الحرب في الأساس خطأ بشري فادح، ومع ذلك، ثمة أخطاء تفصيلية كثيرة في تناولها، أهمها، التوصيفات التي لا تتسم بدقة التشخيص.
على سبيل المثال، حين تظهر أرقام ضحايا الحروب، دائماً، أو في الغالب، تكون محصورة بعدد القتلى، أو من طالتهم الجروح الجسدية، وقد يُضاف إليهم المعتقلون، والنازحون، وكذلك المهاجرون، بينما لا يتم الإشارة إلى المجتمع ككل إلا نادراً، وكمجاز، وليس باعتباره متضرّراً بشكل مباشر.
فمنذ أول رصاصة يتم إطلاقها في دولة ما، ثمة شلل تام يطال الحياة العامة برمتها، ضربة يتلقاها المسار الطبيعي لكل مواطن، فالصراع يصنع فضاء عائقاً لاستمرار التطوّر الإنساني، ما يدفع الفرد نحو التأجيل الإجباري لأغلب خطوات حياته، وتمضي الأيام، بينما يبقى الشخص عالقاً وسط مجموعة خيارات مشوشة، لا يتجرّأ على اتخاذ أي منها تجنّباً لمضاعفة الخسائر، والمواساة الوحيدة التي يسلكها منذ البداية ويحاول بها تطمين قلقه الداخلي، هو إخبار نفسه أن هذا الظرف مؤقت ولن يستمر، لكن، ومع دخول الصراع فصول الاستدامة، وتوالي الأعوام عاماً بعد آخر، فإن هذا المؤقت يصبح دائماً، ولا موعد واضح لنهايته.
كيف أصبح المؤقّت هو حياتنا المستمرة. المؤقت، بكل ما فيه من ثقل ونفور، وعلينا تحمّل هذا الانتظار الطويل، نحن الموزعين على طول الخريطة العربية؟
حين تظهر أرقام ضحايا الحروب، دائماً، أو في الغالب، تكون محصورة بعدد القتلى، أو من طالتهم الجروح الجسدية، وقد يُضاف إليهم المعتقلون، والنازحون، وكذلك المهاجرون، بينما لا يتم الإشارة إلى المجتمع ككل إلا نادراً، وكمجاز، وليس باعتباره متضرّراً بشكل مباشر
استبدال الحياة الطبيعية بالمناخ الحربي
لا يأتي الصراع بشكل فجائي، بل عقب تمهيد طويل، وبعد أن تتضافر فيه عدة عوامل، وتبتني تلك الظروف بجوار بعضها، إلى أن يشتعل فتيل الحرب فيصبح من الصعب إيقافها، فكل يوم تتضاعف المعضلات، ويذهب الوضع نحو التعقيد أكثر، ومع ذلك يبقى المجتمع متمسّكاً بأمل توقّف الدم قريباً، ويشعر إزاء الحرب وكأنها معركة عابرة لفترة مؤقتة وستزول، فاستطلاعات الرأي والمؤشرات تجمع، وفي بداية الحروب، بأن الحرب لن تستمر طويلاً، ومع مرور الأيام يصبح هذا الأمل أقلّ، ثم يستمر بالتراجع إلى أن يختفي، ومعه يشعر المجتمع وكأن الحرب ستبقى إلى الأبد، وهنا يكتمل تطبيع المجتمع على الحرب، وما تم الاعتقاد بأنه مؤقت بات دائماً.
مع إطالة أمد الحرب، يجد الإنسان نفسه أمام خيار قسري بضرورة الانسجام مع الوضع المضطرب، لأن عدم التأقلم يعني الذهاب نحو الجنون، في هذا البعد الأحادي بمعادلة الحرب الصعبة. يقول سارتر: "الحرب تضع الإنسان في موقف لا يمكن تصوره، حيث تجبره على التكيف مع واقع يفتقر إلى المنطق، والأخلاق"، وبالطبع المقصود هم أولئك الذين لم يتعرّضوا للأذى بشكل مباشر، أو من لم يستطيعوا التصرّف مع الوضع، بحيث لم يهاجروا مثلاً أو ينجوا بشكل أو بآخر، وهؤلاء هم الفئة الأكبر في المجتمع، وهم ضمن المتضرّرين؛ لا يمكن حصر الأضرار برصاصة أصابت جسد ضحية، بل بسلاح نال من سلامة المجتمع ومستقبل شعب بالكامل.
هذه الفئة هي الأكثر عدداً في المنطقة العربية؛ فهم من يعيشون وضع المعاناة النفسية، وبلا أي خيار، حتى خيار شجب الحرب ولعنها، تخلوا عنه لصالح الصمت اليائس، ويسكن أجسادهم ركود لم تعد تحرّكه الأخبار الجديدة، ولا التغيرات البسيطة التي تحدث في ميزان قوى الصراع بين الحين والآخر.
هذا الجمود المجتمعي العربي مرعب؛ استسلام تام لاتجاهات السفينة. تحضر حكومات أو تغيب، تتراجع العملة أو تتقدّم، لم يعد هناك فارق، وكأن هناك شعوراً جماعياً بأن لا طريقة للخلاص من هذا السجن، ففي بعض المناطق العربية لم يعد هناك صراع مسلح بالفعل، كما كان قبل أعوام من الآن، لكن، هناك ما هو أسوأ: التطبيع مع مناخ الحرب.
هذا الأمر المفزع في الاستسلام للسوء هو نتيجة مشتركة لكل بلدان الحروب الحديثة، ويعتبر بمثابة خلاصة لما تريد أن تذهب إليه الصراعات العصرية، فقد تم اتخاذ الشرق الأوسط -ومؤخراً روسيا وأوكرانيا- ساحة تجارب للعهد الجديد؛ عهد رعاية الحروب واستدامتها.
منذ عقود والحروب تشتعل ولا تتوقف، وفي المنطقة العربية تقريباً، منذ الألفية الجديدة والصراعات تبدأ دون أن تنتهي، ومهما اختلفت الأسباب، من الصعب القول إن وضع بلد مستقل عن الآخر، أو أن الظرف له سياقه المحلي فقط، بل إن ذلك من الممكن أن يكون التجسيد الأمثل لما يسمى بـ "النظام العالمي الجديد"، والذي ابتدأ بعد الحرب الباردة، ويقصد به تداخل المصالح الدولية في العالم، وكل صراع، مهما كان بعيداً، خلفه لاعبون كثُر يتخذون من تلك المنطقة ملعباً لهم.
لذا، فإن الانتصار الوحيد في هذا العصر يكمن في تحاشي جعل جغرافيا ما ساحة لأي معركة، لأنه، وفيما بعد؛ سيعرف الجميع تاريخ ولادة الحرب، لكن موعد نهايتها قد يتم تأجيل معرفته إلى الأجيال التالية؛ بينما من سيعاصرها لن يكون أمامه سوى التأقلم القاسي مع وضع غير سوي، وكما يقول كانط: "الحرب لا تقتصر على معركة بين جيوش، بل صراع داخل النفس البشرية".
مع إطالة أمد الحرب، يجد الإنسان نفسه أمام خيار قسري بضرورة الانسجام مع الوضع المضطرب، لأن عدم التأقلم يعني الذهاب نحو الجنون
من الانتقال المؤقت إلى صعوبة العودة
من منطلق غريزة البقاء، والتي تدفع شخصاً للانتقال نحو المساحات الآمنة، يقرّر عدد لا بأس به من الناس، فور انطلاق الصراع في بلد ما، الرحيل عن أوطانهم، باعتبار ذلك الخيار هو الأكثر ضماناً من بين الخيارات المختلفة، وتحديداً في ظرف قاتل كهذا.
تأتي فكرة الانتقال المؤقت إلى بلد آخر كوسيلة بحث الإنسان عن سلامه الخاص، بينما بالفعل تبدأ رحلة مشقة نفسية تصيب الوجدان والذاكرة، ففي لحظة المغادرة القسرية تلك، لا أحد يفكر آنذاك سوى بالسفر، لكن كل فرد يغادر الحي الذي يسكنه، يستبعد تماماً من ذهنه فكرة عدم العودة، فغالبية الناس، لقساوة الفكرة، لا يمكنهم حتى تحمّل مرورها في خاطرهم، بينما نسبة كبيرة يغادرون ولديهم ثقة مطلقة بالرجوع، ولازالوا عالقين في ذلك اليقين، ومنتظرين أن تتلاشى أسباب رحيلهم لكي يعودوا، وحتى اللحظة يبدو أن العودة بعيدة المنال، ومهما تأقلموا، إلا أن كل يوم يمرّ يأتي على حساب الغرق أكثر في الشوق لمساكنهم الأولى، وتكاد أرواحهم تتلاشى من فرط الحنين.
بعيداً عن أولئك الذين هاجروا إلى أوروبا، لأن أغلبيتهم ذهبوا ولا يوجد في ذهنهم الإقامة المؤقتة، بالرغم من عددهم الكبير جداً، وكذلك بعيداً عن النزوح الداخلي أيضاً، والذي أرقامه عالية جداً، لكن، هناك أعداد كبيرة ممن غادروا أوطانهم بفكرة الإقامة القصيرة، والتي لم تنته إلى الآن، وأبرز نموذج لهذا النوع، من انتقلوا إلى مصر، باعتبارها أكثر قطر عربي آمن للإقامة فيه، والذين وصل عددهم في عام 2022، بحسب الهجرة الدولية، إلى تسعة ملايين شخص، من بينهم مليون يمني، ومليون ليبي، ومليون ونصف سوري.
هؤلاء تقريباً لا أحد منهم ذهب وفي ذهنه إقامة دائمة، وبالرغم من الأرقام الكبيرة المذكورة، غير أن مصر ليست الوجهة الوحيدة لمن غادروا مؤقتاً، بل هناك وجهات عدة، على سبيل المثال تركيا، الأردن ولبنان، أيضاً انتقل إلى دول الخليج عدد كبير من سكان دول الصراع، لكن يمكن استثناء هؤلاء لأن ذهابهم يأتي بقصد الحصول على فرص مهنية أكثر من كونه إقامة قصيرة.
وفي النهاية، ليس بالضرورة أن جميع من غادر بسبب الصراع لديه الرغبة في العودة إلى الوطن، إلا أن الفكرة تتمثل في أن نسبة كبيرة منهم قد غادروا وفي ذهنهم أنها رحلة مؤقتة ثم يعودون إلى بلدانهم، بينما تمضي الأعوام وهم عالقون ولا يستطيعون الرجوع، فعودتهم صعبة لعدم تلاشي الأسباب الذي دفعتهم للمغادرة، والأهم من ذلك، أن نسبة كبيرة من أولئك الباقين في بلدانهم يريدون الالتحاق بالمغادرين، ففي دراسة أجريت مؤخراً، تقول إن قرابة 20% من سكان الوطن العربي يرغبون بالهجرة من بلدانهم، بل في بعض البلدان تصل النسبة إلى النصف، بينما في بلدان أخرى وصلت النسبة إلى 13%، وبشكل عام، فإن هذه الرغبة التي يمتلكها من في أوطانهم، تعزّز فكرة أن الإقامة المؤقتة عند من هم خارج أوطانهم قد تستمر أكثر.
قد تكون الدولة الوطنية، بما عليها من ملاحظات، أفضل تطور وصلت إليه البشرية، وتحديداً فيما يخص فكرة السلطة أو الحكم، لأن ذلك يخدم استمرار الحياة بشكل منظّم إلى حد ما
حياة مؤجلة... إلى متى؟
لتحاشي الندم لاحقاً، يحمل الإنسان هاجساً داخلياً دائماً باتخاذ الخطوات الصائبة في حياته، ومن بين العوامل المساعدة في صحة القرارات؛ أن تتم في الوقت المناسب. هذا الأمر يصنع تردّداً في عمق كل إنسان، ويجعله يتعامل بتلك الحيرة في مختلف تفاصيل حياته، فهو ينتظر اللحظة المناسبة ولا يعرف متى ستحين، وفي انتظار مجيئها، يبقى التأجيل هو السائد. هذا في الوضع الطبيعي، بينما حين تشتعل الحرب يفرض التأجيل نفسه، فالواقع الملائم شرط أساسي في استمرار الإنسان بخطواته نحو تحقيق ما يريد.
تختلف رغبات الأشخاص وأهدافهم؛ فمنهم من يريد عمل مشروع تجاري، وآخر يفكر في بناء عائلة، والبعض يسعى نحو شراء منزل أو اقتناء سيارة، وآخرون يريدون إصدارات بحثية أو أعمال أدبية، إلا أن مداهمة الحرب لحياتهم أعاقت، بشكل أو بآخر، المواصلة في السير كي تصبح أحلامهم واقعية، فالفضاء الحربي، بحسب ميشيل فوكو، ليس مجرّد ساحة معركة فيزيائية، بل أبعد من ذلك، حيث يجد الإنسان نفسه مضطراً للتكيّف مع واقع جديد يتحدّى حريته واستقلاليته.
بالطبع، الحياة التي يريدها الإنسان، أو يسعى إليها، تتلاشى أثناء الصراع، إلا أن الشخص يجد في ذلك الأمر مجرّد فترة مؤقتة، وبناء على ذلك يقوم بتأجيل معظم مخططاته في الحياة، ثم تمر الأيام وتلك المشاريع عالقة والحرب تتجذّر أكثر، ويجد الجميع أنفسهم أمام واقع جديد، وهنا، منهم من يتخذ خطوات مستعجلة لتنفيذ ما يريد، ولو بشكل أقل مما كان يتوقع، ومنهم من يحلّ الإحباط بديلاً لتلك الخيالات الجميلة، ومنهم من ينتظر مجيء الوقت المناسب، وفي ذهنه يدور سؤال لا إجابة له: إلى متى؟
التأقلم القسري مع غياب الدولة
قد تكون الدولة الوطنية، بما عليها من ملاحظات، أفضل تطور وصلت إليه البشرية، وتحديداً فيما يخص فكرة السلطة أو الحكم، لأن ذلك يخدم استمرار الحياة بشكل منظّم إلى حد ما، إلا أنه، وبينما العالم يذهب إلى تعزيز هذا الأمر والارتقاء به وترسيخ فكرة المؤسسة، تذهب البلدان العربية منذ أعوام نحو هدم هذا الكيان المعنوي، إما لصالح التشظّي أو سيادة جماعات ميليشاوية، وفرض حكم طائفي لا يتمتع بأي إجماع، أو أي شكل آخر، وجميع كل تلك الأشكال تجمعها سمة واحدة: سلطات متخلية عن مسؤوليتها اتجاه المجتمع لصالح الإفساد أو لصالح حروبها الخاصة.
في خيال الإنسان المعاصر يستحيل استمرار الوضع طويلاً بلا دولة، فالأجيال، الموجودة حالياً على الأقل، منذ ولادتها عاشت فترة حضور الدولة، وتدرك أهميتها، لذا، عند تراجع دور تلك المؤسسات، نسبة كبيرة من المجتمع تعتقد بأن ذلك الأمر مؤقت ولن يستمر طويلاً، فالحياة لا يمكنها الاستمرار، والاحتياج الوجودي للدولة بإمكانه صناعتها أو استعادتها، وتمر السنين، وتتكاثر الصراعات والحروب، ويتفكك النسيج الاجتماعي، في المقابل يجبر المجتمع على التأقلم مع غياب الدولة، ويعرف أن عودتها على المدى المنظور أمر مستبعد.
في أغلب دول الوطن العربي، لم يعد أحد يفكر في نسب النمو، ولا في حركة الاقتصاد، وذهب الأفراد نحو الحصول على خدمات غير حكومية، كالكهرباء والماء وغيرها، بينما وظائف الدولة أمر لم يعد متوفراً، والسياحة أيضاً باتت نادرة، وبالطبع أقصد هنا دول الصراع، وبالرغم أن صناعة الحلول الذاتية أمر ايجابي إلى حد ما، لأن ميكانيزمات الإنسان تدفع نحو استمرار الحياة وابتكار حلول ما، إلا أنه، وبالمقابل، يعتبر ذلك الأمر مدمراً وقاتلاً، فالتأقلم مع المؤقت والخضوع للحياة بأي شكل كان، قاتل للطموح، وينتزع من الإنسان أجمل ما فيه: التوق الدائم للأفضل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.