أنا لستُ بخير. جوليا استشهدت. جوليا رمضان، صديقتي الملائكيّة استشهدت. استهدفها العدو الإسرائيليّ في عين الدلب في صيدا، جنوب لبنان، لماذا؟ لأنّها مسلّحة بالجمال والنقاء والسلام.
"جوليا، شعراتها كيرلي وأبيضانيّة وحلوة". تتكرّر المأساة بين يوسف، ملاك غزّة، وجوليا ملاك الجنوب. قتلوها كي لا تقول لي: "فخورة إنّك صديقي". قتلوها كي لا تقرأ سورة البقرة وتشجّع فريق يوفنتوس وتذهب إلى نادي كمال الأجسام. ظنّت المسيّرة الخبيثة أنّها تستحق التنكيل فقط لأنها تضحك.
لم أنمْ منذ الأمس. كأنّي في برزخ لا يليه يوم القيامة. الشوارع في مدينة صور صارت ملعباً للجرذان والكلاب والقطط التي اتحدت وأجّلت خلافاتها. الذباب يغزو الشوارع بكثافة. بعض الصبية يلعبون معنا من أرقام أجنبيّة لعبة "اخلوا المكان". هي لعنة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي نقلتنا من مدينة فضاؤها واسع عظيم إلى علب محدودة، تسمح لنا أن نريق دماء بعضنا البعض.
بعض التجّار في مدينة صور تحوّلوا إلى سماسرة حرب. علبة الدخان الوطنيّة سيدرز تباع الآن بتسعين ألف ليرة. كان سعرها قبل ما بين الخمسين والستين ألف ليرة. الخبز بات يحتكر، مياه الشرب صارت حلماً لحناجرنا. القنينة تباع كأنها قنينة نفط خامّ. المدارس المكتظّة صارت عبارة عن أحشاء يغزوها العفن والجرب والجوع والعطش وبكاء الأطفال.
"جوليا، شعراتها كيرلي وأبيضانيّة وحلوة". تتكرّر المأساة بين يوسف، ملاك غزّة، وجوليا ملاك الجنوب. قتلوها كي لا تقرأ سورة البقرة وتشجّع فريق يوفنتوس وتذهب إلى نادي كمال الأجسام. ظنّت المسيّرة الخبيثة أنّها تستحق التنكيل فقط لأنها تضحك
إلى إحدى المدارس الرسميّة غرب المدينة، دخلتُ مع مراسلة قناة العربيّة كريستيان بيسري، لإجراء مقابلات وتجميع معلومات ونقل صورة الأهل. تجد هناك "فتوّة" يتحكّم بالنازحين العفويين، يفرض قبضته. فتوّة يرتدي "فانيلا". شعره أسود كثيف، يدخّن ويرتدي "شحّاطة" بلاستيكيّة مهترئة. يخبر فلان بإيماءة أن يبتعد عن الكاميرا وفلانة أن تقترب وتتكلّم. في الحرب بعضهم من شدّة العجز يصبحون لصوص حريّات، يصبحون أقوياء على شبكة واهنة من البشر.
دخلت إلى إحدى الغرف طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها. شعرها أسود طويل، لها ضفيرة وترتدي نظّارة طبيّة، تحدّق إلينا نحن الذين نحمل معدّات ونقوم بواجبنا. جذبتني عيناها الكبيرتان. فتحت شهيتي على البكاء. خلقتْ أبوّة في داخلي. كنت أريد معانقتها كأنّها طفلتي أو أختي الصغرى، أنا المحروم من الأخت، لكنني ابتسمتُ لها كابتسامة عادل إمام في أفلامه أواخر الثمانينيات، ولوّحت لها بيدي، فلوّحت لي كأنّها تقول لي: "سنلتقي يا أخي، امنحني وعداً".
مدينة صور اليوم يغزوها الصمت، الحاجة، الصراع بين أيديولوجيتي الصمود والبقاء، بين معسكر راضخ للشائعات ومعسكر مؤمن بالبقاء آمناً في بيته. أن تسمع صوت الصاروخ من على بعد 300 متر ليس بالأمر السهل. أن ترى كورنيش المدينة البحري مغطى بالردم والحجارة. أن يرعبك الحاج هيثم المرعوب أصلاً بسبب نداء كاذب بضرورة إخلاء حيّ النبي إسماعيل، هو الجحيم الذي لا يعرفه دانتي أليغري.
أخليت البارحة صيدليّة والدي. نصف كتبي هناك، كون مكتبتي عاجزة عن احتواء باقي الكتب. خطفت روايتين: "لوليتا" لفلاديمير نابكوف و"مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، واللابتوب كي أقاوم بالكتابة.
بعد وصولي بعشر دقائق، أتت غارات خمس على مناطق قريبة من منزلي. نجوت للمرة العاشرة خلال أسبوع. "هو الموت كذبتنا الصادقة"، اسمح لي يا محمود درويش، فالحب الآن أمنحه لحبيبتي شيما، كجرعات من بعد لنبقى فقط أحياء. سأعلن بعد ساعات ارتباطي بها تحت النار.
أن تعلن حبّك لامرأة تحبّك بجنونك وعصبيتك وابداعك وحزنك هو القوّة الجبّارة بوجه مسيّرات عبريّة تتلطّى خلف قبّة حديديّة عجوز.
بعض التجّار في مدينة صور تحوّلوا إلى سماسرة حرب. علبة الدخان الوطنيّة سيدرز تباع الآن بتسعين ألف ليرة. كان سعرها قبل ما بين الخمسين والستين ألف ليرة. الخبز بات يحتكر، مياه الشرب صارت حلماً لحناجرنا. القنينة تباع كأنها قنينة نفط خامّ
أكتب اليوم لأرثي كلّ تماسكي، فجوليا لم تعد معي، لم تعد "دبدوبي" هنا. طارت إلى الـ "هناك" لتعلّم الغيم كيف يتناسى أحقاده. أكتب لأنّ ثأري مع اسرائيل يكبر، ولأن ياسر عرفات في داخلي أتى حاملاً غصن الزيتون في يده والبندقية في يده الأخرى.
أكتب لأنّي اخترت أبو عمّار بكل أخطائه وكلّ محاسنه زعيماً مقاوماً، أضع صورته الكبيرة في غرفتي، ولأنّي أريد الحياة قبل كلّ شيء. أكتب لأني أستنجد تحت أنقاض عالم هشّ، أحبّ فيه الجنس، لوحات جورج غروسز، موسيقى فيفالدي وبتهوفن، شعر شوقي بزيع وأمجد ناصر، أغاني ماجدة الرومي، خليل الوزير وأبو عمّار. أكتب لأنّي أحب شيما، حبيبتي النازحة في البترون، وأمي المثقّفة الصابرة ، وأبي الصيدلانيّ المناضل المرابط في مدينته.
أكتب كي أرفع الأنقاض عنّي وأحرّر هذه البقعة من ملّالات الصمت وشبح الاختناق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي