شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الحقيقة المرّة… مشاعرنا لا تنطفئ في زمن الحرب

الحقيقة المرّة… مشاعرنا لا تنطفئ في زمن الحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الجمعة 4 أكتوبر 202410:39 ص

أكتب هذا النص وأنا لا أدري كيف أتعامل مع مشاعري خلال الاعتداءات الإسرائيلية على بلدي لبنان، وأرضي وبيتي وشعبي. كيف أرتّب أولوياتي هنا؟ مشاعري واستقراري النفسي، أم حياتي؟ في الحرب، لا يعير أحد اهتمامًا لجانب المشاعر. وللأمانة، قد يكون ذلك رد فعل طبيعياً لأشخاص دخلوا في وضعية البحث عن الأمان. كيف يمكن أن تسأل من يحمل حياته على كفه، أن يواجه مشاعره؟ ماذا تعني المشاعر أصلاً لمن فقد "حياته" لكنه بقي على قيد الحياة؟

المشهد هنا سريالي، إذ إن الحروب هي مسرح مشتعل من المشاعر، لكن التعامل معها بوعي قد يختصر الكثير من الانفجارات الجانبية.

عايشت حروباً كثيرة في المنطقة، وللأسف كونت خبرة طويلة بشأنها، وأصبح بإمكاني القول إن الحروب ليست مجرّد صراع مادي ومعارك عسكرية، بل هي كذلك ساحة مشحونة بالأبعاد النفسية والإنسانية التي تمتد لتلمس حياة كل فرد متأثر بهذه الأحداث.

في أوقات النزاعات، تتصاعد المشاعر بقوة لتطفو على السطح، حيث يتعرض الناس لاضطرابات عاطفية شديدة ومتنوعة تعكس حجم الدمار الجسدي والمعنوي الذي تخلفه الحروب. هذه المشاعر تتأرجح بين الخوف، والغضب، والألم، والأمل، والعديد من الأحاسيس الأخرى التي تترك آثاراً عميقة لا يمكن الهرب منها.

الخوف… الشعور الأساسي في زمن الحرب

عيون الناس عقب سماع صوت الصواريخ تتساقط على بيوتهم وتدمر حياتهم، تختصر كل شيء: لا أريد أن أموت. أليس هذا حقاً طبيعياً؟ إظهار الخوف في بعض الأحيان قد يواجه بالعار. وادعاء "عدم الخوف" لطالما كان سببه الهروب من وصمة "الجبن" والعار.

كيف يمكن أن تسأل من يحمل حياته على كفه، أن يواجه مشاعره؟ ماذا تعني المشاعر أصلاً لمن فقد "حياته" لكنه بقي على قيد الحياة؟ المشهد هنا سريالي، إذ إن الحروب هي مسرح مشتعل من المشاعر

لكن خذوها مني، من يدّعي عدم الخوف، هو أكبر الخائفين. الخوف هو أحد المشاعر الأكثر شيوعاً ووضوحاً في زمن الحروب. أرى في عيون الصامدين في بيوتهم، والنازحين للمدارس، ترقباً دائماً للمجهول. هنا حيث يصبح الشعور بالخطر جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية. يُخشى على الحياة، على الأحباب، وعلى المأوى. الصوت الصاخب للصواريخ والانفجارات التي تملأ السماء يثير رعباً يجعل كل شيء يبدو هشاً وغير مستقر. هذا الخوف المستمر يولّد شعوراً بالعجز أمام قوة لا يمكن السيطرة عليها، ما يؤدي إلى توتر نفسي قد يمتد لفترات طويلة بعد انتهاء الحرب.

على الناس أن تطمئن لشعور الخوف وتعبر عنه، فهو ما يجعلنا بشراً بالأساس. والتعامل معه، لا يزيدنا إلا قوة.

الغضب والإحباط… رد فعل طبيعي على الظلم والدمار

من منّا ليس غاضباً؟ كنت أقول لصديقتي منذ يومين إنني بحاجة إلى الصراخ. أريد أن أجول في شوارع ضيعتي المدمرة وأصرخ شهوراً طويلة. غضبي على الظلم والظالم، والساكت عنهما، يملأ قلبي.

خلال الحروب، غالباً ما يظهر الغضب كرد فعل طبيعي على الظلم والقسوة. نشعر بالمرارة والإحباط تجاه الكيان الذي يحاول تدمير حياتنا، وتحطيم أحلامنا، وقد أخذ منا بالفعل بعض أحبائنا. نحن سكان هذه المنطقة نشعر أننا متروكون، وأننا ضحايا استشراس إسرائيلي وصمت عالمي وتواطؤ دولي. في قلبنا قيح كبير، لكنه يمكن أن يتحوّل إلى طاقة هائلة للمقاومة والصمود، إذا وجهناه جيداً وأفلحنا في التعامل معه.

الحروب ليست مجرد صراع مادي ومعارك عسكرية، بل هي كذلك ساحة مشحونة بالأبعاد النفسية والإنسانية التي تمتد لتلمس حياة كل فرد متأثر بهذه الأحداث.

الألم والحزن… ندوب الجروح العميقة

لم أر في حياتي حزناً جماعياً يفترش الطرقات، مثل ذاك الذي رأيته عقب الإعلان عن استشهاد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله بقصف إسرائيلي. رأيت بأم عيني حزناً كبيراً لا يمكن وصفه بالكلمات. صراخ وعويل وبكاء وإغماء. كيف لخبر واحد مثل هذا أن يغلف قلوب الملايين بحزنٍ لا يمكن التعامل معه بسهولة؟ رأيت شيئاً أكبر من حزن، كان قهراً.

الحروب تترك وراءها ندوباً نفسية قد لا تُشفى بسهولة. الألم والحزن على فقدان الأحباء، أو تدمير المنازل، أو ضياع الذكريات، تكون مشاعر لا يمكن التخفيف منها بسهولة. هذه الأحاسيس العميقة تتطلب وقتاً طويلاً للشفاء، وقد تستمر على مدى الأجيال. لا يمكن فصل الألم النفسي عن الدمار الجسدي، فكلاهما يتشابكان ليشكلا تجربة مروعة يصعب تجاوزها. هذه المشاعر تجعل من الصعب العودة إلى “الحياة الطبيعية”، حيث تبقى الجراح النفسية مفتوحة لفترات طويلة.

لذا، لا ضير من الحداد. بل إنه ضروري، لإقناع العقل بأن الحزن طبيعي، ومحق، والتعامل معه واجب.

الأمل والتفاؤل… شعلة النور وسط الظلام

لن أنسى يوماً جرعات الأمل التي زودني بها النازحون على الطرقات وفي المدارس. رغم أنني نازحة أيضاً، إلا أن نزوحي "المريح" إلى شقة معقولة خلق لدي شيئاً من "عقدة الناجي"، وعليه، أقضي أيامي بين المدارس والطرقات أحاول تقديم ما استطعت من مساعدة. ولكن، وللمفارقة، فإن مفترشي الطرقات هم من يعينونني فعلياً.

بينما كنت أوزع المناقيش للعائلات التي تفترش الطرقات، غلبني العطش وقلت لزوجي: "أريد الماء." وبعد لحظات، تقدمت مني سيدة تدعى علا، وهي نازحة من بلدة جنوبية في لبنان، وأعطتني ماءً بارداً. علا الجميلة سمعتني وهرعت لشراء الماء لي. هذه الطيبة الصابرة لم تروِ عطشي فقط، بل روت قلبي وطبطبت عليه.

صرت الآن أزور المدارس والطرقات لاستنشاق الأمل من الناس.

على الرغم من الظلام الذي يحيط بأوقات الحروب، إلا أن الأمل غالباً ما يجد طريقه ليضيء القلوب. إنه القوة التي تدفع الناس لمواصلة العيش وسط الفوضى، وهو الحافز الذي يحافظ على الروح الإنسانية في مواجهة أقسى الظروف. قصص النجاة، والتضامن المجتمعي، والإيمان بإمكانية إعادة البناء تعطي الأمل في أن هناك ضوءاً في نهاية النفق، وأن الحياة ستزدهر من جديد رغم الدمار.

التضامن والتعاون… قوة المجتمعات في مواجهة الحروب

أكتب هذا المقال ونحن في اليوم التاسع للعدوان الإسرائيلي على لبنان، ويمكنني القول إنه "لولا الناس، لزاد بؤس الناس". تأخرت الدولة اللبنانية عن الاستجابة للكارثة كثيراً، لم نر حتى اليوم عملاً فعلياً لها. لكن الناس تفعل العجائب. أرى أشخاصاً يحضرون الأكل في منازلها وينقلونها للمتضررين في الشوارع. أرى آخرين تبرعوا ببضائع مشاريعهم الصغيرة، كملبوسات وألعاب، لمن هم أكثر احتياجاً إليها. 

في أوقات الحروب، غالباً ما تتزايد مشاعر التضامن والتعاون بين الأفراد. الأزمة تدفع المجتمعات للالتفاف بعضها حول بعض، لمساعدة من فقدوا أحباءهم أو منازلهم، وتقديم الدعم المادي والمعنوي. ينشأ من بين الدمار إحساس بالقوة المشتركة، إذ يشعر الأفراد بأنهم جزء من مجموعة تتشارك المعاناة والتحديات نفسها. هذا التضامن قد يكون مصدراً كبيراً للقوة النفسية في مواجهة الحروب، ويساهم في تسريع عملية التعافي بعد انتهاء النزاعات.

قد أتكلم سنين طوالاً عن تكاتف الناس، ولن أكتفي أبداً.

لم أر في حياتي حزناً جماعياً يفترش الطرقات، مثل ذاك الذي رأيته عقب الإعلان عن استشهاد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله بقصف إسرائيلي. رأيت بأم عيني حزناً كبيراً لا يمكن وصفه بالكلمات

الصدمة والإنكار… آليات دفاعية نفسية

الغارة العنيفة التي نفذتها إسرائيل على ما وصف بأنه المقر الرئيسي لحزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، كانت الأعنف على الإطلاق. نحو ثمانين طناً من المتفجرات سقطت على "أنفسنا المتعبة" وليس فقط على الضاحية. لم يعش سكان المناطق المجاورة حدثاً مثل هذا من قبل. شيء يشبه الحزام الناري، وأحاط بأحلامنا وفجر فينا صدمات لا تعد ولا تحصى. عقب ذلك، انهار الحاج محمد، وابتلع لسانه قبل أن يتمكن المسعفون من إنقاذه. الجولة في المدرسة بعد لحظات من هذا القصف كانت مؤلمة. وجوه تختزل في تعابيرها هول الصدمة. ريم، النازحة الثلاثينية، انهارت وسقطت في نوبة ذعر صارخة: "لا أريد البقاء هنا، لا أريد سماع هذه الأصوات".

منذ ذلك اليوم، وأنا أرتجف كلما سمعت باباً ينطبق بقوة.

الحروب تخلق صدمات نفسية عميقة تؤثر على الأفراد بطرق متعددة. البعض قد يلجأ إلى الإنكار كوسيلة لحماية أنفسهم من الألم الشديد، مثل الحاج أبو علي الذي كان يتجول ويقول: "شو مش متوقعين هيك أصوات؟ تعودنا". الإنكار قد يكون آلية مؤقتة للتكيف مع الفوضى والدمار، لكنه قد يتطور إلى حالة من الصدمة التي تتطلب تدخلات نفسية متخصصة لمعالجتها. على المدى البعيد، قد تؤدي الصدمات إلى اضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مما يبرز الحاجة إلى الدعم النفسي المستمر للأفراد الذين عاشوا تحت ظروف الحرب.

تقول غنى عبد الرحمن حمود، الأخصائية النفسانية العيادية، إن التعامل مع المشاعر الإنسانية ليس أمراً ثانوياً، بل هو مساوٍ في أهميته للاحتياجات الأساسية، لأن نفس الإنسان عزيزة، واحترامها يمد حياته بالطاقة والأمل، ويدفعه للتقدم.

الحروب تكشف عن المشاعر الأكثر بدائية لدى الإنسان، وتضع الأفراد في مواجهة مع مشاعرهم العميقة بطريقة لا يمكن تفاديها. من الخوف والغضب إلى الأمل والتضامن، تتنوع الأحاسيس لتشكل مزيجاً معقداً يعكس التأثير العميق للحروب على النفس البشرية

وتوضح أن تدخل المختصين يكون من خلال "الإسعافات الأولية النفسية"، التي تتضمن زرع مجموعة من العناصر لدى المتضرر من الحرب، مثل شعوري الأمان والهدوء، بالإضافة إلى حث الناس على التواصل مع الآخرين والتعبير عن مشاعرهم. وبحسب حمود، "دورنا كمختصين يكون الإصغاء والتفهم واحتواء المشاعر اللحظية التي يعبر عنها الفرد". وتضيف: "لا بد من الإشارة إلى أن التعامل مع المشاعر خلال الحروب يقتصر على مشاعر السطح، وليس التعمق في خلفيات شخصية أو صدمات قديمة".

وعن كيفية التعامل مع الوضع، تقول: "إعطاء الناس الأمل الواقعي هنا مفيد. نحاول في هذه اللحظات أن نتعامل مع الحالة بهدوء، نحاكي المنطق، بعيداً عن المشاعر والوعود المبالغ فيها، طبعاً في إطار الاحتواء والتفهم. نبدأ بالاحتواء، ثم نحاول جعل الأمور أكثر منطقية بما يهدئ من روع الشخص".

وتختم حمود بالتنبيه إلى أن "التعبير عن المشاعر يجب أن يكون عفوياً وليس بالإكراه، فليس كل الناس قادرين على التعبير عن مشاعرهم، ومساعدتهم لن تكون فعالة إذا ضغطنا عليهم". وتضيف: "في هذه الحالات نلجأ إلى أساليب أخرى، مثل الرسم، أو الأسئلة العابرة، أو الأحاديث القصصية الجانبية التي تحفزهم على الكلام، وغيرها".

الحروب تكشف عن المشاعر الأكثر بدائية لدى الإنسان، وتضع الأفراد في مواجهة مع مشاعرهم العميقة بطريقة لا يمكن تفاديها. من الخوف والغضب إلى الأمل والتضامن، تتنوع الأحاسيس لتشكل مزيجاً معقداً يعكس التأثير العميق للحروب على النفس البشرية. التعامل مع هذه المشاعر يحتاج إلى الوعي والدعم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، من أجل الشفاء والمضي قدماً نحو مستقبل أكثر استقراراً وسلاماً.

إذن، ما من مهرب. المشاعر هي نحن، واحتضانها بحب، حتى في أوقات الحرب، يعني طبطبة لأنفسنا المتعبة ومسحاً على رؤوسنا المنحنية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image