شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن

عن "ليلة سقوط بغداد" وحكمة "برايز"... "العيب في النظام يابهايم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الخميس 3 أكتوبر 202411:17 ص

فيلم "ليلة سقوط بغداد" للمخرج محمد أمين، الذي صدر في عام 2005، هو الفيلم الذي يُستدعى الآن بكثافة، ومثّل وقت صدوره لحظة فارقة في استكشاف السينما المصرية للحالة النفسية والاجتماعية التي عصفت بالعالم العربي بعد الغزو الأمريكي للعراق. من خلال إطار كوميدي ساخر، يعرض الفيلم مخاوف المواطن المصري من التهديدات الخارجية مثل الاحتلال الأمريكي، ويعكس شعوراً عاماً بالعجز تجاه الأوضاع السياسية المتدهورة. يحاول أبطال الفيلم إيجاد وسيلة لحماية بلدهم من مصير مشابه لما حدث في بغداد، إلا أن الأحداث تأخذ منحى عبثياً يعكس اليأس الذي يسيطر على الشعوب العربية في مواجهة قوى كبرى.

في ظل هذه الأجواء، يمكن ربط الفيلم بأحداث مشابهة تعرضت لها المنطقة العربية مؤخراً، مثل اجتياح إسرائيل لغزة وجنوب لبنان. هذه الاجتياحات المتكرّرة تكرس صورة الهزيمة المتأصلة في الوعي العربي، ما يعيد إلى الأذهان مشاهد الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان. كلما تعرّضت دولة عربية للاجتياح أو الاحتلال، يعود الشعور بالعجز الذي تناوله أمين في "ليلة سقوط بغداد" إلى السطح، حيث تبدو الشعوب العربية، رغم محاولاتها المقاومة، عاجزة عن التصدّي للقوى العظمى التي تتحكم في مصيرها.

الهزيمة في هذه الحالة ليست عسكرية فقط، بل نفسية واجتماعية. فهي تجسيد لانكسار الروح العربية التي شهدت هزائم متتالية، بدءاً من فلسطين، مروراً بغزو العراق، وصولاً إلى ما يحدث اليوم من اجتياحات وتوترات في غزة وجنوب لبنان. فيلم "ليلة سقوط بغداد" يعكس هذه الأزمات بوضوح، حيث يقدّم مشهداً كاملاً لحالة التدهور والفوضى التي تعيشها الشعوب العربية، والتي تجد نفسها محاصرة بين قوى داخلية من فساد وأنظمة غير كفؤة، وبين قوى خارجية تسعى للسيطرة عليها.

وفي ظل هذه الحالة المأساوية، يظل السؤال الأكبر مطروحاً: هل تستطيع الشعوب العربية تجاوز هذا الإحباط المتجذّر واستعادة زمام المبادرة، أم أن الهزيمة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من واقعها اليومي، تتكرّر مع كل اجتياح أو غزو جديد؟

الإجابة كانت على لسان شخصية برايز في "فيلم ثقافي": "العيب في النظام يا بهايم".

فيلم "ليلة سقوط بغداد" يعكس الأزمات بوضوح، حيث يقدّم مشهداً كاملاً لحالة التدهور والفوضى التي تعيشها الشعوب العربية، والتي تجد نفسها محاصرة بين قوى داخلية من فساد وأنظمة غير كفؤة، وبين قوى خارجية تسعى للسيطرة عليها

في فيلم ثقافي، والذي أخرجه المبدع محمد أمين، ويتحدّث عن رحلة ثلاثة شباب من أجل مشاهدة فيلم إباحي، ظهرت شخصية برايز، المتحكّمة في بيع تلك الأفلام والخبير في أنظمة التليفزيون والفيديو، بما يجعله شخصية طاغية في عالم الأبطال الثلاثة، يدير رحلتهم ويسدي إليهم النصائح التي يستمع إليها الشباب صاغرين، رغم أنه لم يظهر بشخصيته سوى في مشهد واحد خاطف، قال فيه جملة واحدة خالدة: "العيب في النظام يا بهايم"، وهي جملة تحمل معنى ظاهرياً (نظام تشغيل الفيديو) أما المعنى المستتر الذي نفهمه بسرعة كمشاهدين، أنه يقصد النظام السياسي والاجتماعي، الذي يدفع شباب كسروا الثلاثين لقطع رحلة طويلة من أجل مشاهدة فيلم إباحي، دون أن يحلّ لهم ذلك النظام، أزمة من المفترض أن تكون بسيطة، كممارسة الجنس.

بمعزل عن الفيلم وقصته، ستظل تلك الجملة هي الخلاصة المركّزة، لأزمات أجيال على كافة المستويات، والمسألة لم تعد أزمة جنس، بل هزيمة على كل المستويات، يلاحقها المخرج محمد أمين في أفلامه اللاحقة، من "ليلة سقوط بغداد"، ثم "بنتين من مصر"، انتهاء بـ "فبراير الأسود".

بحسب الناقد خالد نبيل، فأفلام محمد أمين هي رحلة متكاملة من بصيص من الأمل إلى التشاؤم الصريح، إذ ما نظرنا إلى تلك الأعمال السينمائية معاً، سنرى أنه قدّم رؤى نقدية شاملة، عكست أزمات الهوية، الأمل والصراع الطبقي في مصر. قدم أمين من خلالها شخصيات معقدة وصراعات داخلية تعكس التحولات في الواقع المصري المعاصر.

البداية: الأمل في مواجهة القيود الاجتماعية

في الوسط الفني، يُقال عن معظم المخرجين إن أسلوبهم يتضح بعد الفيلم الخامس، أو الرابع، أو حتى الثالث، ولكن المخرج الذي سنتحدّث عنه اليوم عرف منهجه جيداً قبل أن يبدأ. ولهذا السبب نُقدِّم لكم مخرج الكوميديا السوداء، محمد أمين. وكما نتناول في سلسلة "المخرج عايز كده"، فإن لكل مخرج شيئاً يريد قوله، شيئاً أثّر فيه أو تأثّر به، ويتخذ هذا النهج كرسالة يريد إيصالها دائماً من خلال أعماله.

محمد أمين لم يقدّم عدداً كبيراً من الأفلام كما فعل مخرجون آخرون،  لكنه مع ذلك يُعدُّ مخرجاً كبيراً، ليس فقط بسبب قوة الأفلام التي قدمها على الرغم من قلتها، ولكن لأنه يمثل سينما المخرج؛ السينما التي ترى فيها المخرج يكتب ويخرج لنفسه، ويخلق لنفسه عالماً خاصاً من الشخصيات. كما فعل المخرج محمد خان مع ثلاثية "فارس"، وداوود عبد السيد مع "يحيى". كذلك محمد أمين فعل مع "طارق"، الشخصية التي ظلت تتحول من فيلم إلى آخر.

في أول أعماله البارزة، فيلم ثقافي" عام (2000)، رسم محمد أمين صورة واقعية وصريحة عن جيل كامل من الشباب المصري المحبط، الذي يسعى وراء تحقيق أحلام بسيطة في ظل نظام اجتماعي صارم. الفيلم يسرد قصة ثلاثة شباب يواجهون صعوبة بالغة في مشاهدة فيلم إباحي، ما يعكس أزمة الحرمان الجنسي، ولكنه يرمز أيضاً إلى أزمات أعمق، مثل التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه الشباب. الفيلم لم يكن مجرد رحلة هزلية لهؤلاء الشباب، بل كان تصويراً لحالة من الكبت الاجتماعي التي تجبر الأفراد على السعي وراء أبسط حقوقهم الشخصية.

ظهرت شخصية "طارق"، التي لعبها أحمد عزمي، أحد أبطال الفيلم، كشاب طموح يرمز للأمل في التغيير الاجتماعي، فهو مهتم بالتعليم التكنولوجي ويحاول تطوير نفسه وسط هذه القيود. هذه الشخصية تمثل بداية رؤية محمد أمين المتفائلة حول قدرة الشباب على التغيير وتحقيق أحلامهم، على الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهونها.

"العيب في النظام يابهايم"... ستظل تلك الجملة هي الخلاصة المركّزة، لأزمات أجيال على كافة المستويات، والمسألة لم تعد أزمة جنس، بل هزيمة على كل المستويات

التحول: تلاشي الأمل والتعقيد السياسي

مع مرور الوقت وتقدم عمر محمد أمين، شهدنا تغيراً في رؤيته، حيث بدأت أفلامه تعكس تعقيداً أكبر في الصراعات الاجتماعية والسياسية. "ليلة سقوط بغداد، 2005"  يمثل مرحلة جديدة في مسيرته الإبداعية، حيث أصبح الأمل الذي كان يملأ فيلمه الأول أكثر هشاشة. الفيلم يعكس حالة المجتمع المصري في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق، ويصوّر القلق والخوف من المستقبل السياسي. في هذا الفيلم، يحاول الأبطال ابتكار سلاح يحمي مصر من التهديدات الخارجية، ولكن الأحداث تأخذ منحى عبثياً يعكس العجز عن التصدي للتحديات الكبرى.

شخصية "طارق" في هذا الفيلم لم تعد تلك الشخصية المفعمة بالأمل، بل أصبحت أكثر تشاؤماً واستسلاماً للواقع المحبط. التغير الذي طرأ على هذه الشخصية يعكس التحولات التي مرت بها رؤية أمين للمجتمع المصري، حيث تبدّدت أحلام الشباب وأصبحوا عالقين في مشكلات معقدة تتجاوز قدراتهم الفردية على الحل.

في "ليلة سقوط بغداد" يعرض محمد أمين المجتمع المصري كشعب محاصر بين قوى خارجية وداخلية. القوى الخارجية ممثلة في التدخلات السياسية الكبرى، والقوى الداخلية في الفساد الذي ينهش جسد المجتمع. هذه الثنائية تُظهر كيف أن الفرد المصري ليس فقط عاجزاً عن مواجهة تحدياته الشخصية، بل أيضاً غير قادر على التصدي للقوى الأكبر التي تتحكم في مصيره.

هذا الفيلم يعكس بوضوح التحوّل في تفكير أمين؛ إذ أصبح أكثر إدراكاً لتعقيد المشاكل التي يواجهها المجتمع المصري، وأقل ثقة في قدرة الفرد أو الجماعة على تحقيق تغيير جذري. هذه الرؤية تنسجم مع تطور السياق السياسي والاجتماعي الذي شهدته مصر خلال هذه الفترة، مما يجعله فيلماً يحمل إسقاطات سياسية واضحة.

انعدام الأمل والتوجه نحو العبثية

مع تطور أعمال محمد أمين، نجد أن الأمل بدأ يتلاشى بشكل متزايد في أفلامه، وهو ما يظهر بوضوح في "فبراير الأسود، 2013" الذي يقدم رؤية أكثر قتامة لحالة المجتمع المصري، حيث لا يترك أي مجال للتفاؤل. الشخصيات في هذا الفيلم تجد نفسها عالقة في واقع عبثي، مليء بالضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من الصعب على أي فرد تحقيق تغيير حقيقي.

في هذا الفيلم، لم يعد محمد أمين يستخدم الإسقاطات المبطنة أو الرسائل غير المباشرة، بل أصبح يقدم رسائل صريحة وواضحة عن الأزمة التي يمر بها المجتمع. نرى أن المواطن المصري يعاني من فقدان الأمل في النظام الذي من المفترض أن يحقق له العدالة والكرامة. ويجسّد هذا الفيلم المرحلة الأكثر تشاؤماً في رؤية محمد أمين، حيث لم يعد الأفراد قادرين على استعادة الأمل أو تغيير مصائرهم إلا من خلال الثورة.

يقول أمين على لسان بطل الفيلم الذي لعب دوره الفنان خالد صالح: "الأمل في ظروف كتلك ليس إلا نوعاً من الوقاحة".

ما يميز أعمال محمد أمين هو تحليله العميق لليأس. شخصياته تعيش في حالة من الصراع الداخلي بين الرغبة في التغيير والإحساس بالعجز. هذا الصراع يمكن ربطه بالفلسفات الوجودية التي ترى أن الإنسان يعيش في حالة من القلق الوجودي المستمر، محاصراً بين الحرية المطلقة والواقع المقيّد

الكوميديا السوداء

على الرغم من التشاؤم الذي يميز أفلام محمد أمين الأخيرة، إلا أنه يبقى متمسّكاً بعنصر الكوميديا السوداء. هذه الكوميديا ليست مجرّد وسيلة للترفيه، بل هي أداة فنية يستخدمها للسخرية من الواقع العبثي الذي يعيشه المجتمع المصري. في أفلام مثل "فبراير الأسود"، يجد المشاهد نفسه يضحك على مواقف مأساوية، لكنها في الواقع تعكس عمق الأزمة الاجتماعية والسياسية.

من خلال هذه الكوميديا السوداء، يستطيع محمد أمين أن يخفّف من حدة الرسائل التي ينقلها في أفلامه، ما يسمح للمشاهد بالتفاعل مع الفيلم على مستويات متعدّدة. فهو يقدم الكوميديا كوسيلة للبقاء والصمود أمام الصعوبات، في الوقت الذي يستخدم فيه السخرية كأداة لتفكيك الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد.

"طارق"، الذي بدأ كرمز للأمل والطموح في "فيلم ثقافي" ومع تطور الزمن وتغير السياق الاجتماعي، أصبح "طارق" في فيلم "بنتين من مصر"، رمزاً للهجرة والاستسلام أمام قسوة الواقع. في نهاية "بنتين من مصر"، نجد طارق يرمي منديله بعد أن يبصق فيه، قبل أن يدخل طائرته للهجرة، ما يعكس قراره بعدم العودة إلى الوطن مرة أخرى ويأسه.

بدأ محمد أمين مسيرته الفنية بنبرة مفعمة بالأمل والحلم، ولكنه تدريجياً تحول إلى نظرة أكثر قتامة وواقعية، ربما نتيجة التحولات التي شهدها المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة. شخصياته تبدأ دائماً بأمل كبير في تغيير واقعها، لكنها في النهاية تواجه الواقع المرير الذي يعوق تقدمها.

في "ليلة سقوط بغداد"، الحلم الجماعي بحماية الوطن من القوى الخارجية يتلاشى أمام تعقيدات السياسة والحياة، وفي "فبراير الأسود" الأحلام الفردية تنكسر أمام المصائب الاجتماعية والاقتصادية.

ما يميز أعمال محمد أمين عن غيره من المخرجين هو تحليله العميق لليأس. شخصياته تعيش في حالة من الصراع الداخلي بين الرغبة في التغيير والإحساس بالعجز. هذا الصراع يمكن ربطه بالفلسفات الوجودية التي ترى أن الإنسان يعيش في حالة من القلق الوجودي المستمر، محاصراً بين الحرية المطلقة والواقع المقيّد. أسلوبه المميز في المزج بين الكوميديا السوداء والدراما العميقة جعله واحداً من أبرز المخرجين الذين يستطيعون أن يحركوا المشاهد للتفكير والتساؤل. أفلامه تفتح باباً لفهم أكثر تعمقاً للإنسان ومكانته في عالم متغير، ما يجعلها أعمالاً صالحة للتأمل إلى الآن.

هي رحلة في الذات والمجتمع، رحلة تعكس التحولات الكبيرة التي شهدها العالم المصري والعربي، ربما نعيش معه الآن لحظة اليأس والهزيمة الجماعية الكبرى، لكن لا نملك إزاء ذلك اليأس سوى أن نعود للمربع رقم واحد، أن نتمسّك ببصيص من الأمل كما فعلت شخصية طارق في "فيلم ثقافي"، أن نتمسّك بالأفعال الصغيرة المتاحة أمامنا، قد لا تضمن نجاتنا اليوم، لكنها قد تصير طوق نجاة لأولادنا غداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image