شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
زيارة إلى ضاحية بيروت الجنوبية

زيارة إلى ضاحية بيروت الجنوبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الاثنين 14 أكتوبر 202411:27 ص

أفكّرُ كثيراً في الطريق إلى بيروت، وأنا أقودُ السيارة من طرابلس شمالاً إلى بيروت، حيث البحر والجبل، والراديو التي تذيعُ الأخبار عمّا يحدث في بيروت. أنظر إلى الساعة، كم تبقى من الوقت حتى أصل؟ أحصي الساعات والدقائق، ساعة ونصف وأكون في قلب الحدث، الحدث الذي تقرأهُ مذيعة الأخبار من الراديو، وأنا أسمع وفي طريقي إليه، من هنا إلى هناك، وأسيرُ مسرعاً. جبيل وجونية وانطلياس وبيروت الغربية، يزداد المشهد وضوحاً، ازدحامٌ شديدٌ مع درجة الحرارة العالية، أفكّر أين يذهب الناس في زحمة الحرب؟

وصلت إلى جسر الكولا، سألت عن الطريق التي تؤدي إلى الضاحية، يستغربون: لماذا تذهب إلى الضاحية؟ ألم تسمع عن التفجير؟ قلتُ للرجل الذي يقود سيارته بسرعة، ويفتح النافذة كي يجيب عن سؤالي: "أسمع التفجير لكنني أحاولُ أن أكون حريصاً بالتعامل مع الناس هنا". لا أريدُ الوقوف بين الناس، ولا أريدُ الاقتراب من السوبر ماركت أو الصيدليات، أريدُ فقط، أن أنجز عملي وأعود. وجدتُ المرأة التي كانت تستلم منّي الأوراق في العمل، كنتُ أنظر إليها، وأنظرُ إذا كانت تحمل هاتفاً في يدها، وأطمئن بأنّها خائفة مثلي في بيروت، وفي بيروت الكل يخاف من فكرة الخوف بعد التفجيرات الأخيرة.

أخرج من البناية إلى الشارع، أحاول أن أتفقد السماء، هل من طائرات قريبة؟ هل من جهاز في اليد؟ هل من مسيرة تأتي وتذهب؟ والسماء لا تكشف عن عريها، أقولُ لنفسي: ماذا لو سقطت قذيفة من أعلى وقتلتني؟ أُصبحُ شهيداً في بيروت الذي قصدتها في زمن الحرب، من أجل زيارةٍ سريعةٍ إلى الضاحية الجنوبية.

أحصي الساعات والدقائق، ساعة ونصف وأكون في قلب الحدث، الحدث الذي تقرأهُ مذيعة الأخبار من الراديو، وأنا أسمع وفي طريقي إليه، من هنا إلى هناك، وأسيرُ مسرعاً

أهلوس من الأشياء ومن التفاصيل، ومن الأسئلة. ربما، ينفجرُ المجهول بي هنا، أتبعُ دقات قلبي وأنا أمشي بين البنايات لوحدي، وأرصدُ نظرات الشاب الذي ينظر إليّ، وكأنّهُ يقول في نفسه عنّي: من هذا الشاب الطويل الذي يبحث عن الطمأنينة المفقودة في مكانٍ مثل هذا؟ هذا المكان الذي يكاد ينفجر في كلّ شيءٍ كالمعركة مع العدو المخفي في كلّ شيءٍ، من اليد حتى السماء التي لا  ضمانة على هدوئها الحذر.

أركضُ نحو السيارة كي أقودها وأهربُ من هذا الصمت المفخخ، أصعدُ وأمشي دون انتباه لأحدٍ، من الضاحية حتى جسر الكولا إلى البربير إياباً. في العودة أفكّرُ: كيف تعيش  بيروت هذا الرعب الدموي المخفي فيها؟ هل حقاً كنتُ في بيروت؟

صوتُ مذيعة الأخبار من الراديو أوهمني أن غزة تقع في بيروت أو بيروت تقع في غزة. لا أريدُ أن أغلق فمها بكبسة زر، بل أريد أن أتخيّل نفسي أنّني لم أصل إلى بيروت بعد، ولم أظهر لها خوفي عليها من غزة قادمة، فغزة لا تأتي إلى بيروت، وبيروت لم تذهب إلى غزة، لم تذهب إلى غزة إلا بالنصر المنتظر، النصر المقدس، النصر الوجودي.

تدخلُ بيروت في ذاكرتي، أستعيد تفاصيلها مع المرأة التي التقيتُ فيها بالضاحية الجنوبية لبيروت، هي التي قالت لي حين سألتها بعد التفجير: "هل أنتِ بخير بعد الذي حدث؟"، قالت: "ماذا حدث ؟ أنا لا أخاف منهم، ولا أخاف من طائراتهم ولا من مُسيّراتهم، لدي بعض الأشغال وسأكملها حتى لو قصفوني"، قلت لها: "الله يسلم"، قالت: "إن شاءالله"، ومضت إلى مكتبها غاضبة، فتخرج من مخيلتي وأنا أقتربُ من الوصول إلى جونية وجبيل، حيث يختلف الطقس والبيئة والهواء تماماً عن الضاحية، كأنّك هنا في بلدٍ آخر، يتكلمون العربية الممزوجة بالفرنسية، وليس يعنيهم ما يحدث، حتى الحدث يختلف عن الحدث الآخر، كلّ شيءٍ طبيعيّ في واقعٍ غير طبيعيّ، وفي بلدٍ ليس فيه ما يبشّر بالهدوء النسبي أو المستقبلي.

ربما، تنفجر، وربما لا تنفجر، ويظلّ المستحيل ممكناً، لا أمن ولا أمان في الشوارع، وفي الطرقات والبنايات وفي السماء الملبدة بالغيوم، لا أريد أن أقول، وأنا أنظر نحو السماء: "يبدو خريف بيروت قد بدأ". يبدو كذلك لأنّ العدوّ لا يرحم أحداً في هذا العالم الصامت، والعالم هذه المرة ليس صامتاً وكفى، بل متوحش بلا كفى.

هل تقع غزة في بيروت أم تقع بيروت في غزة؟ أردتُ الإجابة فقط: "أيّام وندخلُ في أكتوبر، تصبحون على خريفٍ جديد"

تدخلُ الأسئلة في الأسئلة، وليس في الأجوبة من شفاءٍ عن الحرب، الحرب متعدّدة الوسائل والموتُ واحد: هل نموتُ في بيروت؟ هل تقصفنا الطائرات المسيّرة ونحن في الطريق إلى الشمال؟ لا نعرفُ ماذا يخبّئ المجهول لنا، الكلُّ يبحث عن شفائه الخاص من الأسئلة، المقهى والبيت والعائلة في ساحة الدار، الكلّ يسأل عن الانفجار القادم.

أتذكر قصة صديقي هو يمشي وينظرُ فوقهُ، قلتُ له: "لماذا ترفع رأسك كالمنتصر؟"، قال: "أسمع صوت الطائرات يعوي"، قلتُ له: "ربما، أنت خائف وتهلوس"، قال: "ستقتلني"، وبعد قليلٍ، اكتشفنا أنّهُ صوت "موتير" لبائع أكياس يقترب منّا. هو الذي يصدرُ هذا الصوت، من دواليبهِ المهترئة. يا الله... صدمنا من القلق الذي نحن فيه، حتى من خيال أشعة الشمس، كنّا نتخيّلهُ مسيّرة بيضاء ستقصفنا الآن، وحين تأتي الظلال، نتأكد بأنّها أشعّة الشمس. نختبأ في أنفسنا، وفي أرواحنا. الكلّ مستهدف، لا خطوط حمراء على هذا اللحم البشري المكدّس هنا، كلّما نظرتُ من النافذة، تذكرتُ غزة، واستعدتُ الأسئلة السابقة: هل تقع غزة في بيروت أم تقع بيروت في غزة؟ أردتُ الإجابة فقط: "أيّام وندخلُ في أكتوبر، تصبحون على خريفٍ جديد".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image