شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أي قتلٍ يستطيع إنهاء الفلسطيني كلّه؟

أي قتلٍ يستطيع إنهاء الفلسطيني كلّه؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الجمعة 11 أكتوبر 202411:48 ص

قبل فترة وجيزة، دار حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول مقال كتبته، وهو مقال أتحدّث فيه عن غزّة وابتذالات الإعلام بخصوصها منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية عليها، من حيث لجوء بعض تلكَ الوسائل إلى التركيز القصدي على مظاهر المقاومة والصمود فيها، والتعتيم على كثير من مظاهر معاناة أهلها وناسها.

قلتُ لذلك الصديق بأنني أستغرب تلكَ النبرة الهجومية التي استشعرتها وأنا أقرأ تعقيبات بعض الناس على المقال، والتي تراوحت بين تعقيبات تخوّنني وتتهمني بالعمالة، وتعقيبات تتساءل عن المغزى والمقصد السرّي من وراء مقالي، وتعقيبات أخرى تتهمني بالانتماء لفصائل وأحزاب فلسطينية معينة تعادي الفصيل الحاكم في غزة، وتُشكّك في جدوى وفعالية المقاومة المسلحة التي يتبناها.

أخبرني ذلك الصديق بأنّ ردة الفعل تلك تأتي من كوني ألامس فكرة المقاومة المقدسة في أذهان الكثير من الناس، وأجيء بمقالي فأهزّ خيالات الناس المائلة إلى أسطرة الإنسان الفلسطيني عموماً، والغزّي خصوصاً، والتي تتعامل معه من منطلقات الحتميات التاريخية القائلة بوجوب صموده إلى مالانهاية طالما بقي الاحتلال الإسرائيلي على أرضه.

خيالات الناس تميل إلى أسطرة الإنسان الفلسطيني عموماً، والغزّي خصوصاً، وتتعامل معه من منطلقات الحتميات التاريخية القائلة بوجوب صموده إلى مالانهاية طالما بقي الاحتلال الإسرائيلي على أرضه

لا فكرة تعلو فوق فكرة الإنسان

في مشهد من مشاهد فيلم"V for Vendetta" يُحاول أحد عناصر النظام الشمولي (السيد كريدي) الحاكم في بريطانيا، إطلاق النار على الثائر "في" المناهض لهذا النظام، والذي يسعى لأجل إسقاطه. يُطلق كريدي طلقات متتابعة على "في" الذي يتخفّى تحت قناعه وهو يصرخ فيه: "مت، لماذا لا تموت؟ لماذا لا تموت؟"، فيردّ عليه "في": "تحت هذا القناع يوجد أكثر من اللحم. ‫تحت هذا القناع يوجد فكرة. يا سيد كريدي: ‫الأفكار مضادة للرصاص".

لعلّ فكرة المقاومة في الحالة الفلسطينية هي فكرة مضادة للرصاص، بمعنى أنّها فكرة حية وستبقى حية مهما أمعن الاحتلال الإسرائيلي في قتل وإبادة أصحابها، ورغم حياتها الدائمة في رؤوس الفلسطينيين وأذهانهم، إلا أنّ ذلك لا يَجعلها فكرة متعالية ومحصنة ضدّ نقد الرؤوس التي تَحملها كهدف واستراتيجية للتحرير.

إنّ الكثير من الفلسطينيين اليوم يضعون مشهد السابع من أكتوبر أمامهم، وفي أذهانهم أسئلة مشروعة حوله وحول فكرة المقاومة؛ حول التكتيكات التي تمّ استخدامها في هذا المشهد، وإذا ما كانت تخدم تعريف المقاومة كاستراتيجية طويلة من أجل التحرير؟ وحول نتائج الفعل المقاوم في السابع من أكتوبر، وإذا ما كان قد أيقظ العقلية الإبادوية لدى الاحتلال، وأعطاه الشرعية للإمعان في فِعل إبادة الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقّهم؟

"الفلسطيني كلّه كلّه يُقتَل؟ أي موت يستطيع إنهاء الفلسطيني كلّه؟"

إنّ الكثير من تلكَ الأسئلة النقدية التي وردت، وما زالت تَرِد، في أذهان الكثير من الفلسطينيين وغيرهم على مدار عام كامل، هي أسئلة يُتهّم أصحابها بأنّهم أصحاب نزعات إنسانية متضخّمة، لأنّهم لا يرون من المشهد في غزة سوى الدمّ والموت، ولا يُبصرون فيها سوى إنسانها المقتول والنازح والمهجّر والمحروم، والمفتقد لأدنى مقومات الحياة، والهائم على وجهه في الأرض، وكأنّه من الخطأ أن يَتعامل هؤلاء مع الإنسان كفكرة متعالية وكشعار قداسة وحيدة.

 الغزيون الذين لم يحلموا بأكثر من حياةٍ كالحياة

منذ عام كامل كلّما شاهدتُ أحداً يحيّي صمود الغزيين، أتذكّر ذلك المقطع الشعري لمحمود درويش: "ونحنُ لم نحلم بأكثر من حياةٍ كالحياة"، وأحدّث نفسي بأنّ هذا المقطع يأتي ليقوّض كلّ مظاهر أسطرة الصمود الغزّي الذي تتسابق بعض الوسائل الإعلامية على إبرازه والتذكير به، وكأنّه اختزالٌ مُطلَق لمواقف الغزيين ومشاعرهم، وكأنّ الغزيين ليس من حقهم أن يتعبوا أو يتألموا أو يقولوا: اكتفينا، وكأنّهم في مظهر صمودهم الأسطوري يخرجون من لحمهم ودمهم وآدميتهم، ليُقدّموا على مسرح هذا العالَم كأبطال خارقين، يُجابهون أعداء العالم دون أن يجرحوا أو يخدشوا أو يصيبهم أذى.

أصحاب النزعات الإنسانية يُقابِلون دعاوى "الأسطرة" بدعاوى "الأنسنة"، فهم يتطلعون إلى معاناة وأوجاع الغزيين من منطلقات مفاهيم الإنسانية الكبرى، ولسانُ حالهم يحاكِم هذه المفاهيم ويسائلها: "كيفَ نُصدّق هذا العالَم عندما يتحدث عن الإنسان؟".

كلّ مظاهر أسطرة الصمود الغزّي الذي تتسابق بعض الوسائل الإعلامية على إبرازه والتذكير به، وكأنّه اختزالٌ مُطلَق لمواقف الغزيين ومشاعرهم، وكأنّ الغزيين ليس من حقهم أن أويتعبوا أو يتألموا أو يقولوا: اكتفينا

أصحاب النزعات الإنسانية الذين يهيلهم كلّ هذا الموت

هناك مشهد من مشاهد "الزير سالِم"، يظهر فيه الزير غير مصدّق لموت أخيه كليب، وترِد على لسانه عبارة استنكارية يستنكر فيها موت أخيه ويقول: "كليبٌ كلّه كلّه يموت، أي موتٍ يستطيع إنهاء كليب كله؟". عبارة الزير هنا تجيء كتعبير عن ذلك الرفض الإنساني العميق للموت وحقيقته. إنّها عبارة تأتي لتتساءل عن القدرة الإفنائية التي يمتلكها الموت وتُمكّنه من إنهاء إنسان، ولفظة "كلّه" هنا تأتي كما لو كانت تختزل فيها الإنسان بأبعاده كافة.

"كلّه" هنا هي جسد الإنسان ونفسه وروحه وأحلامه وتاريخه وأوهامه. إنّها حزن الإنسان وفرحه وغضبه واستيائه وإعجابه وكافة التعبيرات الشعورية التي لديه. إنّها الوجوه التي مرّت في حياة الإنسان، والأحداث التي قابلها، والتحديات التي واجهها. إنّها انكساراته وأوجاعه، ونهوضه وقيامه، إنّ "كلّه" هنا هي الإنسان في أقصى حالاته، تكثيفاً وتركيباً وتعقداً وتعدّداً، أما العبارة في كلّيتها فهي ذلك التساؤل الإنساني المشروع عن تفاهة الموت في مواجهة الكلّ الإنساني، أو الكيفيات التي يمتلكها وتُمكّنه دائماً من القضاء على هذا الكلّ وإفنائه وكأنّه لم يكن شيئاً يُذكر.

أتذكّر عبارة الزير السابقة وأنا أستحضر الاتهامات التي توجّه لأصحاب النزعات الإنسانية في تطلّعهم إلى مشهد المقتلة الدائرة في غزة منذ عام، وكأنّ العالَم من حولهم يريدهم أن يتجاهلوا حقيقة كلّ هذا الموت في غزة، ويريدهم أن يستذكروا أعداد الضحايا، فلا يُهيلهم التذكّر، وألّا يسألوا عن سبب هذا التجاهل العالمي لعامل الكيانية الكلية في الإنسان الغزي والفلسطيني، وألا يرفعوا أصواتهم مستنكرين: "الفلسطيني كلّه كلّه يُقتَل؟ أيْ موت يستطيع إنهاء الفلسطيني كلّه؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image