اقتربت نهاية السنة الأولى من الحرب. سنة كاملة من قتل الفلسطينيين في قطاع غزة واقتلاعهم من بيوتهم وأماكن سكنهم. سنة كاملة من المجاعات الصغيرة والكبيرة، ومن شحّ النقود وندرة السلع وغلاء أسعارها الجنوني. سنة كاملة من انهيار المنظومة التعليمية وإلقاء التلاميذ والطلاب في الشارع أو في الخيام، ومن انهيار المنظومة الصحية وبتر الأطراف كيفما اتفق، أو موت الجرحى أمام يأس الأطباء وقلّة حيلتهم.
الآلة العسكرية الإسرائيلية تنكّل بالفلسطينيين في القطاع وفي الضفة الغربية، أمام مرأى العالم، والذي لا يقدّم إلا عبارات الشجب والاستنكار، كما يحصل من المؤسسات الأممية في الغرب، أو عبارات التهديد والوعيد بسحق إسرائيل وإخفائها عن الخارطة، كما تعوّدنا من بعض الحلفاء.
لكن سنة كاملة من الحرب، بكل وحشيتها الظاهرة على الشعب الفلسطيني، وفوق ما نراه ويراه العالم عبر محطات الإعلام ومواقع السوشال ميديا من تنكيل وقتل وتهجير، إلا أن لها جانباً لا يتمّ إيلاؤه الاهتمام الكافي، لا من الطبقة السياسية الفلسطينية بكافة تياراتها وفصائلها، ولا من الكُتّاب والمفكرين الفلسطينيين، أو حتى من المتعاطين مع الشأن السياسي والثقافي.
سنة كاملة من حرب أكلت الأخضر واليابس، لكن طبقتنا السياسية والفكرية ظلت تتجاهل الأسئلة الكبرى، واكتفت بالشعارات والنقاشات العاطفية التي لا تختلف عما يدور من "كلام" بين الجدّات على عتبات البيوت
لقد حفرت هذه الحرب عميقاً في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، والبنية الثقافية والفكرية لدى الجميع بلا استثناء؛ بحيث أحدثت شرخاً حاداً أدى إلى اصطفافات لا يمكن التسامح بين مكوناتها، حتى ولو كان ذلك على حساب مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته الأساسية. لقد تسيّدت لغة التخوين بأعلى تمظهراتها، حتى وصل الأمر باتهام الخصوم أنهم يعملون لصالح الوحدة 8200 في الجيش الإسرائيلي، وعلى الجانب المقابل، لا تقلّ اللغة المتشنّجة في عبثيتها واستسهالها الشتائم، والاتهامات للطرف الآخر بالتهوّر، والعمل لصالح أجندات خارجية لا تعير الإنسان الفلسطيني وحياته أي اهتمام.
لقد وجد المواطن الفلسطيني نفسه بين تيارين يحصران نقاشهما في جدوى الحرب أو عبثيتها، في الانحياز لبرنامج السلطة أو لبرنامج حماس، في البحث عما ينقذ المواطن الفلسطيني أو في البحث عما يؤذي الإسرائيلي، وبالنتيجة: في التصفيق لهذا الطرف أو ذاك. ودون التقليل من أهمية هذه المواضيع التي يجري حولها "النقاش" (إن جازت تسمية هذا التشنّج نقاشاً) إلا أن هناك ما يتمّ إغفاله عن قصد أو عن عدم دراية، تحت مبرّرات أن الأسئلة الكبرى ليس هذا أوانها.
لكن الأسئلة الكبرى وإجاباتها هي ما تحدّد نتيجة المعركة في نهاية المطاف، أو على الأقل هي ما يتمّ الاسترشاد به من أجل مسار مضبوط لما يمكننا القيام به بما يضمن تحقيق أهدافنا، أو على الأقل محاولة الاقتراب من هذا التحقيق.
استهلكنا أنفسنا في الاستماع إلى المحللين العسكريين على قنوات النفط والغاز، لكن شيئاً لم يتغير في السيناريو المرسوم للحرب، واستهلكنا أنفسنا في انتظار الانقسام الموعود في معسكر الأعداء، أو على الأقل في انتظار سقوط نتنياهو، أو تعمق الخلاف بينه وبين المؤسسة العسكرية، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، واستهلكنا أنفسنا في انتظار الردّ الإيراني والذي لم يأت، ومن المرجّح أنه لن يأتي أبداً، وفي صحوة ضمير العالم وشعوبه، أو في انتظار انتفاضة عربية إسلامية، أو أية نجدة ما من أي طرف، تغيث هذا الشعب المتروك لفاشية الآلة العسكرية، ولكن كل ذلك ظلّ على رفّ الانتظار سنة كاملة.
استهلكنا أنفسنا في الاستماع إلى المحللين العسكريين على قنوات النفط والغاز، واستهلكنا أنفسنا في انتظار الانقسام الموعود في معسكر الأعداء، أو على الأقل في انتظار سقوط نتنياهو، واستهلكنا أنفسنا في انتظار الردّ الإيراني
سنة كاملة من حرب أكلت الأخضر واليابس، لكن طبقتنا السياسية والفكرية ظلت تتجاهل الأسئلة الكبرى، واكتفت بالشعارات والنقاشات العاطفية التي لا تختلف عما يدور من "كلام" بين الجدّات على عتبات البيوت، إذ ما الذي سيستفيده الشعب الصامد في غزة مثلاً لو كتبنا يومياً، أو صرخنا بأعلى قدرة لحناجرنا، أو حتى بمكبرات الصوت، أنه صامد، دون ان نقدم له اقتراحاً واحداً يعزّز صموده، أو دون أن نستمع لغير الصامدين ونأخذهم على محمل الجد؟
هذا مثال بسيط، بل وسطحي، لكن الهدف منه هو إيصال الصورة لما يحدث ولما يجب أن تكون عليه الأمور في النقاش حول أسئلة أفرزتها الحرب ولا بد من الإجابة عليها.
أول هذه الأسئلة هو ما يتعلق تحديداً، وبشكل مباشر، بالشرخ الذي أحدثته الحرب، وبتغذيته اليومية من قِبل كتّابنا ومحللينا. هل نحن ذاهبون إلى حرب أهلية؟ ألا يؤسّس هذا الانسداد في الأفق السياسي واليأس المرافق له، والدم المسفوك بشكل يومي دون بوادر حقيقية لحل يلوح في الأفق، وتحوّلنا في غزة إلى شعب ينتظر المساعدات، وفي الضفة إلى شعب عاطل عن العمل، ألا يؤسّس ذلك إلى انهيار اجتماعي يتحول إلى فوضى ومنطق عصابات؟ ثم حين يترافق مع ضخّ لشعارات سياسية اتهامية، ينتقل إلى حرب بين جميع الأطراف؟ هل نحن محصنون من ذلك بسبب قضيتنا الوطنية الأسمى، أم أن بذور الشقاق لا تختلف عما حصل في ليبيا أو سوريا أو أي بلد غرق في النزاعات الأهلية؟
علينا أن نسأل أنفسنا بجدية متناهية عن عمقنا العربي والإسلامي، وأين أخطأ بحقنا أو أخطأنا بحقه، وعلينا أن نعيد حساباتنا حول جدوى الحلفاء، وأن نعيد النظر في تقسيماتنا للدول حسب نموذج ما قبل عصر العولمة
السؤال الثاني هو حول الحلفاء في هذه الحرب، ولا أقصد هنا الحلفاء المنخرطين فيها بشكل مباشر، كحزب الله والحوثيين، بل حلفاء الشعب الفلسطيني المفترضين تاريخياً. لقد عوّدتنا الطبقة السياسية والفكرية على مهاجمة الغرب كعدو، وتطور الأمر في هذه الحرب إلى خطاب يتهم هذا الغرب بخذلان الشعب الفلسطيني، بأن خذل القيم التي يؤمن بها هو ذاته، أو يدعي إيمانه بها. لكن لا أحد حلّل لنا موقف الصين، أو روسيا، أو اليابان، أو أندونيسيا (كأكبر بلد إسلامي). ما الذي قدمته الصين عدا المواقف اللفظية التي لا تختلف أبداً عن تصريحات ماكرون؟ وكيف ساهمت كحليف في وقف قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه؟ وأي انعكاس لمواقفها صنع فارقاً على الأرض؟
لا يكفي أبداً أن نمتدح الوقوف المبدئي لهذه الدول مع قضيتنا، في حين أن باب الدبلوماسية والتجارة البينية لم ينقطع مع إسرائيل، على عكس ما حصل مع النرويج مثلاً، وهي دولة من المعسكر الغربي.
علينا أيضاً أن نسأل أنفسنا بجدية متناهية عن عمقنا العربي والإسلامي، وأين أخطأ بحقنا أو أخطأنا بحقه، وعلينا أن نعيد حساباتنا حول جدوى الحلفاء، وأن نعيد النظر في تقسيماتنا للدول حسب نموذج ما قبل عصر العولمة، والذي كانت حركات التحرّر العالمية أحد سماته. عالم اليوم مختلف، ولا بد من إقرارنا بذلك والسعي لإعادة تموضعنا فيه بما يضمن عدم اندثارنا، كما حصل مع السكان الأصليين لأمريكا وأستراليا وغيرهما.
أما فيما يخصّ الحلفاء المنخرطين مباشرة في هذه الحرب، فعلينا أن نطرح الأسئلة الصعبة وأن نجيب عليها. لا يكفي القول إن إيران معنا، ولا يكفي القول كذلك إنها تستخدمنا كأحد تشكيلاتها، بل علينا أن نغوص جدياً في دورها وتصريحاتها المزمنة وعدم ردّها إلى الآن، وبغضّ النظر عمّا يتوصّل إليه النقاش، لكن لا بد من فتحه. منع الكلام تحت يافطة تثبيط المعنويات لا يعدو كونه أحد مساخر الحروب، ومنع النقاش لا يؤدي إلا إلى المفاجآت التي لا تُحمد عقباها.
ماذا لو قال أحدهم مثلاً إن حزب الله سيتآكل دون الدخول في حرب جدية؟ وماذا لو كان مخطئاً؟ ماذا لو قال أحدهم إن الخلاف في إسرائيل هو بين المستوى السياسي والعسكري في غرف صنع القرار، أما المجتمع فموحّد ضدنا ويزداد في التطرف، وعلينا ألا نراهن على هذا الخلاف وأن نبيع أنفسنا الوهم؟ وماذا لو كان مخطئاً؟
عشرات الأسئلة التي يجب الإجابة عليها بعد مرور سنة على هذه الحرب الهمجية، وإن بقينا في دائرة النقاش السطحي الذي تديره وترعاه القنوات الإعلامية، فإن مصيرنا ذاهب نحو المجهول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 4 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 9 ساعاتتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ 9 ساعاتتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ 9 ساعاتتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا