ماذا لو أن المخرجة الفلسطينية مي المصري، قدَّمت فيلمها الروائي الطويل الأول "3،000 ليلة"، بعد العام 2019؟ ماذا كان سيحدث في عالم سينما اليوم؟ ربما كان سيعترض أحدهم على موضوع الفيلم بوصفه نَسخَاً من فيلم أجنبي لسينما "متفوقة" عالمياً، وربما كان سيهزّ البعضُ الآخرُ رأسَه متأسّياً، لأن السينما العربية ستظل تراوح مكانها، وهي تحاول الخروج من مآزقها الكثيرة، فنحن "خارج الصورة والتصوّر" وفق تعبير الناقد السينمائي التونسي خميس خيَّاطي.
وربما لن يكترث أحدٌ بالسؤال من أساسه، فالمواطن العربي كما تثبت الأحداث الجسيمة من حوله، وفي ظل هذا الانغلاق المحكم في تصوراته عن العالم المحيط به، لا يبدو أنه على استعداد ليحرق سفنه التي تغرق أمام عينيه، أو حتى للقفز منها في اليمّ، وهو يعي أنه هالكٌ لا محالة، فكيف سيتساءل عن محتوى فيلم سينمائي، ربما يكون آخر هم من همومه!
قدَّمت السينما الكورية فيلماً روائياً طويلاً بعنوان "مقاومة"، للمخرج تشو مين هو. ربما تذكّر الاسم بصعوبة والقدرة على استخدامه دون موانع جمالية، يتيحان قلب الصورة نفسها في كتابة مخصصة أساساً للحديث عن تجربة مخرجة فلسطينية، تفصلها عن بلاد الكوريين مساحة جغرافية وثقافية ولغوية شاسعة، ناهيك عن عادات وتقاليد ومسميات لا حصر لها في فك وتركيب السينما نفسها كلغة وأداة في إعادة تركيب وتخييل الواقع نفسه.
هل حدث اقتباس كوري "واضح" من الفيلم الفلسطيني "300 ليلة"، أم أن دفع المخرج الكوري إلى مقدمة فيلمه تلك العبارة الشهيرة "مقتبس من أحداث واقعية" تعفيه من سوء النية "النقدية"؟
في فيلم "مقاومة" (2019)، نقع على حكاية الشابة الصغيرة التي لم تتجاوز سبعة عشر ربيعاً في الواقع، يو جوان صن، التي يُزَّج بها في سجن سيو دايمون في سنة 1919، (قبل مئة عام من إنتاجه)، وهو سجن شيَّده المستعمر الياباني، لتأديب الكوريين الذين يشذون عن قاعدة القبول به كأمر واقع، كما يحدث مع كل احتلال، وفي كل وقت يزهو به المستعمر أياً كانت هويته حين يجثم على صدور من يستعمرهم، ويقوم بإذلالهم وتعذيبهم للنيل من مقاومتهم، وتحطيم إراداتهم ومثلهم العليا.
تجد يو جوان صن، نفسها محاطةً بمجموعة من السجينات الكوريات اللواتي أُلقي بهنّ في غياهب الزنزانة الثامنة، وقد تحوَّلت مثلهنّ إلى رقم قابل للحفظ في ذاكرة السجَّانة اليابانية، وهنَّ معتادات على الدوران فيها حتى لا يتجمَّد الدم في عروقهنّ، وتتعفَّن أقدامهنّ، فلا مكان فيها إلا للوقوف.
تكتشف الشابة الصغيرة أن كل سجينة لها أسبابها للتواجد معها في زنرانة لا تتعدى مساحتها مترين مربعين، وتغص بعدد كبير من "الزميلات" المشاركات لها في هذا المعزل غير الآدمي، وبما أن لكل واحدة منهن قصةً، فسوف نجد بينهنّ من يطلق عليهنّ في بلاد الكوريين "الغسيانغ"، أي فتيات المتعة، وبعضهنّ سوف يعشن لحظات تحوّل في وعيهنّ البسيط، وسوف يدركن على يد هذه الشابة الصغيرة التي اعتُقلت أساساً بسبب توزيع منشورات تطالب باستقلال بلادها، أنهنّ لم ينتقلن من أحضان الأثرياء فقط إلى أحضان اليابانيين، فهؤلاء جعلوا منهن مجرد "مراحيض" لهم، وكانوا أوغاداً لا يشبهون الأوغاد الكوريين الأثرياء.
يقول لها آمر السجن الياباني، بعد أن يطّلع على ملفها في التمرد وإهانة المحكمة، إنها لا يجب أن تفعل شيئاً في الزنزانة سوى أن تتنفس فقط، لتبقى على قيد الحياة، لكن يو جوان صن، تبدأ بتغيير عادات السجينات حين تكشف لهنّ ببساطة عبر "النقيق" البشري، أنهنّ لسن مجرد ضفادع، وتبدأ أصواتهنّ بالعلو والاتحاد في صوت واحد هادر وقوي، وعندما يحاول مدير السجن معرفة من تسبب في هذه "الفوضى" عبر مجنّد كوري يعمل لحسابه، ويتجسس عليهنّ في السجن، وحين يفشل في مهمته، يقوم باستدراج أضعفهنّ برشوتهنّ بتفاح فاسد، وتقوم فتاة حامل بالإيقاع بيو جوان صن، بعد أن وعدها بالاحتفاظ بجنينها وتربيته في السجن ريثما تنهي محكوميتها، فليس من عادة السجن الياباني السماح للحوامل بالإبقاء على أجنتهنّ.
تتعرض يو جوان صن، للتعذيب الشديد، ويلقى بها في الزنزانة الحجرية، وهي مكان لا يمكن للمرء إلا أن يظل واقفاً فيه، ولا يستطيع القيام بأي حركة على الإطلاق، وتقاوم بأكثر مما يمكن للمرء العادي أن يقاوم، بالرغم من حداثة سنّها، وتبدأ بالتفكير في الانتقال إلى مرحلة أخرى من نضالها داخل السجن، حتى أنها تغفر للحامل التي أوقعت بها، وتصبح قريبةً من جميع السجينات بغض النظر عن واقعهنّ، وهوياتهنّ الطبقية.
وعندما تطلب أن تصبح "سجينةً نموذجيةً" بالعمل داخل السجن، فإنها تخطط عبر البقاء خارج الزنزانة لتنظيم يوم الاحتفال باستقلال كوريا، وهذا ما يحدث فعلياً، ويتحوَّل الاحتفال في السجن الذي يغص بـ3،000 معتقلة إلى تمرد كبير ينتقل إلى سجن الرجال وشوارع المدينة، وتفلت الأمور عن السيطرة، وتحدث مواجهة كبيرة مع اليابانيين، لكن عفواً إمبراطورياً مفاجئاً يخفف أحكام الجميع إلى النصف، وتبقى أمام يو جوان صن ستة أشهر لتعانق حريتها، فيما يُطلق سراح جميع رفيقاتها، وتتعرَّض للتعذيب والمساومة على خروجها، ولكن لا تعترف بكونها سجينةً، وتظل تهتف حتى آخر يوم في حياتها باستقلال كوريا، وتموت قبل يومين من الإفراج عنها.
في التفاصيل السينماتوغرافية، يبدو الفيلم مستقلاً تماماً بحبكة كورية مختلفة، لكن معاينة هذه التفاصيل ومحاولة تمريرها من عين إلى عين تقود في أمكنة كثيرة إلى إجراء مقارنة صارمة مع فيلم "3،000 ليلة" (2015)، للمخرجة الفلسطينية مي المصري. إنه فيلم مقاومة أيضاً، وان كان لا يختلف -لونياً- عن الفيلم الكوري من حيث إدارة التفاصيل وتجميعها رقمياً بالأسود والأبيض، في سقف الحكاية، لكن كل شيء في الفيلمين تكاد تجمعه قصة واحدة.
ولو عدنا إلى تفاصيل فيلم "3،000 ليلة"، فسنجد أن الزمن النفسي لكلا البطلتين: ليال عصفور، ويو جوان صن، هو زمن واحد بغض النظر عن هويتين منفصلتين لا يمكن الجمع بينهما في أي وقت، لكن جمع حكايتين من مصدر واحد يمكن أن يحدث، وهذا ما تقوم به التفاصيل في كلا الفيلمين.
من باب حسن النية يجب علينا أن ننظر جميعاً إلى تلك القسمة العادلة التي يحملها كلا الفيلمين في احتفاظهما بحق مقاومة المستعمر في كل زمان ومكان، وهنا قد تكمن فضيلة المشاهدة "البريئة" للخروج باستنتاجات مختلفة، لا تريد أن توحي بأي تشابه في حبكة الفيلمين
الفيلم، بالنسخة السبَّاقة، يحكي قصة سجينات فلسطينيات يعشن في ظروف صعبة ونادرة الوقوع حتى في أكثر الأماكن همجيةً وخراباً في العالم. تبرز خيوط القصة وتنمو وتتطور مع دخول المعلمة الفلسطينية الشابة ليال عصفور (لعبت دورها الممثلة الفلسطينية-النصراوية ميساء عبد الهادي)، السجن الإسرائيلي بسبب تغطيتها على محاولة فتى فلسطيني الهجوم على حاجز إسرائيلي. تدفع ليال من عمرها نتيجة ذلك ثماني سنوات وراء القضبان، وتضع مولودها الأول، وهي تقضي "العقوبة".
القصة كما تروي مي المصري، حقيقية دفعتها للتأمل فيها طويلاً قبل أن تشرع في كتابة السيناريو. كان لا بد من التروّي في الكتابة، فالقصة تستحق أن تسرد من وجهة نظر الضحية، لا بوصفه ضحيةً، وإنما بوصفه كائناً إنسانياً قيد التحقق في مساحة جهنمية يجري فيها مسح معالمه وإرواء عطش القاتل بمزيد من الدم. بالرغم من حداثة سنّ هذا الكائن إلا أن القصة يمكن سردها من هنا: في السجن هناك المناضلات الفلسطينيات، وهناك في الطرف المقابل السجينات الجنائيات الإسرائيليات، اللواتي زُرعن هنا بهدف إرغام السجينات الفلسطينيات على الخضوع للابتزاز اليومي من أجل كسر إراداتهنّ.
هل حدث اقتباس كوري "واضح" من الفيلم الفلسطيني، أم أن دفع المخرج الكوري إلى مقدمة فيلمه تلك العبارة الشهيرة "مقتبس من أحداث واقعية" تعفيه من سوء النية "النقدية"؟ أو أنه من باب حسن النية يجب علينا أن ننظر جميعاً إلى تلك القسمة العادلة التي يحملها كلا الفيلمين في احتفاظهما بحق مقاومة المستعمر في كل زمان ومكان، وهنا قد تكمن فضيلة المشاهدة "البريئة" للخروج باستنتاجات مختلفة، لا تريد أن توحي بأي تشابه في حبكة الفيلمين، ومع ذلك فهناك خيوط رئيسية فيهما تتطابق مئة في المئة، لا يمكن إغفالها البتة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.