شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بين جوليا من لبنان ويوسف من غزّة... دليلك في تراتبية الموتى وقت الحروب

بين جوليا من لبنان ويوسف من غزّة... دليلك في تراتبية الموتى وقت الحروب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 14 أكتوبر 202412:05 م

بدأت الإبادة الإسرائيلية في غزة وأنا على أعتاب إنهاء الخدمة العسكرية، أسابيع قليلة وأعود لحياتي المدنية التي تركتها منذ 13 شهراً. قبل هذه الأيام كانت الحرب الطاحنة في السودان، واليوم حرب فلسطين، ولمن لا يعرف، فالأيام الأخيرة في أي شيء هي أكثر الأيام توتراً. هل تنجلي هذه الفترة من حياتنا بهذه السهولة، أم أنه محضُ وهم، وأن حياتنا كُلها كانت هكذا، لم يكن هناك شيء آخر قبلها؟

حينما تكون في الجيش، أو الدراسة على سبيل المثال، مع مرور الأيام وعدم تبدل الأحوال، يتسلّل الشكّ إلى رأسك أنك كنت هكذا دائماً، لكن المشكلة أنه مع بدء الحرب والتوترات، في الجيش كنت أشعر أن الأيام لن تنتهي، وأن الأمور ستتحرك بخطى سريعة، حتى أجد نفسي في مكان آخر وسط الرصاص، بدلاً من استلام شهادة إنهاء الخدمة، وبسبب التوتر والضبابية، وعدم فهم الصورة الكاملة في العالم الخارجي، كنتُ أحاول متابعة كل الأخبار، واستعمال عقلي لآخر خلية، حتى أصل لاستنتاج لما سيحدث في الأيام القادمة، لعل هذا الاستنتاج يطمئنُني قليلاً، لكن مراقبة الأحداث عن قرب، جعلتني ألاحظ أموراً أخرى، أبعد مما كنت أتابعه، خاصة عن الموت، ومن كان يعتقد أن للموت حكاية أخرى أبعد مما نراها؟

مكالمة عن موت الأطفال والنساء

في أحد الأيام، كنتُ قد أنهيت مهامي في وحدتي وأتحدث مع صديقتي، وكنتُ أسألها إن كان هُناكَ جديد في الحرب، فأخبرتني أنهم يصرّون على تهجيرهم -الفلسطينيون في غزة- من بيوتهم، ثم ذكرت لي عدد الموتى من الأطفال والنساء، ولا أتذكر العدد تحديداً لكني أتذكر جملتها جيداً: "قتلوا أطفال وستات"، وهنا شعرتُ بهذا الشعور الغريب الذي لم يدخل إلى نفسي من قبل. أخذتُ الكلمتين ورسمتهم بالخيال في السماء، وظللتُ أنظر إليهما، وأفكر فيهما: "قتلوا أطفالاً ونساء". لم تذكر حتى العدد الكُلي الذي يتضمن الرجال؟ لقد تذكرت الرقم الأكثر فزعاً، العدد الذي ضرب الذاكرة من المرة الأولى، وبالتفكير قليلاً ستجد أننا نفعل هذا طوال الوقت: مات كذا من الأطفال وكذا من النساء، وبالطبع نذكر العدد الكلي.

تعودنا أن الرجال يذهبون للحرب، ويبدأون في القتال، وتعودنا أن الشجارات الكبرى في الشوارع تكون بين مجموعة من الرجال، ومن هنا بدأنا نرى أن أي ندٍ للعدو أو صاحب قوى، يمكن أن نعطيه أهمية أقلّ من الأعزل الضعيف الذي لا يستطيع أن يصد الضربات عن نفسه

لكن إذا تخيلنا أن هناك ترتيباً معيناً للموت فسنذكر النساء والأطفال أولاً، أما الرجال فالأمر أبسط قليلاً. ولا أقصد هنا أن أبدأ خطبة عصماء عن المساوة، أو شيئاً من هذا القبيل، بل مجرّد إشارة إلى مسألة أكبر وأخطر. تعودنا أن الرجال يذهبون للحرب، ويبدأون في القتال، وتعودنا أن الشجارات الكبرى في الشوارع تكون بين مجموعة من الرجال، ومن هنا بدأنا نرى أن أي ندٍ للعدو أو صاحب قوى، يمكن أن نعطيه أهمية أقل من الأعزل الضعيف الذي لا يستطيع أن يصد الضربات عن نفسه، ولكن حتى إذا كان الأمر هكذا، ففي النهاية الرجل الذي مات مع أسرته هو أيضاً أعزل، وبمقارنة منطقية، هو أيضاً ضعيف.

الرجل أيضاً يُثير الفزع والحزن أحياناً

الرجل الأعزل، الضعيف، مقارنة بغارات غادرة، يفتح لنا باباً آخر، وهو أن الرجل المدني يثير الفزع والتعاطف والبكاء أكثر من الرجل العسكري، وهنا مشكلتان، الأولى أكثرهما تعقيداً، وهي هل يريد كل العساكر والجنود أن يتركوا حياتهم، ورفاهيتهم، وأحبائهم، وأسرّتهم الدافئة، حتى يشاركوا في الحرب؟

 لا أقصد هنا حرب غزة، بل أي حرب، وأي جندي. الإجابة لا، والدليل أن هناك خدمة عسكرية إجبارية، وأنه على الشاب -أو الشابة في بعض البلاد- أن يخدم في بلاده، ويحارب فيها، سواء أراد أم لا، ويعتبر الرفض مسألة خيانة عظمى، تُعرض رقبته للمشنقة.

قرار الانسحاب من الجيش عموماً، أو حركات التمرّد ورفض الخدمة مثل التي نراها في إسرائيل، تكون سبب محاكمة وسجن وبطش وتعذيب للشخص الذي لم يتعلّم الانحناء، ولم يوافق أن يشرب خانقه الماء من جمجمته وقرّر أن يتمرّد، وهنا نصل للنقطة التي أريد توضيحها: من الذي يستحق الرثاء والحزن أكثر، الرجل المدني الذي ضُرِبَ غدراً في منزله، أم الجندي الذي يرفضُ من داخله كل ما يحدث، ويرفض حتى حمل السلاح، لكنه ذهب مجبولاً ومُضطراً مصطحباً لأحلام النجاة والعودة مرةً ثانية، غير أن رصاصةً من العدو رأت غير ما يرى، وقررت أن تُرديه هنا، فلا عودة له؟

من بعيد سيقول الإعلام إن جندياً قُتِلَ، ولن يتأثر الناس كثيراً، فمن يحمل السلاح هناك فرصة غير قليلة أن يكون ضريبةً للحرب، وموته شيء، وموت المدني شيء آخر تماماً.

والمشكلة الثانية هي الجندي الذي قرّر أن يشارك في الحرب لأن جيش المُعتدي يهدّد بلاده، فحتى إذا قرّرت أن تضحّي بروحك من أجل أهلك وبلدك، فأنت بطريقة أو بأخرى قد جُررت للأمر، لتخفيف أذى المعتدي، ففي النهاية لا يوجد إنسان طبيعي يحب أن يتغذى على الدم، ويعيش بين العظام، ومن هنا نجد أنه سواءً ذهبت للحرب إجباراً أم لهدف نبيل، فقد ساقك العدو للموت، ووقتها أنت لست غير عسكري يحمل سلاحاً، من الطبيعي أن يموت، ويأخذ نصيباً أقل من العواطف والتأثر.

تخيل معي أن أحداً أخبرك أن هناك رجلاً صغير السن في لبنان أو في غزة، يعيش بمفرده، كان يلعب على حاسوبه مع أصدقائه، قُتل صباح اليوم. هل سيكون تأثير هذا الخبر عليك هو نفسه إن عرفت أن هناك طفلاً قد قُتل أو امرأة؟

حتى الموت له معايير جمالية

يرى الفيلسوف نيتشه أن للأخلاق معايير جمالية، وببساطة شديدة، يقصد أن الإنسان يتقزز من الصرصار، فيهب مُسرعاً ليقتله بأي شيء، والعكس تماماً مع الفراشات، فالفراشات كائن جميل، حتى أنها تخطت تصنيفها البيولوجي وأصبحت خيالاً في قصائد الشعراء، ومجازاً للحبيبات الجميلات، لكن في الحقيقة، وبشكلٍ محايدٍ، الفراشات حشرات تماماً كالصراصير.

 تذكرتُ طرح نيتشه حينما مات الطفل يوسف الغزاوي من أشهر، الذي حينما كانت تبحث عنه والدته مفزوعة، واصفة إياه بملامحه الجميلة والمميزة، لكن هذا الوصف عَلِقَ في العقل العربي وتضخّم. وتذكّرت الطرح ثانية حينما ماتت جوليت من لبنان، فعلى الرغم من موت الأطفال والنساء طوال الوقت، طوال الحرب، وكأنها نغمة متصلة يخافُ عازفها أن يقطع اللحن فيملّه الناس، إلا أن هذا الموت تحديداً -جوليا ويوسف- أثّر في الناس أكثر من المُعتاد، وانتشرت صورهما كالنار في الهشيم، وأصبح الجميع يتداول وصفهما وصورهما القديمة، يوسف لأنه جميل الوجه والملامح وأبيض اللون وشعرله كيرلي، أما جوليا، فقد قيل فيها نفسُ الوصف تماماً "شعراتها كيرلي، أبيضانية، وحلوة"، وهنا نكتشف أن للموت أيضاً معايير جمالية.

تراتبية الموت

لتتخيل معي أن أحداً أخبرك أن هناك رجلاً صغير السن في لبنان أو في غزة، يعيش بمفرده، كان يلعب على حاسوبه مع أصدقائه، قُتل صباح اليوم. هل سيكون تأثير هذا الخبر عليك هو نفسه إن عرفت أن هناك طفلاً قد قُتل أو امرأة؟ في الغالب لا، لأننا نحتاج إلى أكثر القصص درامية على الإطلاق حتى نستجدي بها من حولنا ونحاول أن نُشعرهم بالذنب قدر الإمكان من خلالها، فترى في اللقاءات الصحافية مع الدبلوماسيين وكبار السياسيين، أن الصحافي يحدثهم عن قتل الطفل أو المرأة، وكأن موت الرجل أو الشاب لا يكفي لإثارة الفزع والحزن المطلوبين.

وعلى هذا كله يمكن أن نضع ترتيباً واضحاً للموت: طفل أو أنثى، بيض و"حلوين"، مثلهم مثل الأوروبي الذي سيتفاعل وقتها مع صورهم بشكلٍ واسع لأنهم يشبهونه، وبعدها نأخذ الأطفال والنساء في العموم، سواء نجحوا في إتمام صفات الجمال في العقل العربي الجماعي أم لا، وبعدهم نضع العجائز، ثم الرجال المدنيين، ثم العسكريين، ولكن بالترتيب أيضاً النساء المجندات أولاً، ثم رتبة العسكري، وفي النهاية باقي الرجال، وهؤلاء أيضاً نقسمهم إلى متزوج وأعزب. المتزوج أولاً، وكلما زاد عدد أولاده، أنزلناه منزلةً أعلى، ومن هذا الترتيب تحديداً يمكن أن نتفهّم كيف يمكن أن تغتال إسرائيل نصرالله، بعملية قتل واسعة أسقطت فيها مباني وأرواح، وفي النهاية أصبحنا نكتفي بالحديث عن نصرالله، ولا أقصد أن باقي الموتى في هذه العملية كانوا بعده في الترتيب، بل لم يأتوا من الأساس: مجرد ضريبة صغيرة لموت شخصية أهم.

أتردّدُ من بداية الحرب -الإبادة- أن أكتب عن تفضيل شهيد -قتيل- على آخر، لأني أعرفُ أن الناس ربما تنفعل من الأسطر الأولى، أو أن القريبين من الضحايا أنفسهم لن يكون لديهم صبر ومساحة كافية لهضم الكلام، لكن في النهاية لا أريد من كلامي بأي شكل من الأشكال أن أقلّل من موت أحد معين، بل على العكس تماماً، مشكلتي الأساسية هي أننا نحتاج لرفع منزلة الموتى الذين نستصغر ونقلل من موتهم، وكأنه حادث هامشي أو جانبي، أو ضريبة لشيء أهم، مشكلتي أننا نصرخ في وجه القاتل على استحياء إذا كان المقتول لا يستوفي الشروط الكافية للفزع، فبدلاً من التحسّس والقلق والتوتر ونحن نخبرهم أن المقتول لدينا طفل، يجب أن نصرخ بنفس القوة: قُتِل رجل. ألا يجب أن نصرخ في وجه إسرائيل لأن هناك أبرياء سقطوا في تنفيذ هذه المهمة؟ هذا مقصدي عموماً، أن كل روح فردية جديدة في هذا العالم، هي روح مُقدسة بمعزلٍ عن كل شيء وعن كل الاعتبارات، وإزهاق نفس إنسان واحد تستحق أن نقف عندها، دون أن نهتم بلونه، ولا جنسه، ولا سنه، ولا جنسيته، ولا شعراته كيرلي كانت أو مفرودة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image