عرضت بعض القنوات الأجنبية الأوروبية مؤخراً، الفيلم الوثائقي البريطاني "غزّة من الداخل"، ومدته 60 دقيقةً. هو فيلم حديث جداً، إذ تذكر "تيتراته" التي تصوّب وعينا نحو الكارثة، أن عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع بلغ 35 ألف قتيل، غير الجرحى والمفقودين والمعتقلين، وهم بعشرات الآلاف.
يحار المرء في أمر تصنيف إنتاجه، وعدّه بالفعل بريطانياً، فقد شارك في تصويره داخل قطاع غزة المحاصر منذ نحو عشرة أشهر، اثنا عشر مصوّراً وصحافياً فلسطينياً، واكتفت راويته البريطانية آنا لوينغ بروفي، بإعادة تركيبه من زاوية نظر ذكية ومتساهلة مع المادة الثمينة التي حصلت عليها من المصوّرين والصحافيين الفلسطينيين، وإن كانت تبدو أحياناً أنها تستعيد شيئاً من الرواية الإسرائيلية "المعلَّبة" في بعض الأماكن، لكن الذكاء هنا قد يوصل الفكرة الأساسية التي أرادت أن توصلها للجميع، بغض النظر عن "نعيق" أفيخاي أدرعي، منذ الثواني الأولى، أو "تشبيح" الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي الغازي، دانيال هاغاري.
غزّة: مقبرة الأطفال. بالضبط هذا ما سعت الراوية الشجاعة إلى تمريره في الفيلم، بغض النظر عن أي "منكّهات" إسرائيلية أخرى قد تسهم بقليل أو بكثير في خلخلة الرواية الفلسطينية
غزّة: مقبرة الأطفال. بالضبط هذا ما سعت الراوية الشجاعة إلى تمريره في الفيلم، بغض النظر عن أي "منكّهات" إسرائيلية أخرى قد تسهم بقليل أو بكثير في خلخلة الرواية الفلسطينية كما تحدث فصولها على مرأى من الجميع في عالم تخلَّى عن مسؤولياته الأخلاقية تجاه الأطفال والنساء الذين قضوا بالآلاف، ومنهم/نّ كثرٌ لا يزالون تحت الأنقاض.
ليس غريباً أن يفرد فيلم "غزّة من الداخل"، مساحةً كبيرةً من دقائقه لأبطال صغار يقضون معظم وقتهم في رفع رؤوسهم إلى فوق، والتحديق في السماء بكثرة، وهم يتابعون الطائرات المُسيَّرة التي تقوم بالتحليق طوال الوقت فوق رؤوسهم. وإن غابت قليلاً، تظلّ أصواتها معلّقةً في السماء، كأنها قدر أحلامهم التي غادرتهم إلى الأبد، ومنهم من سيرحل، أو يُدفن تحت الأنقاض، وهو حيّ، أو سيفقد أحد أطرافه، أو سيفقدها كلها، وسيجد نفسه مقيّداً إلى القضبان المعدنية في مستشفيات تخرج عن الخدمة بالتدريج.
لقطة واحدة للطفلة جوان أشرم (5 سنوات) في غزّة، وهي تخضع لعلاج ساقها اليسرى، وقد برزت عظام وجهها وجسدها، وبان عليها النحول الشديد، مقارنةً بلقطة لها في أحد مستشفيات إيطاليا، تكشف عن الفارق المروّع الذي يعيشه أطفال غزة وأهلها تحت القصف والحصار الهمجي والتجويع المركّب الذي تتورط فيه دول الجوار، والإبادة الجماعية "المتقنة" و"المبرمجة"، كما لم يعد يقوم بها أحد منذ عقود. فالإسرائيليون أصبحوا خبراء بالسليقة منذ أن اختبروا تنفيذها كعصابات مخضرمة ومجرّبة من قبل، سنة 1948، وهم آخر من يقوم بها الآن في حضرة عالم متقدم ومتحضر لا تنقص سرديته الغاشمة إلا الأخلاق والقيم وأفعال الإخاء الإنسانية.
ساما ولمى شقيقتان صغيرتان ليس في وسعهما فتح عيونهما إلا على تحليق الطائرات المُسيَّرة فوق رؤوسهن، بل إنهما تستجديان ببراءةٍ هذه الوحوش المعدنية التي غيَّرت كثيراً من نتائج الحروب الحديثة على الأرض، أن تذهبا إلى بيتهما، لأنهما تريدان النوم، وكأن هذه الطائرات "تعضّهما وتعضّ ما في القلب من عسل".
يهجر الطفل الغزاوي أحلامه. لا يعود يطالب بها. سيكتفي كما تفعل الشقيقتان الصغيرتان بالأحاديث عن الطعام الذي كانتا تأكلانه قبل الحرب، وكيف حرمتهما الحرب منه. كل هذا أصبح في عهدة الماضي، فلقطات لشوارع غزة قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر تبدو وكأنها تنتمي إلى زمن سحيق لم يعد موجوداً بيننا الآن، ولا يمتّ بصلة إلى الصور والمشاهد التي يبرع فيها مصورون وصحافيون فلسطينيون في أثناء محاسبة "وعد" أفيخاي أدرعي، بأن أبواب الجحيم قد فُتحت على قطاع غزة منذ تلك اللحظة، بالصور والمزيد منها، وكأنها لم تُفتح من قبل بعد كل سكوت عظيم.
هند الخضري وعلي جاد الله وغيرهما من المشاركين في تنفيذ هذا الفيلم، لا يخيّبان ظنّ الراوية البريطانية، إذ لا يوفران جهداً في محاولات إظهار الحقيقة عاريةً، ومتبتلةً. صور جاد الله انتشرت بقوة في جميع أرجاء المعمورة. صحيح أنه وقف كما زميلته مرات عدَّة على تخوم الموت، ونجا، لكنه فقد خمسةً من عائلته: إخوته صالح وخالد وصلاح وأباه وشقيقته دعاء، واكتفى في بعض اللقطات بأن يضطجع بجانب أمه الجريحة في المستشفى الأوروبي، لينبش في هاتفه النقال باحثاً عن صور أحبائه الذين تركوه وحيداً.
يقول المصوّر في وكالة أنباء الأناضول علي جاد الله، إن أخويه الكبيرين صالح وخالد، وُلدا توأمين، وتربيا معاً، ورحلا معاً، بل إنهما دُفنا معاً في قبر واحد.
لا أحد ممن ظهر في الفيلم -على قصره؛ إذ إن ساعةً واحدةً لا تكفي- يقوم باختبار نوايا مسبقة. الكل تحت النار، وبعضهم أخذ يهيم على وجهه، فلا يعرف الجهة التي يمضي إليها. كل الجهات سواء، فالكماشة الإسرائيلية حوَّلت مدن القطاع بأسمائه التي صرنا نحفظها أكثر مما نحفظ أسماء العواصم والمدن العربية، وقد تضاءلت أحجامها تماماً.
فيما تعملقت تلك الأسماء، وأصبحت تمتلك رونقاً وصخباً غير عاديين. بل إن أسماء مثل دير البلح، وجحر الديك، وشارع صلاح الدين، وحي الزيتون، والشجاعية، أصبحت لا تقارَن بأسماء المدن الكبيرة التي تمتلك أبراجاً وناطحات سحاب، وتتلألأ بالأضواء، والكثير الكثير من مآدب الطعام، والشراهة الإنسانية التي لا تمتلك حدوداً على وسائط السوشال ميديا، وكأنها إنذار مبكر لما ستؤول إليه أحوال البشرية بعد هذه الحرب المفجعة.
غزّة ليست فقط مقبرةً للأطفال، كما أراد الفيلم أن يقول لنا، بل هي مأوى للعجزة من الأطفال الذين بلغوا الشيخوخة بأسرع مما نتوقع، وقد تفشل قراءة الخريطة الجينية لكلّ واحد منهم على حدة، لأسباب ليست مجهولةً
يستطيع المرء الذي يتابع "وشوشات" هؤلاء الأطفال الحزينة وسط الركام أو على أسرّة المستشفيات، أن يكون شاهداً على كائنات صغيرة تكبر فجأةً، فيُخيَّل إلى الجميع أنها قد طعنت في السنّ خلال أشهر قليلة، ومن كان في السادسة من عمره، أصبح فجأةً في الستين.
غزّة ليست فقط مقبرةً للأطفال، كما أراد الفيلم أن يقول لنا، بل هي مأوى للعجزة من الأطفال الذين بلغوا الشيخوخة بأسرع مما نتوقع، وقد تفشل قراءة الخريطة الجينية لكل واحد منهم على حدة، لأسباب ليست مجهولةً. حتى الأطفال الخُدّج الذين انقطع عنهم الأوكسجين في الحاضنات الزجاجية، لم يضيّعوا مثل سواهم فرصة أن يقفزوا سنوات عدة إلى الأمام بلا مقدمات، وهم يختنقون الواحد تلو الآخر من دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليهم يد العون.
يركّز الفيلم على عائلات بعينها. يستعيد أسماءها، ويصوب على الأطفال فيها، فهو يمسك وسط كل هذا الجنون بخيط درامي، لا يريد له أن ينقطع، فتضعف فكرته، وقد تتضاءل وتتلاشى تماماً، فلا يعود أمام المشاهد إلا أن يضيفه إلى سلسلة من الريبورتاجات التي ملأت الشاشات، لكنه هاهنا يمسك بطرف الخيط بشجاعة، ويتبعه في ستين دقيقةً سرعان ما تتحوَّل إلى بند جديد في الذاكرة الإنسانية: هاهو وعي جمعي يتبدَّل، ومن المؤكد أنه سيفرز على الأرض تصورات جديدةً لما بعد الحرب: فالعالم قبل غزّة ليس هو بعدها. سوف تتغيَّر الكثير من المسلَّمات التي طحنت رؤوسنا مثل الزجاج، بل إن بعضها في فترة الحرب غدت مثل ترّهات لا قيمة لها، أو هي لم تعد تتجذَّر في الوعي الإنساني كما أُريد لها على الدوام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.