في خضم موجة التضامن التي انتشرت، فتح البعض "قلوبهم" ظاهرياً لاستقبال النساء اللبنانيات، بمجرّد أن بدأ الناس يهربون من بيوتهم هرباً من القصف، تائهين يبحثون عن ملجأ يحمي أطفالهم وعائلاتهم. عرض البعض "خدماتهم" في الزواج وتأمين المسكن بطريقة مهينة ومغرقة في الذكوريّة، فالبعض يغمزون ويلمزون إلى جمال المرأة اللبنانية، متجاهلين ظروفها الإنسانية الصعبة.
النساء لسن مجرد ضحايا إلى جانب الرجال والأطفال في حروب يختار بعض المجرمين خوضها فقط، بل مصيبتهنّ مضاعفة. مصيبتهنّ أخلاقية وقيمية أيضاً، في مجتمعات متخلفة لا تكفّ عن رؤية النساء كـ"سلع رخيصة" يُمكن استغلالها والاعتداء عليها، حتى في أقسى الظروف الإنسانية. المرأة التي تهرب من بيتها ووطنها، مكلومة وثكلى أحياناً، تُعتبر مجرد سلعة جنسية في عيون البعض.
مع بدء النزوح، بدأت المشاركات المهينة بالانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي من عدة دول عربية، ساخرة من النساء اللبنانيات اللواتي بدأن "البحث عن العرسان وعن أماكن للسكن" برأيهم. تأفّفت بعض النساء العراقيات اللواتي ما أن انتهينّ من تريند النساء السوريات، حتى بدأ الحديث عن النساء اللبنانيات.
كذلك، أبدت نساء أردنيات استياءهنّ من هذه الوقاحة في التعامل مع معاناة الناس، وظهرت العنصرية في التعاطف أيضاً، حيث طالب البعض بإعطاء الأولوية للاجئين اللبنانيين في مصر بدلاً من السودانيين، إلى حين انتهاء الحرب.
العنصرية في التعامل مع اللاجئين ظهرت سابقاً بشكل واضح، وتطرقت إليها بعض وسائل الإعلام، حيث تم التمييز بين اللاجئين السوريين والسودانيين في مصر، بناءً على لون البشرة. فالسوريون، ببشرتهم الأفتح، والنظرة النمطية إلى المرأة السورية بأنها جميلة و"غير مكلف الزواج منها وتدلع زوجها"، مقارنة بالمصرية، ونتج عن هذه النظرة السطحية زيجات كارثية، ووجدت العديد من النساء أنفسهن في زيجات مؤقتة في مصر لأسباب عدة، منها عدم القدرة على تثبيت الزواج بسبب نقص في الأوراق الثبوتية.
بمجرّد أن بدأ الناس يهربون من بيوتهم هرباً من القصف. عرض البعض "خدماتهم" في الزواج وتأمين المسكن بطريقة مهينة ومغرقة في الذكوريّة، فالبعض يغمزون ويلمزون إلى جمال المرأة اللبنانية، متجاهلين ظروفها الإنسانية الصعبة
الفجوة بين المبادئ والتطبيق
تختفي "التحديقة الذكوريّة" في بعض الأحيان وراء المحافظة والالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية التي تحترم المرأة، الكلمات التي تستخدم كشعارات اجتماعية تُردّد لخلق صورة مثالية عن المجتمع، بينما يعكس الواقع صورة مغايرة تماماً.
تحتقر هذه الذكورية المرأة، وتضعها في مرتبة أدنى من الرجل، معتبرةً إياها مجرد سلعة جنسية يستمتع بها الرجال أو ممتلكات يمكنهم التحكم بها. وبهذا، تُجرّد المرأة من إنسانيتها وحقها في الاحترام، فتتعرّض للسخرية والاستغلال حتى في أشد الأزمات، حيث يركّز البعض على مظهرها وجنسها بدلاً من معاناتها وظروفها الصعبة.
تجلّى هذا النفاق في أبهى صوره عندما لم يفكر بعض الرجال في النساء اللبنانيات إلا كفتيات جميلات، وضمنياً كأدوات جنسية للمتعة، وهو ما عبّروا عنه بوضوح على مواقع التواصل الاجتماعي.
تعزّز وسائل التواصل الاجتماعي هذه العقليات المتحيّزة والعنصرية، حيث أصبحت منبراً مفتوحاً للتعبير عن هذه السلوكيات، ومع غياب الرقابة الذاتية والقانونية، تنتشر النكات السامة والتعليقات المهينة عن النساء واللاجئين بشكل عام، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلة وانتشارها، حتى تصبح مقبولة للسمع والضحك.
في هذه المجتمعات التي تعاني من غياب القانون وضعف الوعي بحقوق الإنسان، تجد النساء أنفسهن مُحاصرات بنظام اجتماعي يهمشهنّ ويحتقرهنّ، ويعامل قضاياهن بازدراء واستخفاف، بدلاً من العمل على إيجاد حلول حقيقية تحترم إنسانيتهنّ وحقوقهنّ.
مع غياب الرقابة الذاتية والقانونية، تنتشر النكات السامة والتعليقات المهينة عن النساء واللاجئين بشكل عام، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلة وانتشارها، حتى تصبح مقبولة للسمع والضحك
هل قبول الفكاهة الجنسية يعكس ميلاً للاعتداء؟
ينظر العديد في مجتمعاتنا إلى الفكاهة التي تقلل من شأن المرأة وتختزلها في دور جنسي أو إنجابي بعين القبول والرضا، ولا تصنف عادةً كتعابير مسيئة، على الرغم من أن العديد من الدراسات تشير إلى أن تداول هذه النكات يسهم في تعزيز او استمرار التمييز على أساس الجنس، بل وحتى ممارسة العنف ضد المرأة وتبريره. كما توضح بعض الأبحاث أن استمتاع بعض الرجال بالنكات المتحيزة جنسياً، أو إطلاقهم لها، قد يعكس ميلاً ضمنياً للاعتداء على النساء وحتى ارتكاب جرائم الاغتصاب.
هذا الموضوع يثير نقاشاً حاداً بين المدافعين عن حرية التعبير وأولئك الذين يرون في الكوميديا، بما في ذلك النكات المهينة أو المتحيّزة، شكلاً مقبولاً من الترفيه. غير أن في مجتمعاتنا، غياب الإطار القانوني وحالة الظلم التي تواجهها المرأة تجعل من النكتة أكثر من مجرد فكاهة عابرة؛ فهي قد تتحوّل إلى أداة لتعزيز الأفكار السلبية على أرض الواقع. كما أن السخرية، كي تُعدّ جزءاً مشروعاً من حرية الرأي، يجب أن تستهدف من هم في موقع القوة أو السلطة، وليس الفئات الأكثر ضعفاً.
في مقال بعنوان "إنها مجرد مزحة، أليس كذلك؟ النتائج التجريبية حول التأثيرات الجدية للفكاهة الجنسية"، تتحدّث الكاتبة والباحثة الاميركية سيلفانا ويبر، عن تأثيرات النكات المتحيزة جنسياً، مُشيرة إلى "أنها تُستخدم كوسيلة للحفاظ على الديناميكيات القائمة للسلطة وتعزيز الهياكل الاجتماعية الهرمية، مع خفض المكانة الاجتماعية للنساء وتعريض سلامتهنّ للخطر".
ترى ويبر أن قبول هذا النوع من الفكاهة يسهم في استمرار ثقافة التحيز الجنسي، ويجعل المواقف التمييزية أكثر قبولاً، ويزيد من التسامح مع التمييز ضد النساء، ويؤكد الصورة النمطية عن النساء. وفي حالة النساء اللبنانيات اللواتي ينزحنّ الآن عن بيوتهنّ إلى مدن أو دول أخرى، يظهر قبول اجتماعي للسخرية من ألمهنّ وتنميطهنّ من خلال التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي على المنشورات المسيئة، بالرغم وجود أصوات قليلة تندّد وتستنكر هذا الاعتداء.
المجتمعات المتخلفة تعشق الثنائيات: إما/أو، مع/ضد، هذا/ذاك، مقدسة/سلعة، معي/ضدي، مقاوم/صهيوني. والإنسان المقهور الذي يتماهى مع الدكتاتور الذي يحكمه، يجد أن استعباده واستغلاله للمرأة أمر طبيعي، ينظر إليه كجزء من طبيعة المرأة وخصائص كيانها البيولوجي
في كتابه "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور"، يتحدّث مصطفى حجازي عن علاقات التسلط والقهر وتخلف الذهنية، حيث تشكل المرأة مثالاً صارخاً لاستلاب الإنسان المقهور، إذ تُعتبر ملكية جماعية، وكيانها ليس ملكاً لها، فهي لا تملك حق الاختيار أو النقاش أو التفكير أو التحليل، وبالتالي عليها أن ترضخ للسلطة، وأن تكون موضوعاً وأداة، وبالتالي سلعة جنسية.
يتناول حجازي الحقد والتعصّب ومقدار العدوانية المتراكمة في لاوعي الإنسان المتخلّف المقهور، ومدى التبخيس الذي يلحق المرأة في نظام التسلط والقهر الذي يحكم المجتمع المتخلّف، فالمرأة هي محط كل تناقضات وتجاذبات الإنسان المقهور في العالم المتخلف، وتحليل وضعيتها ومكانتها يكشف أكثر من أي شيء آخر عن خصائص الوجود المتخلف ومحدوديته، حيث تصب فيها كل التبخيسات وكل المبالغات في القيمة.
فهي تُعتبر إمّا أمّاً مقدسة أو سلعة جنسية، والمجتمعات المتخلفة تعشق الثنائيات: إما/أو، مع/ضد، هذا/ذاك، مقدسة/سلعة، معي/ضدي، مقاوم/صهيوني، والإنسان المقهور الذي يتماهى مع الدكتاتور الذي يحكمه، يجد أن استعباده واستغلاله للمرأة أمر طبيعي، ينظر إليه كجزء من طبيعة المرأة وخصائص كيانها البيولوجي.
الصمت أمام السخرية والتقليل من شأننا كنساء يجعلنا شركاء في الإهانة، ويشجّع على استمرار هذه السلوكيات المتحيّزة بدلاً من مواجهتها. هذه النكات ليست مجرد تسلية، بل تعزّز خطاب كراهية يسهم في استمرار العنف ويشكل عائقاً أمام المساواة التي ننشدها.
وفي ظل غياب قوانين فعالة تحمي النساء وضعف جهود مكافحة الجريمة الإلكترونية، تعمل بجد، ومع استمرار الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا، يبقى الأمل معقوداً على الأمهات في تربية رجال يحترمون المرأة ويؤمنون بالمساواة، كما يجب أن تتكاتف النساء، متحدات ضد خطاب الكراهية والسخرية، متجاوزات الاختلافات الدينية والسياسية، لإحداث تغيير حقيقي في "ثقافتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...