شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ها هو الجنوب يتلو المآتم

ها هو الجنوب يتلو المآتم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الخميس 3 أكتوبر 202411:28 ص

أن ترى جسد إبراهيم وطفلته فاطمة، جثتين أمام جسدك الذي قاوم صاروخ العدو، صدمة لن تتخطاها شاكراً لأنك ما زلت على قيد الحياة. أن تجبر على الهروب من أمام موتهم وأنت تعلم بأنك لو وُهبت حياة شقاؤها أقل لكنت استطعت انتشالهم على الأقل، وإخراجهم من المشهد بأكمله. أن ترى فاطمة قتيلة وسط هدوء قريتها التي أخليت باكراً، ولك أن تتخيل دماءها تتطايرت على وجهك كما تطاير جسدها فوق حطام منزلها. لك أن تتخيل هذا الجرح بأنك ستضطر للمغادرة، من دون هذه الطفلة التي كانت ليلة أمس عند شرفتها تنادي أباها إبراهيم بصوت يشبه ضجيج الأحياء قبل إسكاتهم. كانت تعاون والدها على الصمود، فمن منا لديه القدرة على الجهاد بعيداً عن  نبضات قلبه؟ كما كانت حال إبراهيم قبل استشهاده وهو الذي آثر صغيرته إلى يوم الدين.

هذا العدو يعلم بأنه يستطيع أن يقترب، ليس منك بل من أولئك الذين تآلفت مع ودّهم، يعلم بأنه لا يريد أن يقتلك بل يريد منك أن ترى كيف يكون شكل هذا القتل. يهاجم من تحب ويفترسه بسلاحه الذي أنت نفسك لا تمتلكه. يعبث ويخرّب لأنه يعلم بأن رائحة الدماء تشتّت الصمود، فيقترب أكثر من أمانك ويصفع ليحول كل من حولك إلى أشلاء، وينتظر منك تلك الخطوة التي تتمنى فيها لو لم تر.

وأخيراً خرجنا من منازلنا بالإكراه. كنا نواسي بعضنا لمدة سنة كاملة ولم نكن نفقه بهذا الرعب الذي يجعل منك هشّاً لا تنتج سوى الصراخ والبكاء. هذا الرعب يهزمك وأنت الذي مرّنت نفسك طوال الحرب على غزة بأنك ستقاوم بالبقاء، بأنك ستكون تلك الجبهة التي لن تخلي ديارها ولن تهاب الدمار من حولها. كنت أرى في غزة ثقل المحن والمصائب، كنت أتابع الحرب الإسرائيلية على غزة تحت سقف داري، وكنت أشارك تلك المشاهد وأنا مهزومة مسبقاً. اليوم أعلم تماماً ما هو شعور الشهداء وهم يرسلون للعالم وصاياهم، أستعيد أصواتهم المسجّلة وهي ترتجف تحت سماء العدو.

هذا العدو يعلم بأنه يستطيع أن يقترب، ليس منك بل من أولئك الذين تآلفت مع ودّهم، يعلم بأنه لا يريد أن يقتلك بل يريد منك أن ترى كيف يكون شكل هذا القتل

كيف هو شعور من يعلم بأن إسرائيل وصلت إليه؟ لا يوصف

كيف هو شعور من يعلم بأن الغد ليس بقريب؟ لا يوصف

كيف هو شعور من يحاول التماسك قبل رحيله؟ لا يوصف

كيف هو شعور من لم يمتلك سوى التسبيح وعبارة لا اله الا الله قبل استشهاده؟ لا يوصف

كيف هو شعور الإستشهاد بصاروخ العدو؟ لا يوصف

كيف لك أن تخاطب الشهيد بعد رحيله لتؤازره على ما قاساه آخر لحظات له في الدنيا؟

كنت أقف أمام الدار مع أفراد عائلتي، قبل استهداف العدو لمنازل محاطة بنا. رأيناها تهوي بمن فيها! عمارة بأكملها أمست كأنها لم تكن. لحظات لتعاون نفسك على ما هو مترقب، تتقدم بتلك اللحظات نحو أمك وجدك تغمرهم وسط ذلك الدخان المتسارع نحوك، تتسامح وتصرخ بأنك حاولت جاهداً في هذه الحياة. تتأمّل وجوههم وكأنك عشت عمراً لم تكن تتبيّن تفاصيلها الحلوة. تنظر إلى أمك مراراً لتعاود تكرار بأنك حاولت جاهداً في هذه الحياة. لحظات هي، ومن لا يصدق بأنه عند اقترابك من الموت، كل ما لديك هو جسد يحاول ابتلاع أرواح من حوله ليجعل من جسده حصناً حصيناً يخفّف كل هذا الألم أثناء قتلهم.

ألتقي مع أمي تحت سقف كان بالأمس يأوي وضوءنا وصلاتنا. للصلاة حكمها وأحده أن تشارك ربك عبادتك وأنت ساكن متصبّر، إلا أن صواريخ العدو تلت صواريخها، واحداً تلو الآخر، فغزت سكون عبادتنا وتقرّبنا من الله عند أشد الصعاب. تلطخت صلواتنا بالدماء فأصبحت ملعونة كشرّ العدو. أقف عند أمي التي تقرأ آيات من القرآن الكريم قد حفظتها بجدارة، وكانت العادة أن أطالبها بخفض صوتها، إلا أنني أراها بتلك الآيات تلقن نفسها الشهادة قبل الاستشهاد. كانت تعلم بأننا لن ننجو رغم يقينها أن الأعمار بيد الله، فجاءت إسرائيل لتحكم أعمارنا بصواريخها.

أحاول أن أعيد ما تتلفّظ به أمي من صلاة إلا أن بكائي منعني، كنت أنتظر موتي خائفة. أريد الاقتراب من أمي لأغمرها، إلا أنني لم أفعل لأن أنقاض منزلنا هي التي ستغمرنا بعد قليل.

سمر وأمي تؤمنان بالصلاة التي ترفع البلاء، وهي الصلاة التي تساعد سمر على التوازن في جحيم الغربة بينما يهجّر أحبابها ويقتلون. هي الصلاة التي توارينا في الظل كي نقيمها لتحجب عنا موتاً لم يكن مقدّراً لنا

أخرجوني من الديار لاحقاً، وأمي بقيت هناك في القرية لأن السيارة اكتمل عدد ركابها. أرسلتني أمي بعيداً عن آياتها وهي تقترب أكثر فأكثر من الموت. رحلت ببكائي الذي لم يتوقف وأنا أنادي عليها من بعيد، لعل ندائي هذا يشتّت صواريخ العدو عن وجهها المتمايل بين آيات القرآن الكريم. لا زلت أناديها لأنه بالفعل وسأصدق بأن لمناجاتي تلك معجزة تلطفت بأمي، فخرجت هي الأخرى حية بوجهها الذي أبشر نصره بعد تمايله رعباً من صواريخ العدو.

ترسل لي أمي اليوم وصيتها، وأنا أرسل لها بأنني لن أستطيع البقاء من دونها. نعم هذا هو العدو، غير أنه يمتهن القتل فهو متمرّس في التفرقة، لأنه يعلم بأنك لن تستطيع الصمود بعد رؤية عزيز يقتل. يعلم بأنه في قتله هذا يكسر أرواحنا التي أرهقت بعد سنة كاملة. يقضي عليها ويعيد ترتيب إنجازاته أمام العالم، ليقول له: انظر، فهم الآن يتامى أرواحهم وأنفسهم. 

تفرقنا إلا أننا اليوم أقرب إلى أسماء شهدائنا. أجد سمر تنعي أستاذها. أرى وجهه ويتبين لي من خلال تلك النعوة ما تكافح من أجله سمر في غربتها بسبب هذه الحرب التي تلاحق عائلتها وكل من تعرفه. أعزّيها، هي التي تخاوت مع الحربين، فسمر من رحم فلسطين وابنة جبهة الجنوب اللبناني. تضرّرت سمر قبل ولادتها، لذلك هي تعلم ما يعنيه الاحتلال الإسرائيلي وتعلم بأن لا أمان ولا حياة إلا بزواله. ترسل لي صلواتها وتخبرني بأنه لم يعد بوسعها سوى الدعاء. سمر وأمي تؤمنان بالصلاة التي ترفع البلاء، وهي الصلاة التي تساعد سمر على التوازن في جحيم الغربة بينما يهجّر أحبابها ويقتلون. هي الصلاة التي توارينا في الظل كي نقيمها لتحجب عنا موتاً لم يكن مقدّراً لنا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image