين القلب والواجب. هي الجريئة في مُبادَأتها الحب بتحرّشها بيوسف، وهو الذي "يحبّ منطقيّاً". ولا يعرف إن كان يحبّها حقّاً، ليفصح: "قد أكون أحبّ فيها نفسي، أحبّ فيها إنساناً يحبّني، يحتاجني، أحبّ حاجتها إليّ".
إذاً، لكلٍّ منهما مفهومه واشتراطاته للحبّ. يتهّم يوسف مها بأنّها اختارت إنساناً ثانياً غيره، ويرى أنّ الحبّ يهبط من علٍ، ولا يصعد من تحت. علاقتها بجانين مرفوضة؛ فيطالبها بحسم خيارها بين أن تبقى معه أو معها فحسب. أحبّها بلا خيال إنسان في ضميرها، قبل أن يعلم بسرّها؛ فلا يستطيع تالياً أن يغفر لها. أما هي فتجد أنّ الحبّ عنده حاجة عقليّة تحيط بها التعليلات، ويريدها تمثالاً يتحرّك وفق رغباته. وأكثر من ذلك، إنّها تربط الحب بالصلاة، فتراه وتقوى؛ "لأنه انسجام الإنسان مع نفسه حتى ثُمالة ما فيه".
كيف بدأت العلاقة بين مها وجانين؟ باختصار، فقد جمعهما الخوف من الرجل إلى حد الكراهية. والحاجة إلى الأمان والنسيان في مدرسة الدير. جانين مثال الصلابة والقدرة على التحدّي والمواجهة بالنسبة إلى مها اليافعة. وهذه الأخيرة بعد اشتداد عودها، أخرجت جانين من عزلتها ورغبتها في الانتحار. يُسبغ الراوي صفات القسوة والتزمّت والعدل على جانين، وأنّها قدوة لبنات المدرسة بثوبها المكويّ والنظيف، وتديّنها بغير التظاهر بالتقوى والتديّن. "ينبعث من مجمل شخصها سحر غريب"؛ وبالرغم من صرامتها فهي محبوبة.
الصراعات إذاً، صراعات داخليّة أوّلاً، ليتراجع الصراع مع الآخر إلى المنزلة الثانية، وأهمّها صراع الغريزة (الطبيعة) مع الثقافة، بوصف أيّ معتقد ديني ثقافةً يربى الإنسان وفق تعاليمها
لكن، لجانين سرّها، لها ما تُظهر وما تُبطن؛ وتكتشفه مها. أمام عينيها يتكشّف مشهد "العواء الصامت" المتكرّر كلّ ليلة في حديقة الدير. تسير على غير هدى بين الأشجار ليلاً، تدور حول نفسها، وهاربةً منها في الوقت نفسه. لتعود نهاراً، تلك المرأة المقفلة، المغلقة، الهادئة، بوصف الرّاوي لها. هذه الصلة الخفيّة، صلة التفاهم، هي تماماً ما انعقد بين الاثنتين: "صلة العذاب والكذب والعزلة"، وذلك قبل أيّ حوار أو تقارب جسدي بينهما.
بينيّات لم يحسمها إلا الموت-القربانة
نعود إلى السؤال الذي طُرح في البداية عن العلاقة الجدليّة بين الشخصيّة والقدر في تحديد الخيارات، لنسقطه على مها بعد يوسف. فهل شخصيّة مها دفعتها باتجاه عدم الحسم، أو أنّ الظروف مجتمعة أبقتها في طريق بَينيّ مُقلق، وفي علاقة بَينيّة مضطربة مرفوضة اجتماعياً ومحرّمة دينياً (في مجتمع الرواية)، ولا يقبلها -بطبيعة الحال- مُحبّ يستنكر علاقةً مثلّثة الأطراف، ويطالب بالوضوح؟ ويصحّ السؤال، لا شكّ، عن خيار ميليا التي حسمت موقفها؛ لتجمعها بسمير علاقة محرّمة من منظور ديني يصعّب إجراءات بطلان الزواج (المعادل للطلاق) على أقلّ تقدير، لتتكشّف مأساة الإنسان بعمقها الاغترابي، وفي سعيه المستديم -بوعي أو بغير وعي منه- إلى قهر اليقين المستبدّ.
قد لا يكون مسار الأشياء منطقيّاً، أو ربما للأحداث منطقها الخاص. وللموت ميعاد غير مفهوم. هل يأتي الموت حين نشتهيه؟ هكذا جاء حين طلبه يوسف. فقد تمنى ألّا يموت قبل أمّه، وهكذا حدث.
يعلّل إسكندر -صديق يوسف- موت هذا الأخير غرقاً، وهو لا يحسن السباحة، حين نزل في مياه البحر خلف أحد معارفه لينقذه، بأنّه "الفداء المسخّر. الموت الضريبة... الكَفارة". مهما يكن من شأن النهايات، فإنّ رؤية الروائي التي تتبّعت منظورات الشخصيات، وجعلتها تتحدث عن نفسها، لا تدين ولا تتعاطف؛ تاركةً للقرّاء حرية تعديل وجهات النظر على اختلاف مشاربهم الثقافيّة. ولا بدّ من قول أخير حول توالُد الأسئلة عمّا إذا كان الروائي يبتغي مساءلة الأيديولوجيات اليقينيّة، والدينيّة على وجه الخصوص، أو أنّها أزمة مجتمع وعصر!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.