"أذكر حين تهجّر أهالي القصير ووصل بعضهم إلى قريتي، وكانت الأزمة حينها حديثةً في سوريا، حملت صديقتي لعائلة مهجّرة أمتعةً جديدةً أو ما نسمّيه في الدارج جهاز عرسها؛ أي وسائد حريريةً مطرّزةً، ولحافاً جديداً. بدوري، قدّمت أدوات مطبخيةً من ملاعق مذهّبة من أجل المتّة وغيرها"؛ هذا ما تقوله نور السيد، كاتبة سورية، لرصيف22، ويظهر فيه التأثير الإيجابي للحروب والأزمات على سلوك البشر، حيث يُصبحون أكثر لطفاً مع الآخرين.
الحروب تُعيد العجلات إلى سكنتها
يرى الدكتور رفيف المهنا، وهو طبيب نفسي مقيم في فرنسا، في حديثه إلى رصيف22، "أنّ الحرب تكسر صورة أننا تحت رعاية من هو قادر على كل شيء، ما يجبرنا على اتخاذ زمام المبادرة وحدنا، وهي أيضاً امتحان للأوطان، فإما أن تزداد قوةً بشريةً وتعتمد على الإنسان الحيّ المتجدد المتفهم لضعفه وحدوده، لا على وهم الانسان المثالي، وإما أن تنتهي إلى لا شيء".
ويضيف: "الحرب امتحان مفاجئ لا يمكن التدرّب عليه أو التحضير له مهما حاولنا، فالحياة في أثناء الحرب لا يمكن تخيّلها قبل الحرب، وأي محاولة للتخيل هي ناقصة دائماً وغير دقيقة".
ويختم المهنا: "الحروب عبر التاريخ، كانت وللأسف أكثر الوسائل المجدية لإعادة العجلات إلى سكنتها الطبيعية".
"الحرب تكسر صورة أننا تحت رعاية من هو قادر على كل شيء، ما يجبرنا على اتخاذ زمام المبادرة وحدنا، وهي أيضاً امتحان للأوطان، فإما أن تزداد قوةً بشريةً وتعتمد على الإنسان الحيّ المتجدد المتفهم لضعفه وحدوده، لا على وهم الانسان المثالي، وإما أن تنتهي إلى لا شيء"
في الحقيقة، إن الكثير من الأفراد، من كارل ماركس إلى فريدمان وصولاً إلى ستيف جوبز، قد زعموا بأن لحظات الأزمات، على وجه التحديد، هي التي توفر الفرص للتغيير والابتكار، فهل يمكن أن تجعلنا الحروب والأحداث السياسية الصعبة والأزمات نتقرب من بعضنا البعض؟
قد يبدو السؤال غريباً، لكنّ له أمثلةً عديدةً في التاريخ الحديث، حيث أتاحت الثورة الكوبية في العام 1959، الفرصة لنظام فيدل كاسترو لإطلاق حملة محو الأمية الوطنية الكوبية. ففي أوائل العام 1961، تطوع أكثر من ربع مليون مواطن كوبي -منهم 100 ألف شخص تحت سن الثامنة عشرة، وأكثر من نصفهم من النساء- لتعليم 700 ألف كوبي القراءة والكتابة، وكان هذا أحد أنجح برامج التعليم الجماهيري في التاريخ الحديث؛ ففي غضون عام واحد، انخفضت نسبة الأمية الوطنية من 24% إلى حوالي 4% فقط، ما يفسره متابعون بأنّ الحرب والصراع ولحظات الخطر خلقَت جواً من الألفة جعلت الكوبيين يتطوعون لمساعدة بعضهم البعض.
في الشدائد نتجاوز الخلافات
تقول علا (33 عاماً)، وهي سوريّة تعمل في لبنان: "أسعفتُ أخي إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، إثر إصابته بشظية بسيطة، وعندما خرجتُ كان هناك عدد هائل من الناس الذين لا أعرفهم، كلهم كانوا يطمئنون، وقد كانت حالة التعاطف عامةً فالجميع يسأل الجميع ويتمنى الشفاء العاجل، دون أن يعرفوا بعضهم أو انتماءاتهم".
وتكمل علا، لرصيف22: "بعد القصف الذي طال القرى الجنوبية الحدودية، نزح الآلاف واكتظت الطرق، وكان الجميع يتبادلون قوارير المياه والعصير، ويتبرعون بالطعام للأطفال العالقين في زحمة السير، حتى المارة كانوا يساعدون وهم لا يعرفون أحداً بطبيعة الحال".
بدوره، يقول محسن (37 عاماً)، وهو شاب سوري يعيش في لبنان ويعمل في فريق تطوعي، لرصيف22: "لقد بدأ الشباب السوري واللبناني بتنظيم فرقٍ تطوعية، تؤمّن ملاجئ وحاجيات أساسيةً للعائلات المهجرة، وتركز على الفئات المهمشة، وتعمل بمثابة صلة وصل بين المتبرعين والنازحين".
"بعد القصف الذي طال القرى الجنوبية الحدودية، نزح الآلاف واكتظت الطرق، وكان الجميع يتبادلون قوارير المياه والعصير، ويتبرعون بالطعام للأطفال العالقين في زحمة السير، حتى المارة كانوا يساعدون وهم لا يعرفون أحداً بطبيعة الحال"
وفي سياق متصل، يقول إسماعيل (39 عاماً)،وهو مهندس يعمل في دمشق: "بعد عام 2011، حصل انشقاق كبير في المجتمع السوري بشكل واضح، ولكنني لا أستطيع إنكار أنّ الكثير من أقاربنا الذي كنا على خلافٍ عميقٍ معهم، كانوا يتصلون بنا بعد كل تفجير أو قصف، يطمئنون علينا، خاصةً بعد إصابتي برصاصة في البطن. لقد فعلت الحرب ما لم تنجح في فعله وساطات الصلح لسنوات".
في الواقع، وجد هول وفيرنر في دراستهما، علاقةً إيجابيةً بين الضحية والثقة العامة وسلوك المساعدة والإيثار، بناءً على البيانات التي تم جمعها بين 832 لاجئاً من سوريا والعراق في تركيا في العام 2016، كما أظهرت تجربة مسح ميدانية بين اللاجئين السوريين في تركيا، أن الضحايا داخل المجموعة قوبلوا باحترام عاطفي وإيثار أكثر إيجابيةً.
خشبة النجاة
في حديثه إلى رصيف22، يعلّق الكاتب والصحافي الفلسطيني، عبد الغني سلامة، على تجارب علا ونور وإسماعيل، بالقول: "عندما يتعرض أي مجتمع لهزة عنيفة تؤدي إلى تغيير طبيعة وأنماط الحياة السائدة فيه وتتسبب في أضرار جسيمة وتهدد مستقبل الجماعة، سواء كانت كارثةً طبيعيةً أو عدواناً خارجياً، في هذه الحالة يتّحد المجتمع ويتماسك ويدرك بعقله الباطن أن توحده وتماسكه هما خشبة النجاة أو طوق الأمان الذي سينجّيهم من المحنة، فيلعب الخوف الجماعي دوراً إيجابياً في هذا الاتجاه، خاصةً مع وجود قيم أخلاقية وضوابط مجتمعية ووعي عام".
ويرى سلامة أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، مثال بارز ويشير إلى أن المجتمع في السنوات الأولى تصرّف بشكل إيجابي وتعاوني، وأظهر صوراً عديدةً من التضامن والتكافل الاجتماعي: "بالرغم من عدم وجود سلطة فلسطينية آنذاك وعدم وجود أجهزة أمنية وقضائية ومؤسسات مدنية، إلا أن المجتمع المدني أظهر صورةً متقدمةً وإيجابيةً وحافظ على الأمن والاستقرار والسلم الأهلي بدرجة مثيرة للانتباه".
ويرى أنه خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2004)، تكررت الصورة نفسها: "بقي المجتمع متماسكاً ومنضبطاً وموحداً بالرغم من أن الضغط الخارجي ومستوى العنف المسلّط من قبل الاحتلال كان أكبر بكثير مقارنةً بالانتفاضة الأولى".
وعلى نحو مشابه، بيّنت إحدى الدراسات ارتفاع منسوب اللطف والإيثار والتقارب الاجتماعي في أوكرانيا، بعد غزو روسيا في شباط/ فبراير 2022، حيث تبرع المزيد من الأشخاص بالأموال (70% مقابل 22% في العام 2019)، وساعدوا الغرباء (78% مقابل 32% في العام 2019)، وتطوعوا (37% مقابل 7% في العام 2019).
زيادة التماسك الاجتماعي
تأكيداً لما سبق، تظهر الأبحاث حول السلوكيات في أثناء حالات الطوارئ التي تهدد الحياة مثل الهجمات الإرهابية أو الحرائق أو الزلازل، أنه حتى في الظروف القصوى، فإن سلوك "الذعر الأناني" أو غير العقلاني يكون نادراً جداً مقارنةً بسلوك المساعدة التلقائي.
وهذا ما حصل مع أروى (31 عاماً)، كاتبة وموظفة حكومية، إذ تقول لرصيف22: "كنتُ في دمشق في بدايات الأزمة السورية، وكان الخطف والقنص يهددان الجميع يومياً، وما عوّضني حينها المساعدات التي تلقيتها وثبت أنها صادقة، فمنهم من كان يعرض عليّ إيصالي إلى مكان العمل، أو تقديم النقود أو الخبز من قبل الجيران".
وفي معظم الحالات، يستمر الأشخاص الذين يجدون أنفسهم فجأةً في موقف خطير للغاية في احترام القواعد الاجتماعية العادية ويساعدون الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء، مثل كبار السن والأطفال، ويظهرون تعاوناً عاماً حتى مع الغرباء.
وقد طرح العديد من الباحثين حججاً حول أسباب زيادة التماسك الاجتماعي واللطف والإيثار بعد اندلاع الحروب والصراعات، فاستعان بلاتمان بنظرية النمو بعد الصدمة (PTG) في علم النفس، التي تُعرّف على أنها تجربة التغيير الإيجابي التي تحدث نتيجةً للصراع مع أزمات الحياة الصعبة للغاية.
ويقترح آخرون أن ضحايا العنف يسعون بنشاط أكبر إلى المشاركة في الحياة العامة للعمل ضد الوصمة ومن أجل الهروب من حالة العجز والشعور بالتمكين من خلال هذا العمل، ويتحدث باور عن "آلية اقتصادية" يقرر بموجبها الأفراد التعاون بشكل أكبر من أجل زيادة السلامة الشخصية والتعامل مع الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن الحرب.
للحرب وجه آخر...
لكنّ للحرب تأثيرات أخرى لا بد من التوقف عندها، إذ إن العيش في ظل الحروب والأزمات ليس وردياً، خاصةً عندما تطول الأزمة.
في هذا السياق، تقول نور السيد، التي تبرّعت مع صديقتها بوسائد الحرير وملاعق الذهب: "حين وصلنا إلى منتصف الأزمة، واتّسعت رقعة النزوح الداخلي، اختلفت المشاعر، وأُثقلت بالهموم التي جعلت من الأخوة يتنافرون في البيت الواحد".
تضيف: "أسأل نفسي مراراً لماذا حصل ذلك؟ لعلّ الضائقة الاقتصادية والازدحام السكني هما السبب، حيث أن عائلات عدة قطنت في بيت تشاركت في أجرته، فهذا الصدع جعل من النفوس تخزّن العتب الذي ما زال قائماً بعد انقضاء المظاهر العسكرية وعودة النازحين".
"عندما يتعرض أي مجتمع لهزة عنيفة تؤدي إلى تغيير طبيعة وأنماط الحياة السائدة فيه وتتسبب في أضرار جسيمة وتهدد مستقبل الجماعة، يتّحد المجتمع ويتماسك ويدرك بعقله الباطن أن توحده وتماسكه هما خشبة النجاة أو طوق الأمان الذي سينجّيهم من المحنة، فيلعب الخوف الجماعي دوراً إيجابياً في هذا الاتجاه، خاصةً مع وجود قيم أخلاقية وضوابط مجتمعية ووعي عام"
يكشف الباحث والصحافي عبد الغني سلامة، لرصيف22، "أنّ حالة التعاطف والتقارب بين الناس في الصراعات تتناسب طردياً مع شدة الكارثة أو الضربة التي تلقاها المجتمع، ومرور الوقت يضغط بقوة باتجاه فكفكة هذه الحالة تدريجياً".
ومن المنطقيّ أن يضعف العقل الجماعي الواعي في الحروب والأزمات الشديدة، ويبدأ دور العقل الفردي المحكوم في نزعة البقاء، بمعنى آخر، يعدّ الشخص أنه يتعيّن عليه أن ينجو بنفسه، وينحصر همه في عائلته فقط، بغض النظر عن مصير الآخرين.
وبحسب سلامة، فهذا ما حصل في الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث تقارب الناس في البداية، ثم سادت الفوضى وغريزة البقاء، ويؤكد أنّ السيناريو تكرر في الحرب على غزّة بشكل مكثّف: "حافظ المجتمع على قيمة وتماسكه وتعاضده لفترة معقولة في أشهر الحرب الأولى، ولكن مع زيادة شدة العنف ومدته على غزّة، وعدم وجود أفق للحل، بدأت تظهر فوضى الطوابير والغلاء والمحسوبيات وتغوّل التجار، وبيع المساعدات بأسعار فلكية، والاستغلال البشع لحاجات النازحين لخيمة أو لغرفة مستأجرة وسرقة بيوت النازحين".
وعليه فإننا لا نستطيع إنكار حقيقة أنّ الحرب تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية، وتستدعي نزعاتها البدائية، تحت وطأة الخوف والرعب والقلق وانعدام الأمل، خاصة مع انهيار المنظمة المجتمعية، وغياب الضوابط وشيوع الفوضى، فهذه حالة متوقعة وأصابت كل المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً، وفي كل مكان.
من الجدير بالذكر أنّ كل الظواهر السلبية التي تحدثنا عنها لا تصيب بالضرورة المجتمع كله، إذ إنها عادةً تبدأ بالشرائح الضعيفة نفسياً ومادياً ووعياً، ثم تمتد ببطء إلى بقية الشرائح، لكن نواة المجتمع الصلبة المسلحة بالوعي والانتماء والإنسانية تظل صامدةً ومتماسكةً، وهي التي تعيد بناء المجتمع بعد انقضاء الأزمة وزوال التهديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع