في ظلّ الأزمات المستمرّة التي يمرّ بها الشعبان اللبنانيّ والفلسطينيّ، تتنوّع ردود فعل الناس بشكل ملحوظ. قد يواجه البعض الأزمات بشجاعة ويقاتلون حتى الرمق الأخير، بينما يختار البعض الآخر البحث عن مكان آمن أو الانغماس في حالة من الإنكار أو التخدير النفسي. إن هذه الاستجابات المتباينة ليست مجرّد ردود أفعال عفويّة، بل تعكس تأثيرات عميقةً لصدمات وتجارب سابقة تؤثّر على كيفية تعامل الأفراد مع تحديّاتهم اليومية.
ما هي العوامل التي تحدّد كيفية تعامل كل شخص مع الأزمات؟ وكيف يمكن أن تؤثّر تجارب الماضي على استجاباته الحالية؟
ردود الفعل في زمن الأزمات
"الإنسان يولد مع 3 غرائز: غريزة الطعام، غريزة الجنس لاستمرارية البشر وغريزة البقاء للحماية من الألم والموت"؛ هذا ما توضحه المحلّلة النفسيّة، ثروت دليقان منذر، في حديثها إلى رصيف22.
وتشرح: "إن الشعبين اللبنانيّ والفلسطينيّ، ومنذ عقود طويلة، في مواجهة مع ما يسمّى في التحليل النفسي ‘نزوات الموت’، أي في صراع دائم مع الموت الذي يستثير الشعور بعدم الأمان. يُحرّك هذا الشعور قلق الماضي المعيش، أي عودة المكبوت من صدمات وخوف وقلق على الحاضر وقلق من خسارة المستقبل".
تتابع ثروت: "تلجأ الشعوب في هذه الحالة إلى تفعيل نزوات الحياة، مثل تكثيف الولادات من جهة، والتمسّك بالإيمان العميق من جهة ثانية، هذا إلى جانب اللجوء إلى تخزين الطعام والتمسك بالحياة والفرح عن طريق الاحتفالات، بالإضافة إلى التعبير عن الألم عن طريق تسخيف ما يجري واستخدام الدعابات على السوشال ميديا، وهذا ما يُسمّى بالمقاومة اللاوعية التي يلجأ إليها من لا يستطيع أو لا يرغب في مغادرة أرضه ووطنه، أمّا البعض الآخر الذي فقد الأمل لسنوات طويلة في وطنه، فيختار الهجرة الطويلة وربّما اللاعودة".
"إن الشعبين اللبنانيّ والفلسطينيّ، ومنذ عقود طويلة، في مواجهة مع ما يسمّى في التحليل النفسي ‘نزوات الموت’، أي في صراع دائم مع الموت الذي يستثير الشعور بعدم الأمان. يُحرّك هذا الشعور قلق الماضي المعيش، أي عودة المكبوت من صدمات وخوف وقلق على الحاضر وقلق من خسارة المستقبل"
يكشف الشاب اللبناني داني، البالغ من العمر 31 عاماً، أنّه يعيش "كلّ يوم بيومه"، مشيراً إلى أنه لا يشعر بالقلق بالرغم من الأزمات التي تحدث حالياً في لبنان: "بس بدنا نموت رح نموت، وأنا حالياً عم كون مركّز وملتهي بقصص تانية خلال النهار"، كما يؤكّد أنّه تعوّد على الأزمات: "كلّ فترة يحدث شيء ما في البلد".
أمّا ملحم، فيتابع الأخبار اللبنانية باستمرار من خلال منصة x. كان يعبّر عن رأيه في بداية الأزمة اللبنانية، لكنّه توقّف عن فعل ذلك، وفق ما يشرح لرصيف22: "كنتُ أغضب كثيراً وأتفاعل وأبدي رأيي، ولكنّني لاحظتُ أنّ ما أفعله لا يُجدي نفعاً، فأصبحت مراقباً فحسب".
تعبّر جومانا، عن قلقها وخوفها ممّا يحدث في لبنان وفلسطين على حدّ سواء، وتقول لرصيف22: "أتابع صفحات على السوشال ميديا تنقل أحداث فلسطين، وهذا ما يجعلني أتأثّر كثيراً وأشعر بالضيق، خصوصاً أنّ ما من أحد يوقف هذه المجزرة. أمّا في ما يتعلّق بأحداث لبنان، فكلها تشعرني بالخوف خاصةً عند سماع جدار صوت".
أمّا ريكاردو، فقد هاجر إلى فرنسا مع بداية الأزمة، وذلك لحماية صحته النفسية كما يقول: "قد لا تكون الأزمة هي السبب الرئيسي الذي دفعني إلى الهجرة، ولكنّها المحفّز الأساسيّ الذي عجّل العملية. لستُ مستعداً لأعيش حرباً نفسيةً جديدةً؛ ‘يلّي فيني مكفّيني’".
كيف يمكن تفسير اختلاف تصرّفات الناس عند مواجهة الأزمات؟
تكشف ثروت دليقان منذر، أن ردّات فعل البشرة تتباين عند مواجهة الأزمات، مشيرةً إلى أن حالة الإنكار Denial، هي ردّة الفعل الأولى الطبيعيّة عندما يكون المرء في حالة الصدمة: "مع العلم بأن الشعبين اللبناني والفلسطيني قد تخطيا هذه المرحلة لأنّهما على يقين ووعي بما يجري في وطنيهما. إنهما يعيشان واقعاً مريراً عمره عشرات السنوات ولا بريق أمل في الأفق".
"كميات الأدوية النفسية التي انتشرت في معظم البيوت اللبنانية، ما هي سوى دليل على نسبة القلق التي تخطَّت قدرة معظم الأفراد على التحمّل"
وتتحدث ثروت عن حالة اليأس والأمان المفقود والشعور بالتهديد بالموت في كلّ لحظة: "نلاحظ العارض النفسي المستشري، أي القلق العام General Anxiety، بما في ذلك نوبات الذعر Panic Attacks، التي تطال الجميع من دون استثناء، ومن دون حتى أن يدرك الشخص حالته في معظم الأحيان، حيث يعتقد بأنها أعراض ذبحة قلبية".
وتتابع: "أمّا كميات الأدوية النفسية التي انتشرت في معظم البيوت اللبنانية، فما هي سوى دليل على نسبة القلق التي تخطَّت قدرة معظم الأفراد على التحمّل"، موضحةً أن هذه الحالة لا تُسمّى بالتخدير النفسي أو حالة التجنّب، بل إنّها طريقة للتأقلم مع الوضع الحالي للحفاظ على الحدّ الأدنى من العيش بكرامة في وطن يعشقونه: "يعيش الشعبان اللبناني والفلسطيني في حالة ترقّب وانتظار علّ أملاً يلمع في الأفق".
وتضيف ثروت: "قد يلجأ الشعب المقهور والمظلوم إلى وسائل تساعده في تحمّل نزوات الموت، بالإضافة إلى الأدوية النفسية المسكّنة والإدمان على السوشال ميديا وغيرها".
التأثير النفسي لحالة النكران أو التخدير النفسي
توضح ثروت دليقان منذر، أن الإنكار هو "حالة دفاعية نفسيّة defense mechanism يستخدمها الإنسان الذي لا يتقبّل الفقد أو الخسارة، سواء كانت ماديّةً أو نفسيّةً أو معنويّةً، وهي استجابة لاشعوريّة وعفويّة يستخدمها الإنسان لرفض الإقرار بالصدمة أو الأزمة التي وقع فيها".
وتتابع: "الخدر العاطفي أوالتبلّد العاطفي، هو حالة تتمثّل في عدم الشعور أو التعبير لإيقاف الشعور. وقد يظهر كنقص في الردود العاطفية أو التفاعليّة، ونلاحظ أن من أعراضه عدم القدرة على المشاركة في الحياة، وفقدان الاهتمام بالنشاطات وتفضيل العزلة، وهذا ما يتناقض كليّاً مع سلوك الشعبين اللبناني والفلسطيني اللذين يتمسكّان بالحياة بأسنانهما، إذا صحّ التعبير. يدفنان شهداءهما وينهضان من بين الأنقاض كالعنقاء التي ترمز إلى الخلود والقوّة والجمال".
وردّاً على السؤال التالي: هل تؤثّر الصدمات السابقة على مواجهة الأزمات أو الهروب منها؟، تجيب منذر: "إن كلّ الطرق تؤدّي الى التروما، وليس إلى روما"، وكأنّ المقصود هو البحث عن التروما في اللاوعي كي نصل إلى الطريق المطلوب، بمعنى أن نُدرك سبب السلوك وليس أعراضه.
وتشرح: "إن البحث في أسباب المشكلة يوصلنا إلى الشفاء. تكمن أسباب استرجاع الصدمات النفسيّة والتجارب السابقة التي نعتقد أنّنا اجتزنا تأثيرها النفسي والجسديّ، في نزعها من اللاوعي، وفهمها، وقبولها عن طريق عمل ‘الحداد النفسي’. إنّها عملية نفسيّة قسريّة تبدأ بالإنكار، ثم الغضب، وبعدهما المساومة، لنصل إلى الاكتئاب ومنه إلى المرحلة النهائيّة أي القبول، وتالياً نتخطى الأزمات والصدمات ونتخلّص من تأثيراتها".
وتكشف ثروت أن رد الفعل غير الصحي يتضمّن الأعراض التالية:
• الإحباط.
• ضربات القلب السريعة.
• فقدان الاهتمام أو الاستمتاع بالأنشطة والهوايات المعتادة.
• الشعور باليأس والتشاؤم.
• فقدان الطاقة والشعور بالكسل.
• تغيّرات في الشهية والوزن.
• صعوبة في التركيز والتذكّر.
• صعوبة في اتخاذ القرارات.
• الشعور بالأوجاع والآلام الجسدية غير المبررة طبياً، أو ما يُعرف "بالاضطرابات النفس-جسدية".
• اضطرابات في الجهازالهضمي.
• الشعور بالذنب والعجز واللاقيمة.
• اضطرابات النوم.
إستراتيجيات مواجهة الأزمات بطريقة صحية
توضح ثروت دليقان منذر، أن العالم دخل اليوم في حالة "الغربة الاجتماعية"، وتحوّل الإنسان إلى آلة منتجة ومستهلكة، وقد سُلبت إرادته وإنسانيّته، فالإنسان ليس سيّد نفسه: "يتحكّمون بالبشرية عن طريق العولمة والحضارة الرقمية، وقطعوا التواصل الاجتماعي عن طريق منصات التواصل الاجتماعي الذي يُسخّف عقول الناس ويُبعدها عن التفكير في عمق الأزمة".
وتتابع: "نحن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التمكين الذاتي والعلمي، الشخصي والجماعي، للشباب العربي. أمّا على صعيد الأفراد، فإن رهاني كان دائماً وسيظل على بناء العائلة التي اعدّها الركن الأساسي لتكوين الفرد نفسياً وجسديّاً".
"يتحكّمون بالبشرية عن طريق العولمة والحضارة الرقمية، وقطعوا التواصل الاجتماعي عن طريق منصات التواصل الاجتماعي الذي يُسخّف عقول الناس ويُبعدها عن التفكير في عمق الأزمة"
توضح منذر: "أثبتت خبرتي العيادية التحليلية وخبرات الزملاء في ميدان العلاج والتحليل النفسي في لبنان، أهمية تضامن أفراد العائلة في تفادي الاضطرابات النفسيّةّ والنفس-جسدية والوقاية منها. ولا عجب أن يسمّى العلاج النفسي ‘العلاج بالكلام Talking Cure’ وهذا ما يتمّ فعلياً في جلسة العائلة".
وتختم حديثها قائلةً: "تتضامن العائلة والجماعة في الأزمات أكثر فأكثر، وهذا ما نقوم به كمعالجين/ ات ومحلّلين/ ات نفسيين/ ات في أثناء الأزمات، حيث نقوم بما يسمّى ‘العلاج الجماعي Group Therapy’. أمّا في حالة الاضطراب الشديد، فإنني أنصح بالمتابعة النفسية كي نتجنّب تفاقم الاضطراب النفسي، وذلك قبل اللجوء إلى أدوية الاكتئاب والقلق التي تعمل فقط على الأعراض من دون العودة إلى الأسباب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.