شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أين الحرية يا برلين؟

أين الحرية يا برلين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الثلاثاء 24 سبتمبر 202410:52 ص

في الطريق المؤدية من شارع "زونن أليه" والذي يسمى "شارع العرب" في برلين، إلى شارع "كارل ماركس" هذه المنطقة التي تمتاز بشبهها الكبير بعوالم وبلاد جئنا منها، أسير على دراجتي والشمس  تكاد تذيب رأسي المليء بالصور. في لحظة ما أشعر أني لا أرى شيئاً، وفي اللحظة التالية أرى كل شيء بوضوح، كما لو أنني مسحتُ نظارتي بعد يوم طويل في المكتب.

إنها الساعة الرابعة بعد الظهر في يوم صيفي غير متوقع على الأقل بالنسبة لساكني المدينة الذين لم يعتادوا هذا النوع من الحرّ: "شكراً لتغير المناخ".

أعرف الطريق بدون خرائط، لأني أعيش في هذه المدينة منذ تسع سنوات، وبتّ أعرف شوارعها أكثر من معرفتي بشوارع مدينة حلب التي عشتُ فيها أول عشرين عام من عمري.

من الصعب جداً الإقرار بأن هذه المدينة (برلين) هي مدينتي التي ربما سأدفن فيها يوماً ما. أعترف بأنني أستطيع أحياناً أن أتخيّل نفسي في مواقف معينة، ويحدث كما تخيلت تماماً، كأن أتخيل نفسي أجلس في شرفة منزل أمي سعيدة أغني، أو أتخيل نفسي تعيسة مع رجل التقيته للتو في علاقة ما.

قالت لي صديقتي التي تؤمن بأن لكل برج مواصفات محدّدة، بأن أصحاب برج الحوت يتمتّعون بخيال خصب. لا أؤمن بالأبراج ولكني أفرح في كل مرّة تغني لي فيها أمي أغنية عمرو دياب "والله بحبك موت وأحب برج الحوت".

وعلى الرغم من خيالي الخصب، حسب صديقتي عالمة الأبراج، إلا أنني لا أتخيل أن يُكتب على شاهدة قبري: "من حطين، ولدت في حلب وماتت في برلين".

وعلى الرغم من خيالي الخصب، حسب صديقتي عالمة الأبراج، إلا أنني لا أتخيل أن يُكتب على شاهدة قبري: "من حطين، ولدت في حلب وماتت في برلين"

أتذكر تلك الأغنية الألمانية المشهورة والتي تحمل اسم "Haus am See" أي: "بيت قرب البحيرة"، عندما تقول: Hier bin ich gebor'n, hier werd ich begraben

 أي "هنا ولدتُ وهنا سأدفن"، وأفكر كم هو صعب لشخص مثلي أن يفكر بهذه الفكرة؟

أعود إلى الواقع ما إن أرى العلم الفلسطيني معلّقاً على أحد الشبابيك المطلة على الشارع الذي أريد الوصول إليه.

منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، وبرلين أصبحت غريبة، وقريبة، وحرة، ومقيدة، في نفس الوقت. لا أعرف كيف سأشرح كل ذلك، ولكن ربما اذا تابعت القراءة ستعرف.

ألتقي صديقي علي في موعد سابق للموعد المحدّد، حيث سأقوم اليوم بمقابلته بشكل رسمي من أجل تقرير أعدّه للراديو الألماني عن "لماذا نحن هنا؟"، أقصد في ألمانيا، أو "هل سنبقى هنا؟".

علي الذي قضى في هذه المدينة بضع سنوات، لم يعد يطيق الحياة فيها مؤخراً، بسبب التضييقات على المهاجرين عموماً والعرب بشكل خاص، سياسية ألمانيا الخارجية تجاه مايحدث في غزة، وأيضاً نتائج الانتخابات الأخيرة التي تشير بشكل متواصل إلى ارتفاع اليمين المتطرف في هذه البلاد: "بتعرفي أنو النازيين بلشوا بنفس النسبة33%، لك نفسا تخيلي؟ متل ما الحزب اليميني المتطرف هلأ أخد بالانتخابات الأخيرة. يعني التاريخ عم بعيد نفسه حرفياً وبتعرفي شو المشكلة، المشكلة أنو الكل عارف وساكت".

هل تغير الناس بهذه السرعة في ألمانيا، أم كانوا هكذا منذ فجر التاريخ ولكن بسبب عباءات سياسية معينة خُيّل إلينا أن شيئاً آخر يحدث؟

أجلس مع علي على حافة الطريق نشرب المتّة الباردة. نتحدث عن الوضع السياسي الألماني وعن الحياة، ونراقب بعض أفراد الشرطة الألمانية في نفس الشارع وهم يوقفون السيارات التي يركبها المهاجرون، ليقومون بتفتيشهم بحجّة أنهم يقودون في الطريق الخاطىء.

كان يمكن للشرطة أن تكتب لهم مخالفة فقط، ولكن فضّل أولئك العناصر إيقاف السير والتشديد على السائقين من أصحاب البشرة الملونة، ثم إخبارهم بعد حين بأن عليهم دفع مبلغ مالي قيمته 50 يورو قبل الاستدارة والعودة من الطريق نفسه. كنا ننظر إلى كل تلك السلطة الممارسة أمام أعيننا، وكلانا يعلم أنهم يستغلّون عدم دراية الناس للقانون لممارسة هذه الأفعال.

أسأله: "طيب لوين بدك تروح يا علي؟"، يجيبني: "أي مكان ما أحس فيه إني غريب بالشكل، أي مكان بقدر أمشي فيه بدون ما كل العيون تكون عليّ، على فكرة ببرلين نحنا كتير محظوظين بس شوفي بمدن ألمانية تانية بتحسّي حالك كائن فضائي".

أقرأ الكلمة المبخوخة على الحائط أمامي بصعوبة: "حرية". يعود بي الزمن إلى تلك الأيام الأخيرة التي قضيتها في حلب. هل هذه هي النهاية إذن؟

يُخرج علي هاتفه ليُريني فيديو لأحد السياسيين الألمان المعروفين، وهو يقول بأن نصف جرائم الاغتصاب في ألمانيا يقوم بها الرجال ذو الخلفية المهاجرة، لأن ثقافتنا لاتحترم النساء.

يقول علي: "كيف بدي أضل ببلد بتفكر فيني هيك؟ بتعرفي كمان شو أبشع شي أنو بالنسبة إلن كلنا متل بعض، يعني لاتفرحي ع حالك بكل الشهادات اللي حاملتيها والثقافة واللغات. بلحظة منصير كلنا (الغرباء)، (الآخرون)، (الشرقيون)، (الإسلاميون)، (المغتصبون)".

أفكر هل يجب علينا دائماً الهروب؟ هل هو قدر ما أم لعنة؟ أحاول ترتيب أفكاري قبل أن أبدأ المقابلة باللغة الألمانية، والتي من المفترض أن أشرح بها لماذا هذا السؤال بات حاضراً دائماً في النقاشات العربية.

بعد بضع ثوان من مرور تاريخ عشته في هذه المدينة، أصبحتُ على يقين تام بأن ألمانيا بلد غير مرحّبة. ربّما تبدو الجملة قاسية بعض الشيء ولكن كل ماحولي يشير إلى ذلك: العنصرية اليومية في العمل، في الشوارع، حتى في المواصلات. السياسة الألمانية التي تتمايل مع تغير المناخ العام. العلاقات المؤقتة المبينة على الحالة المؤقتة التي يعيش بها أغلب الناس في البلد، وخصوصاً في برلين. الأوراق الكثيرة، المحادثات السياسية، الاتهامات التي تشير إليك بعد كل خبر عن مهاجر سيء، والأصابع التي تشير إلك بعد كل خبر عن مهاجر جيد. هل كانت الحال هكذا دائماً؟

لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال.

في البداية منذ 9 سنوات، كان كل شيء ضبابياً. لم تكن تعرف أن الناس لطيفون أم أن السياسة كانت تدعم ذلك الترحيب، خصوصاً بعد قرار المستشارة الألمانية ميركل باحتواء عدد كبير من اللاجئيين السوريين، وجملتها الشهيرة wir schaffen das  أصبحت على كل لسان ومعناها أنه سيكون كل شيء على مايرام وأننا نستطيع تجاوز ذلك.

كان أغلب السياسيين الذين ينادون الآن بترحيل أو عدم استقبال اللاجئين، ينادون بالتنوّع والتطلّع للاختلاف. تقارير مثل "جيراني السوريون الذين يطبخون لي الملوخية" و"الشاب السوري الأمين الذي وجد 500 ألف يورو وأعادها للدولة"، كانت كل يوم تُعرض على شاشات التلفاز، والكثير الكثير من الفعاليات والاحتفالات التي تتغنى بالثقافة العربية، من منا مثلاً لم يشاهد فيديوهات مجموعة العجائز الألمان وهم يغنون "شوف ايني شوف، شوف روهي شوف"، أو رقصات الدبكة التي تقام في الشوارع.

كان كل شي زمرّدياً أو هكذا كان يبدو.

تقارير مثل "جيراني السوريون الذين يطبخون لي الملوخية"، كانت كل يوم تُعرض على شاشات التلفاز، أما الآن، فأراهنك بأنك ما إن تقّلب بين القنوات الإخبارية لمدة خمس دقائق، حتى تغلقها بسبب عناوين مثل "حان وقت الرحيل"، "لا مكان لمعادي السامية العرب في المدينة"

أما الآن، فأراهنك بأنك ما إن تقّلب بين القنوات الإخبارية لمدة خمس دقائق، حتى تغلقها أو تصاب بجلطات قلبية متتالية، بسبب عناوين مثل "حان وقت الرحيل"، "لا مكان لمعادي السامية العرب في المدينة"، "جاري العربي الذي يحب أردوغان ويصيّف في دبي" وغيرها.

تمشي في الشوارع غير الملونة، أي التي تمتاز بغالبيتها السكانية من الألمان الأصليين أو من يقال عنهم بالتعبير الألماني Bio Deutsche، فتشعر بشيء غريب في الجو، حواجز غير مرئية، كتلك الحواجز المتخيلة عند اختراق الزمان، ومشاعر متبلّدة ومحادثات غير منظورة تشعرك بالاغتراب الدائم.

هل تغير الناس بهذه السرعة في ألمانيا، أم كانوا هكذا منذ فجر التاريخ ولكن بسبب عباءات سياسية معينة خُيّل إلينا أن شيئاً آخر يحدث؟

أشغل جهاز التسجيل وأسأل علي باللغة الألمانية: "ماذا تشعر؟"، يجيبني: "أنا غاضب، أشعر بالاختناق كل يوم هنا، ولم يعد لدي طاقة على العمل ولا التبرير. أنا هنا لأني يجب أن أكون هنا وعند أول فرصة سأرحل".

أجمع أوراقي مع مشاعري المضطربة على تلك الطاولة، أُخرج مفاتيحي الملفوفة ببطيخة صوف صغيرة. أجلس على حافة الطريق، أفّكر بالمستقبل. أفكر في واقع بات واضحاً للجميع. أتفقد الأخبار... لا جديد: تزداد الأعداد تنقص الأرواح. أبكي بصمت. أتابع طريقي إلى المجهول.

"أين هي الحرية يابرلين": تصرخ هذه  الجملة في رأسي، وأتذكر بأني بعيدة جداً عن شوارع تعرفني، بعيدة عن بيوت أعرف أسرارها، بعيدة عن البحر. أركب دراجتي أجوب المدينة بلا هدف أو وجهة. أفكر: "وهلأ لوين؟".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image