كان متوقعاً أن تُعقد الدورة الثامنة من مهرجان القدس السينمائي الدولي، في مدينة غزّة، في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، لكن الحرب الوحشية المستمرة على مدن القطاع ومخيماته منذ عشرة أشهر دفعت بمؤسسه ورئيسه عز الدين شلّح، إلى التمهل، وإعادة ترتيب حساباته السينمائية التي لا تشبه حالياً أي حسابات، فمنسوب الخطر المحيق بالجميع دفع في جانب منه إلى ظهور تحديات وهموم مختلفة ترافقت مع أسماء سينمائية جديدة شابّة وجدت منذ اندلاع الحرب الوحشية على قطاع غزّة في مقولة "سينما من المسافة صفر"، حيّزاً إبداعياً لم يكن متوفراً لها من قبل. بل إن "هذا الجميع" الذي صار يمتلك كاميرات خفيفةً وهواتف ذكيةً اقترب من مفهوم سينما الحقيقة دون تنظيرات مسبقة. الكل سينمائي، والسينما في خدمة الكل.
وهذا ما دفع بالدكتور شلّح، الذي يمتلك أحلاماً سينمائيةً أكاديميةً لم يُسمح لها بأن تتبلور مرةً أخرى في برنامج الدورة الثامنة (الملغاة)، أن يقيم مهرجاناً بديلاً لحساب السينمائيين الجدد، انطلق يوم 25 تموز/يوليو الجاري، واختُتم في الـ29 منه. فقد كان أهل دير البلح، على موعد استثنائي غير مسبوق لمشاهدة أفلام عن مدينة غزّة ومخيماتها في مركز إيواء التوبة، شارع البيئة، بتوقيع شباب وشابات صنعوا أفلامهم من الواقع المؤلم المحيط بهم، وبأحلامهم، في ظروف بالغة التعقيد، وهي ظروف أقل ما يقال فيها إنها ترافقت مع الإبادة الوحشية التي يتعرض لها القطاع منذ عشرة أشهر.
غزّة مدينة مفتوحة، تماماً مثل أول فيلم أسس للواقعية الإيطالية الجديدة بتوقيع روبرتو روسيلليني، عندما كانت إيطاليا خارجةً للتو من جحيمين: جحيم الحرب العالمية الثانية، وجحيم الفاشية
لا نعرف شيئاً عن البرنامج (الملغى) القديم، بل ينتاب بعضنا الشعور بأنه لا يريد أن يُعرف، وأنه يريد أن يصفّق للأسماء البديلة، ويقيناً أن جميع من كانوا قد شاركوا في المهرجان الملغى سيشعرون بشيء من السعادة والفرح، لأن أفلام الدورة الاستثنائية قد حلَّت محل أفلامهم، وهذا قد يكون شعوراً استثنائياً بدوره، وكأنهم هم من قاموا بصناعة هذه الأفلام من المسافة صفر، أو على الأقل شاركوا فيها، وقاموا بنقلها من يد إلى يد لتُعرَض بين البيوت المدمّرة في دير البلح، بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على تأجيل الدورة العادية.
والدليل على تحقق الدورة الاستثنائية، وجود سجادة حمراء مثبتة بالأحجار فوق الدمار المحيط بمكان عقدها، لا تشبه بأي شكل من الأشكال الـ"ريد كاربت"، في أي مهرجان سينمائي آخر، وثمة جمهور حاضر لا يشبه جمهور أي مهرجان سينمائي جاء ليشاهد الأفلام التي تم إنجازها في جحيم غزّة.
تعيد هذه السجادة التي تتفاخر بها كل مهرجانات السينما، التفكير في أصول سينما الواقع. لا يعود هذا الواقع مجرد شبكة فانتازية يلقي بها البعض لاصطياد أوهام النخبة. النخبة هنا لا تبتعد عن قسوة محيطة بصنّاع هذه الأفلام الذين تدربوا في إستوديوهات "الموت اليومي". من يريد أن يصدّق عليه مشاهدة هذه الأفلام.
غزّة مدينة مفتوحة؛ تماماً مثل أول فيلم أسس للواقعية الإيطالية الجديدة بتوقيع روبرتو روسيلليني. يغفر النقّاد السينمائيون بعض الأخطاء في الإضاءة التي وقع فيها هذا الفيلم/الأيقونة، لأن إيطاليا كانت خارجةً للتو من جحيمين: جحيم الحرب العالمية الثانية، وجحيم الفاشية، وقد دُمّرت معهما إستوديوهات "شينشيتا" نفسها التي أسهم موسوليني في تأسيسها وتدعيمها من أجل صناعة سينما إيطالية متقدمة!
كيف ستتحول الأفلام الفلسطينية التي لم نشاهدها حتى اللحظة، إلى أيقونات صغيرة توثّق لواحدة من أبشع حروب الإبادة في العصر الحديث، ففي زمن الإبادة الجماعية تصبح أفلام "من المسافة صفر" اختصاراً لمعضلة أخلاقية تشهد على هامش المناورة الذي يضيق أمام الفلسطينيين، فلا الجوائز، ولا الضيوف من النقاد والمخرجين، أصحاب ربطات العنق الكلاسيكية الأنيقة، سيكون لديهم الحظوة نفسها، لأن فكرة صناعة الأفلام بالطريقة المعقدة التي تتداخل فيها رؤوس الأموال، ومافيات المهرجانات الملونة، ليست لها حظوة هنا، فهذه الأفلام احتجاج صامت على عمق المأساة التي يعيشها أهل القطاع، بل إنها تتعدى حدود الكاميرات الرقمية إلى أن تتحول إلى عدسات من لحم حيّ، يقوم أصحابها بـ"كشط" هذا اللحم ليقدّموا أفلامهم عن محرقة جديدة لم تخطر من قبل ببال أحد.
لا أحد منّا في وسعه أن ينجو من أفلام "المسافة الصفر"، حتى وإن لم نشاهدها، ليس بسبب إعادة تشكيلها البصري والفني، بل لأننا نشهد معها على اجتراح معجزة حضورها من مسافة ألفي كيلومتر، ونحن نضع أيدينا على قلوبنا، ونعتصرها من الألم، لأننا لا نشارك في صناعتها، أو في إبداء رأي نقدي متعالٍ، أو متواضعٍ. هذا غير مهم، فالمهم هنا أن نتشارك معهم المشاغبة على هذه الأفلام؛ المشاغبة بحبّ ليس له مثيل، فمن خلالها نحن نبارك الفكرة الأساسية التي تنبثق منها فوق حجارة دير البلح المدمرة حيث عقدت هذه الدورة الاستثنائية في خواتيم شهر القيظ تموز/يوليو. إنه شهر قيامي أيضاً، ما يعني أن هناك قيامةً ما على هامش دورة الأفلام من المسافة صفر.
ليس بعيداً عن هذه المقدمة "الفخمة"، أننا كنا نتمنى أن نشاركهم من خلال قول جملة ما، أو المشي معهم على هذه الـ"ريد كاربت" التي تتحول وحدها فوق كل هذا الدمار إلى سجادة لا مثيل لها.
السجادة معدّة سلفاً للنازحين من بيوتهم من مكان إلى مكان، وقد تحوّل النزوح بحد ذاته إلى أحجية إسرائيلية لا تنتهي، لكن هؤلاء النازحين غير معنيين بها، وهم يعبرون بكل ثقة فوقها، وهم على إحاطة بكل الكلمات التي ستقال في مهرجان أقيم من أجلهم.
لقد شاهدوا أحبّاءهم وبيوتهم المدمرة؛ يقول لي عز الدين شلّح، عبر المسنجر الأزرق. بعضهم بالتأكيد يدمع، وهو يشعر بالفخر، لأنه يمشي فوق "ريد كاربت" أسطورية لأول مرة في حياته، وحين خيّمت العتمة على المكان أدرك جميع الحاضرين أنهم ليسوا بحاجة إلى ربطات عنق أنيقة ليعبروا من فوقها. كانت العتمة تكفي، وتكفي فكرة أن غزّة المدينة المفتوحة ستظل كذلك، وإن تحوّلت إلى إستوديو مدمّر للواقعية الفلسطينية الجديدة التي لا تختلف كثيراً عن "ماما روما"، حين ألهمت الجميع من قبل وهي تظفر بموسوليني وتتخلص منه.
في زمن الإبادة الجماعية تصبح أفلام من المسافة صفر اختصاراً لمعضلة أخلاقية تشهد على هامش المناورة الذي يضيق أمام الفلسطينيين، فلا الجوائز، ولا الضيوف من النقاد والمخرجين، أصحاب ربطات العنق الكلاسيكية الأنيقة
"ماما غزّة" سوف تتخلص أيضاً من أعدائها بالطريقة ذاتها. كل المدن المفتوحة على الواقعيات الجديدة يمكنها أن تقوم بذلك. ليس مهماً أن يمتلك صنّاع الأفلام فيها إمكانات ماليةً، وعلاقات، ووساطات. لا، ليس الأمر كذلك. يكفي مدّ سجادة حمراء. هي ليست سجادةً في الواقع المضاف إلى هذه الحرب. هي قطعة قماش طويلة مصنوعة من الدماء التي أريقت حول المكان حيث عُرضت أفلام لأسماء نسمع بها لأول مرة، وهي أسماء سوف تشكل أمامنا موجةً واقعيةً جديدةً من المسافة صفر:
1- نداء أبو حسنة، فيلم "خارج الإطار"
2- ريما محمود، فيلم "سيلفي".
3- إسلام الزريعي فيلم "فلاش باک".
4- آلاء أيوب فيلم "حمولة زائدة".
5- مصطفى كلاب فيلم "صدى".
6- محمد الشريف فيلم "خارج التغطية".
7- تامر نجم فيلم "الأستاذ".
8- أحمد حسونة فيلم "عذراً سينما".
9- أحمد الدنف فيلم "يوم دراسي".
10- بشار البلبيسي فيلم "تعويذة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم