منذ أن بدأت حرب الإبادة المتوحشة على غزة، بدأ معها عمل ماكنات التضليل المحترفة، تلك التي ضخمت القدرات البدائية جداً للتشكيلات العسكرية في غزة، عبر استخدام مصطلحات تضخيمية تصوّر ما يحدث على أنه حرب بين قوتين متكافئتين. لكن هذه لم تكن الحقيقة.
وبصرف النظر عن السياق الذي يجعل الفعل العسكري مبرراً أم غير مبرر، إلا أن التصريحات السياسية التي أدلى بها قادة حماس في الأسبوع الأول من الحرب، عن عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على اجتياح غزة برياً، وعن أنه لن يجرؤ على فعل ذلك، كما قال موسى أبو مرزوق لقناة الغد، في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم تمنع ماكنات التضليل من تعتيم صوت الغزيين خلال الإبادة، الرافض لهذا التصوير البطولي، كما أعتمته لسنوات طويلة من قبل.
احترفت ماكنات التضليل جعلَ الحقائق مسائلَ جدلية، وجعلت من الدم الغالي والأرواح الغزية المقدسة، خاناتِ أرقامٍ دائمة الزيادة.
وتمادت هذه الماكنات في قولبة الحقائق وجعلها تبدو مختلفة للجمهور الذي يتابع الإبادة عبر شاشات التلفزيون، خاصة في تحليل الشأن الإسرائيلي وتغطية الأحداث المرتبطة بالمعارك الميدانية وخرائط السيطرة، ومحاولة التخفيف من حجم الكارثة بالقول إن ما تفعله اسرائيل في غزة ليس شيئاً مرعباً أو احتلالاً أو سيطرة عسكرية.
أما السؤال السياسي وراء السابع من أكتوبر ينبغي له أن يكون مطروحاً بقوة، خاصة وأن من اتخذ هذا القرار المدمر والكارثي في ذلك اليوم، كان يعرف جيداً أنه ليس بمقدوره منع العدو من تدمير كل ما يرغب في تدميره
وهذا ما درج في السخرية الواسعة من محلل قناة الجزيرة فايز الدويري حين قال جملته الشهيرة: "خاصرة رخوة".
ثم رسمت عمليات التضليل أبعاداً أكثر اتساعاً، حين لم تطرح السؤال السياسي خلف السابع من أكتوبر، ولم يجب عنه أحد حتى هذه اللحظة.
سؤال الحرب لم يكن تشاركياً أو جماعياً، بل كان فردياً حزبياً. وحتى هذه الحقيقة يتم تمييعها وجعلها مسألة جدلية، وربما إنكارها في أحيان كثيرة.
أما السؤال السياسي وراء السابع من أكتوبر ينبغي له أن يكون مطروحاً بقوة، خاصة وأن من اتخذ هذا القرار المدمر والكارثي في ذلك اليوم، كان يعرف جيداً أنه ليس بمقدوره منع العدو من تدمير كل ما يرغب في تدميره.
كما أنه يعرف جيداً أن العدو يمتلك كل الأسلحة والدعم الدولي والإقليمي، وبإمكانه أن يحتل ما يرغب باحتلاله.
وهذا ليس اصطفافاً مع خيار الاستسلام أو الركون إلى مشهد القوة، ولا حتى ادعاء للعقلانية، بل هو تفتيش في الحقائق؛ الحقائق التي تقول إن اللجوء إلى لعبة العنف التي تجيدها إسرائيل كانت نتيجته معروفة مسبقاً.
وفي هذه اللعبة، ثمة لاعبون أيضاً. ومن اتخذ قرار الذهاب إلى السابع من أكتوبر يعرف جيداً أن جميع اللاعبين في المنطقة وفي الساحة الدولية لن يتدخلوا إلى جانبه، ولن يكونوا قادرين على تغيير قواعد اللعبة- لعبة العنف التي تجيدها إسرائيل- بما يخدم بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، ومنع الاحتلال من محاولة محوه عن الوجود. ألا يحصل هذا أمامنا الآن؟
تجديد الحياة لا يعني "إعادة الإعمار"
وبناء على هذه الحقائق، والوقائع التي تغيرت في غير صالح الشعب الفلسطيني وقضيته العظمى منذ السابع من أكتوبر، يتم طرح مسألة شائكة منذ نحو عام وحتى الآن، وهي مسألة اليوم التالي.
ولعلّ لا أحد من هذه الأطراف -بما فيها ذلك الذي اتخذ قرار الحرب، وحده منفرداً، دون أن يحقق شيئاً- يسأل نفسه عن مكونات اليوم التالي وكيفية إدارته.
فمن الذي يحق له فعلًا أن يُسأل عن شكل هذا اليوم؟ ومن هو الطرف الذي عليه أن يجيب عن هذا السؤال.
ثمة من يحاول، مرة أخرى، بعد هذه المقتلة المرعبة، أن يتجاوز الغزيين ورأيهم وما يرغبون في تحقيقه، و"يومهم التالي" الذي سيعيشونه في مكان مدمر يفتقد لكل مقومات الحياة الأساسية؟
تجديد الحياة لا يعني "إعادة الإعمار"، فهذه العملية ليست أكثر من عملية اقتصادية وسياسية يتنازع فيها الممولون ومن يضعون اعتباراتهم السياسية
لماذا لا يسأل أحد الغزيين عن اليوم التالي الذي يريدونه سياسياً؟ ولماذا على طرف فشل في تحقيق أي شيء، أن يكون هو من يفاوض على "اليوم التالي"؟ ولماذا يسمح لنفسه بأن يفرض شكل "اليوم التالي" على الغزيين؟
لماذا لا يسأل أحد النازحين في الخيام، الذين يصطفون على طوابير المياه ويركضون خلف "المساعدات" التي ترميها الطائرات في مشهد بشع ومخيف وغير إنساني، عن "اليوم التالي" الذي يريدونه؟
تحاول ماكينات التضليل الإعلامية والإقليمية أن تتعامى عن هذه الأسئلة البديهية، لأنها هي جوهر القضية الفعلي؛ بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وقدرته على تجديد الحياة مرة أخرى.
وتجديد الحياة لا يعني "إعادة الإعمار"، فهذه العملية ليست أكثر من عملية اقتصادية وسياسية يتنازع فيها الممولون ومن يضعون اعتباراتهم السياسية.
لكن تجديد الحياة هو الذي سيبعث في المكان وفي أهله الروحَ مرةً أخرى. وهذا لن يتم إلا بخيارات الغزيين وبقائهم الوجودي وقدرتهم على تشكيل عصب المجتمع مرة أخرى، بعد أن انهار كل شيء في هذه المذبحة المروعة.
هذا بالضبط هو السؤال السياسي الذي لا يريد أحد أن يجيب عنه. لماذا لا يسأل أحد الغزيين عن رأيهم في اليوم التالي؟
هل تصير الحياة وردية بانسحاب الاحتلال؟
أحد الغزيين الذين قابلتهم صحيفة "بزنيس إنسايدر"، تساءل هو الآخر عن اليوم التالي بعد خسارته زوجته ومطعمه: "لماذا أعود إلى غزة؟ كي أبني مطعمي مرة أخرى، ثم تبدأ حرب أخرى بعد سنتين؟ ومن أجل ماذا؟".
لا يختلف أحد على حقيقة أن غزة تم تدميرها فعلاً، بما في ذلك قادة حركة حماس الذين يحاولون منذ شهور أن يمارسوا الخداعَ الساذج بأنهم يفاوضون على انسحاب الجيش الاسرائيلي من غزة.
وكأنهم لم يقرأوا التاريخ ولا يعرفون أن إسرائيل لا تفاوض على البقاء، بل تفاوض على مسحنا، وجعلِ غزة غير قابلة للحياة، وهذا ما فعلته فعلاً: ارتكاب إبادة جماعية بحق السكان ومحو المكان كله.
لماذا لا يسأل أحد النازحين في الخيام، الذين يصطفون على طوابير المياه ويركضون خلف "المساعدات" التي ترميها الطائرات في مشهد بشع ومخيف وغير إنساني، عن "اليوم التالي" الذي يريدونه؟
وستخُرج بعدها حماس فوق الأرض وتتركنا نصارع أنفسنا على لقمة العيش وإعادة الهيكلة المعمارية، في حين نتحوّل نحن إلى طعم سهل للتغيرات السياسية والأجندة العملياتية للمؤسسات الإنسانية.
لكن ثمة إصرار غريب على ممارسة الغباء والتضليل في القول إن انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة هو النهاية لهذه الحرب. هذا غير صحيح وغير ممكن في ظل سياسة المحو التي جعلت غزة غير قابلة للحياة حتى بعد "وقف إطلاق النار".
لماذا لا يجيب أحد من هؤلاء الذين يفاوضون الآن عن هذه الأسئلة التي من المفترض أن تكون بديهية؟ من الذي سيعيد الإعمار؟
هل سيدفع طرف شيئاً لعملية إعادة الإعمار مع بقاء حماس في الحكم؟ هل سيعترف أحد بحكم حماس لو ظل موجوداً بشكله الحالي كحكم شرعي؟
هل سيُفكّ الحصار عن غزة، لتكون مستقلة بذاتها، ويكون الناس قادرين على الحركة والتنقل؟ هل العودة إلى السادس من أكتوبر، بواقع الخراب الجديد، هي الهدف؟
بقاء الجيش الاسرائيلي في غزة هو احتلال فعلي. لكن الحصار احتلال أيضاً. الغزيون لا يريدون احتلالاً مباشراً أو احتلالاً بكاميرات حديثة وأسلاك شائكة تلتف مرة أخرى حول أعناقهم.
وما لا يريدونه بالطبع، هو ذلك العرض الذي يركض فيه بعض مسؤولي حماس بجوار ماكنات التضليل، والذي يقول إن الحرب ستنتهي والحياة ستصبح وردية عندما ينسحب الاحتلال، متجنّبين، بشكل دنيء، الإجابة عن سؤال: ما هو شكل "اليوم التالي" أصلاً؟ ولماذا لا يُشرَك أحد الغزيين في تشكيل هذا اليوم؟
أليسوا هم الأحق بأن يشكلوا ويرسموا يومهم الذي يعيشونه بعد الإبادة التي سحقت بقاءهم وفتت قلوبهم ودمرت مدنهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.