شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نحن أبناء البلاد التعيسة... متى تبدأ حياتنا المؤجلة؟

نحن أبناء البلاد التعيسة... متى تبدأ حياتنا المؤجلة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الاثنين 12 أغسطس 202412:41 م

"ليست سنةً واحدةً هي التي تفصلنا عن حياتنا المؤجّلة تحت وطأة الحروب والاضطرابات التي تعاني منها المنطقة ولبنان خصوصاً. نحن نعاني منذ سنوات من تأجيل الأحلام التي لطالما كنّا نعدّها خلاصنا الوحيد. أنا مثلاً أحلم بالعيش مع أهلي؛ هل سمعتِ يوماً بأحد يحلم بقضاء الوقت مع أهله إلا في بلادنا المنكوبة؟"، تقول رانية، وهي لبنانية مقيمة في سويسرا منذ نحو 4 سنوات.

وتضيف لرصيف22: "منذ أن تركت ضيعتي إلى المدينة للدراسة، وأنا أشعر بأنني لم أكتفِ يوماً من لحظاتي العائلية السعيدة، وعندما غادرت مدينتي بيروت عقب انفجار المرفأ الذي كان حاسماً بالنسبة لي -إذ كنت أسكن في منطقة قريبة وحال القدر بيني وبين الموت- عزمت على الرحيل إلى سويسرا، وربما اخترتها لأنها بلد آمن لم يدخل يوماً في دوامة الصراعات السياسية والأمنية".

تكمل رانية حديثها الذي لا يخلو من لحظات صمت طويلة: "منذ 4 سنوات وأنا أحلم بالعودة لقضاء بقية حياتي مع والدي وإخوتي. أشعر بالحزن في كلّ لحظة يدخل والدي فيها إلى المستشفى ولا أستطيع الذهاب معه حتى لو كان دخوله عادياً دورياً. أما في المناسبات السعيدة، فلا أعلم، لم أنقلب إلى فتاة عاطفية تذرف الدموع بلا سابق إنذار. هل يأتي يوم أستطيع فيه الاستيقاظ يومياً والجلوس مع والدتي للحديث عن آخر تطوراتي العاطفية أو الحديث مع أبي عمّا يؤرّقه حيالنا؟ أشعر كأن الحلم يهرب مني ولا أستطيع اللحاق به. أشعر بأنني لم أبدأ بعد حياتي التي أرغب فيها، وأن كل لحظة سعادة ليست مكتملةً وتحتاج إلى الكثير لتكتمل. لا أعلم متى ستبدأ حياتنا أم ربما هذه الحياة ليست لنا".

"أحلام مؤجلة" إلى ما بعد الصراعات

"متلازمة الحياة المؤجّلة هي حالة نفسية تصيب بعض الأشخاص، تجعلهم يؤجلون أهدافهم وطموحاتهم بشكل دائم ومكرّر إلى المستقبل المجهول، والذي عادةً ما يكون غير محدّد بالنسبة إليهم. دائماً ما يبحث الفرد المصاب بالحالة عن الوقت المناسب الذي لا يجده أبداً"، هذا ما تقوله الاختصاصية النفسيّة أليسا رشدان، لرصيف22.

وتشرح أنّ العوامل النفسية التي قد تتسبّب في هذه الحالة متعدّدة: "أبرزها قلة الثقة بالنفس، وحسبان الفرد نفسه غير قادر على إنجاز الأعمال والخوف من الفشل، بجانب العوامل الخارجة عن الإرادة كالأوضاع الأمنية والاقتصادية التي قد تعاني منها البقعة الجغرافية التي يسكن فيها، وتالياً عدم الاستقرار حتى في العلاقات مع الأشخاص الآخرين، ما يدفعه إلى التأجيل باستمرار وانتظار المجهول. قد يعود السبب أيضاً إلى الطفولة وطريقة التربية التي تشهد الكثير من تأجيل الأهل لما يرغب الطفل في القيام به".

"نحن نعاني منذ سنوات من تأجيل الأحلام التي لطالما كنّا نعدّها خلاصنا الوحيد. أنا مثلاً أحلم بالعيش مع أهلي؛ هل سمعتِ يوماً بأحد يحلم بقضاء الوقت مع أهله إلا في بلادنا المنكوبة؟"

وتلفت رشدان إلى أنه "في وقت الحرب، لا يعطي الشخص الأولوية للقيام بمهام صعبة أو تحقيق مهمات وطموحات كبيرة. وبحسب تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، يهتمّ الشخص أولاً بتأمين حاجاته الفيزيولوجية كالأكل واللباس وغيرهما، تأتي بعدها الحاجة إلى الشعور بالأمان والسلامة الجسدية، من ثم تتدرّج الحاجات لتصل إلى وجود الشخص إلى جانب من يحبهم، من ثم تحقيق الذات وتحديد هدف معيّن".

وعن ظهور هذه الحالة في أوقات الأزمات، توضح أليسا أنها "قد تستمرّ حتى بعد انتهاء الاضطرابات وعودة السلام إلى المنطقة التي يقطن فيها الشخص، فيستمرّ في تقديم الحجج نفسها حتى عند عدم وجودها. وما يعزّز من حججه -في منطقة الشرق الأوسط مثلاً- هو توتّر الأوضاع بشكل دائم ومنذ سنوات، وتالياً، ينتظر الشخص المأزق التالي الذي سيحلّ بالبلاد دون القدرة على تحقيق أي شيء من أبسط المسائل في حياته كلقاء أصدقائه بشكل عادي، إلى أعظمها كتحقيق طموحاته، وتتحوّل هذه الحالة إلى متلازمة نفسية تستوجب المساعدة الطبية".

"وضعي غير طبيعي"

تقول ياسمين، الصحافية اللبنانية التي رفضت مع زوجها في البداية مغادرة لبنان وفضّلا البقاء لبدء حياتهما الزوجية في بلدهما: "من الطبيعي أن نقوم بتأجيل موعد مع أصدقائنا أو نزهة مع العائلة، ولكن ما يحصل معي من تأجيل لأهم المسائل في حياتي أعدّه غير طبيعي ولا أستطيع السيطرة عليه".

"أشعر كأن الحلم يهرب مني ولا أستطيع اللحاق به. أشعر بأنني لم أبدأ بعد حياتي التي أرغب فيها، وأن كل لحظة سعادة ليست مكتملةً وتحتاج إلى الكثير لتكتمل. لا أعلم متى ستبدأ حياتنا أم ربما هذه الحياة ليست لنا"

وبشيء من الأسى، تصف ياسمين مشاعرها العالقة، لرصيف22: "أصبحت لا أقوم بأي خطوة مهمة قد تدعم مستقبلي وتدفع بي إلى الأمام مهنياً وشخصياً. كنت أحلم ذات يوم أن أفتح المقهى الخاص بي في شوارع مدينتي بيروت التي ولدت بها، وصمّمت على العودة إليها بعد غيابي عنها لسنوات في طفولتي. عملت في أعمال متفرقة لكنني بقيت على الحلم نفسه. أما اليوم، وبعد الاضطرابات الأخيرة، فقدت شغفي بالمقهى والمدينة والبلد بأكمله. للأسف تحوّل طموحي من افتتاح مقهى إلى حلم تقسيم الراتب الشهري ليبقى صامداً معي حتى نهاية الشهر، وأحياناً إلى منتصفه. لا أعلم من يستطيع النجاح في هذه البلاد، من أين يأتي بالمال مثلاً للقيام بمشروع كهذا؟".

ومع مرور الوقت تغيّر شغف ياسمين بالبقاء، وفق ما تكشف: "لا شيء يبشّر بالخير هنا، فتجارب الهروب إلى الخارج باتت هي المسيطرة. وحتى من أكلمه عن مشروعي الخاص، أستطيع أن أرى نظرة السخرية في وجهه، أو نظرة الصدمة من ثقتي التي لم تنتهِ بلبنان/ البلد المعجزة. صرت أرغب دائماً في السفر إلى الخارج حيث الأمان المالي والاستقرار السياسي، إلا أنّ زوجي يحب البقاء هنا، ولذلك أستسلم في كل مرة بعد نقاش عقيم قد يستمر لساعات".

وتتابع: "حتى عندما طلبتِ مني الحديث عن تجربتي من أجل هذا التقرير، أجّلتُ الردّ أياماً عدة ولا أعلم لماذا! فوقتي كان يسمح بأن أقدّم شهادتي عمّا يجول في خاطري من مخاوف، لكنني لم أعد أثق بجهوزيتي لإنجاز ما أريد القيام به، أو ربما لخوفي من الوقوع في الأخطاء التي تكون عواقبها وخيمةً وتساوي ألف خطأ في هذا الوقت العصيب. حتى زواجي من الشخص الذي أحببته لسنوات وقع في دوامة التأجيل المستمرة، بسبب الأوضاع الاقتصادية. ولولا أنه أقنعني بأن الحياة ستبقى هكذا إلى الأبد في لبنان وعلينا التأقلم وتكييف مشاريعنا معها، لمّا قمت بهذا الخطوة".

عواقب وخيمة

تشرح أليسا رشدان، تأثير "متلازمة الحياة المؤجلة" على الأشخاص المُصابين بها قائلةً: "تؤثّر بشكل سلبيّ جداً على المدى البعيد حتى بعد انتهاء الاضطرابات التي تسبّبت فيها إذا لم تتمّ معالجتها، خصوصاً على إعادة بناء الحياة بعد انتهاء الصراع. فالخسارة المهنية أولى أشكال النتائج السلبية، يليها انعدام الثقة بالنفس والحزن الشديد الذي قد يصل إلى الاكتئاب، إلا أنّ الحل يكون عادةً في الحديث مع العائلة والأصدقاء الموثوقين أو الاختصاصي/ ة النفسي/ ة".

تتلاشى الأحلام، حلماً تلو الآخر، وحتى لمن استطاع الهروب وظنّ أنه سيستطيع بناء هرم أحلامه خارج بلاده، سيبقى عالقاً مع القلق الذي نخر طموحاته خلال سنوات وجوده فيها

وعن العلاج تقول: "قد يشمل المساعدة على بدء إنجاز ما هو أسهل وقابل للتطبيق، والابتعاد عن الأحلام المستحيلة، مع ضرورة تحديد موعد -وهو أمر أساسي جداً- للبدء بالتنفيذ وتقسيم الخطوات. ويفضّل أن يكون التحفيز داخلياً، فالاعتماد على التحفيزات الخارجية قد يفشل الشخص أكثر بسبب عدم قدرته على التحكم بهذه الظروف الخارجة عن إرادته".

لا تختصر هذه المتلازمة الآثار النفسية السلبية كاملةً على الأفراد الذين عاشوا في مناطق الحروب والصراعات لأشهر أو سنوات، لكنها حالة واحدة من ضمن عشرات الأزمات التي تعصف بساكني هذه "البدان التعيسة"، تختصر بدقة كيف تتلاشى الأحلام، حلماً تلو الآخر، وحتى لمن استطاع الهروب وظنّ أنه سيستطيع بناء هرم أحلامه خارج بلاده، سيبقى عالقاً مع القلق الذي نخر طموحاته خلال سنوات وجوده فيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard