شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"سياسة الشمبانزي" في عالم الديكتاتورية... كيف تعيقنا الأنظمة العربية عن التطوّر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الأربعاء 11 سبتمبر 202411:01 ص

على مرّ التاريخ، أثّرت الأنظمة الديكتاتورية على تطوّر العديد من الدول والمجتمعات العربية، وأعاقت محاولاتها للنهضة والازدهار. في تلك الأنظمة، غالباً ما يهيمن نموذج "ألفا"، حيث تُستبدل القيادة المبنية على الخبرة والحكمة بالسيطرة المطلقة والقمع. هذا النمط من الحكم يعتمد على فرض الهيمنة عن طريق التخويف والسيطرة، ما يؤدي إلى ركود المجتمعات وتثبيط الابتكار والتعاون.

النظم الديكتاتورية تُمكّن القادة من ترسيخ حكمهم من خلال الترهيب والقوة، وتمنع تطوير قيادات بديلة قائمة على الكفاءة والإعجاب.

المفارقة تكمن في أن المجتمعات العربية، التي تمتلك تاريخاً ثقافياً غنياً وخبرات متنوعة، تجد نفسها في كثير من الأحيان عاجزة عن التحرّر من نمط القيادة المهيمنة. كيف يمكننا التخلص من هذه الدائرة المفرغة من الاستبداد، والتحول إلى نماذج قيادة تعتمد على الهيبة والتقدير، بدلاً من الخوف؟

نموذج الشمبانزي "ألفا" في القيادة البشرية

تُقدّم دراسة فرانس دي وال لسلوك الشمبانزي في كتاب "سياسة الشمبانزي" نموذجاً مدهشاً لفهم الديناميكيات السياسية البشرية. إذ تتشابه القيادة المهيمنة في المجتمعات البشرية مع سلوك الشمبانزي "ألفا"، ما يثير تساؤلات حول خياراتنا للقيادة والتطوّر الاجتماعي.

في الفترة الممتدة من أوائل عام 1974 وحتى عام 1976، حكم الشمبانزي الذكر "يروين" مستعمرة الشمبانزي الكبيرة في حديقة حيوان برجر في هولندا كزعيم "ألفا". خلال تلك الفترة، يروين لم يكن مجرد شمبانزي عادي؛ لقد أصبح شخصية معروفة لدى البشر عندما قام عالم الرئيسيات الهولندي فرانس دي وال بدراسة أسلوبه القيادي في كتابه الشهير "سياسة الشمبانزي".

المجتمعات العربية، التي تمتلك تاريخاً ثقافياً غنياً وخبرات متنوعة، تجد نفسها في كثير من الأحيان عاجزة عن التحرّر من نمط القيادة المهيمنة. كيف يمكننا التخلص من هذه الدائرة المفرغة من الاستبداد، والتحول إلى نماذج قيادة تعتمد على الهيبة والتقدير، بدلاً من الخوف؟

قضى دي وال، ساعات لا تُحصى في مراقبة سلوكيات الشمبانزي، وتوصل لاستنتاج مدهش: التنظيم الاجتماعي للشمبانزي يشبه، إلى حد كبير، التنظيم الاجتماعي للبشر. الشمبانزي ينظم نفسه ضمن تسلسل هرمي دقيق، حيث يتنافس الأفراد على السلطة ويشكلون تحالفات، ويطوّرون سمعة اجتماعية، ما يجعلها كائنات "سياسية" بشكل لافت. ولاحظ دي وال أن سلوكيات الشمبانزي تتطابق بشكل مذهل مع الأفكار التي طرحها الفيلسوف الإيطالي مكيافيلي في وصفه للطبيعة البشرية.

عندما نُشر كتاب "سياسة الشمبانزي" لأول مرة في عام 1982، أصيب القرّاء بالدهشة من التشابه الكبير بين سلوك الشمبانزي والبشر، من حيث اعتمادهم على القيادة التي تجمع بين الهيمنة والخبرة.

الهيبة مقابل الهيمنة في القيادة

يوجد اليوم على كوكبنا ما بين 200 إلى 350 نوعاً مختلفاً من الرئيسيات، من بينها الشمبانزي والبشر. في حياتنا اليومية، عادة ما نستخدم أوصافاً مأخوذة من تصرّفات الرئيسيات لوصف سلوكيات بشرية، سواء كان ذلك بغرض السخرية أو الإهانة. ولكن التطور البشري قد علمنا أن هناك نوعين من القيادة التي تسود في المجموعات البشرية: قيادة بالهيبة وقيادة بالهيمنة. القيادة بالهيبة تأتي من الخبرة، وهي الشكل الأحدث من القيادة، في حين أن القيادة بالهيمنة أقدم بكثير.

تلعب الثقافة دوراً حاسماً في التطور البشري، حيث تنقل الأجيال السابقة معارفها وخبراتها إلى الأجيال التالية. هذه المعرفة التراكمية تساهم في تشكيل المجتمعات البشرية وتطويرها، ما يتيح لأفرادها التكيّف بشكل أفضل مع بيئتهم. مع مرور الوقت، أصبحت الخبرة الثقافية مصدراً للهيبة، والهيبة أصبحت بدورها تذكرة للحصول على مكانة اجتماعية عالية.

يقترح عالم الأنثروبولوجيا التطورية جوزيف هنريك، أن البشر بدأوا يعيشون كحيوانات ثقافية منذ حوالي مليون سنة. في ذلك الوقت، بدأت الخبرة الثقافية تلعب دوراً كبيراً في تحديد مكانة الأفراد داخل المجموعة. هذا التطور أدّى إلى ما يُعرف بـ "التطور المشترك بين الثقافة والجين"، حيث أصبحت الثقافة تؤثر في الانتقاء الطبيعي، وهذا قاد إلى تفضيل الأفراد الذين يمتلكون معرفة ثقافية غنية.

تدجين الذات وتطور المجتمعات البشرية

أثّر هذا التطور المستمر في طبيعة البشر، ما أدى إلى تدجين ذاتي لجنسنا. لقد بدأنا في تفضيل الأفراد الذين يمتلكون قدرات ثقافية عالية، الأمر الذي انتهى إلى تطوير مجتمعات أكثر تعقيداً وتعاوناً. في مجتمعات الصيد والجمع، كانت الهيبة هي المعيار الأساسي للمكانة الاجتماعية، حيث وُزِّعَت السلطة بين مختلف الخبراء الثقافيين داخل المجموعة.

علّمنا التطور البشري أن هناك نوعين من القيادة التي تسود في المجموعات البشرية: قيادة بالهيبة وقيادة بالهيمنة. القيادة بالهيبة تأتي من الخبرة، وهي الشكل الأحدث من القيادة، في حين أن القيادة بالهيمنة أقدم بكثير

أصبح العقل البشري مهيّأ لتقدير التعقيدات النفسية المرتبطة بالهيبة. القادة الذين يتمتعون بالهيبة يتمتعون بالإعجاب والاحترام من قبل أفراد مجموعتهم، ويُتوقع منهم أن يظهروا صفات مثل الشهامة والكرم والتعاون، وعلى النقيض، القادة الذين يعتمدون على الهيمنة يستخدمون أساليب مختلفة لتحقيق أهدافهم، وغالباً ما يكونون أقل اهتماماً بالتعاون وأكثر تركيزاً على السيطرة المطلقة.

في النهاية، يمكننا أن نستنتج أن القيادة بالهيبة والهيمنة ليستا مجرّد ظاهرتين منفصلتين، بل هما نتاج تطور طويل ومعقد للبشر والرئيسيات. ومع مرور الزمن، قد تتغير معايير القيادة، ولكن الدروس المستفادة من دراسة الشمبانزي والسياسة البشرية تبقى مهمة لفهم طبيعة الإنسان وكيفية تطور مجتمعاته.

تعدّ شخصية "يروين" نموذجاً مميزاً للقيادة المهيمنة بين الشمبانزي، حيث يُحقِّق مكانته من خلال العروض المستمرة للهيمنة بدلاً من الاعتماد على الهيبة. في كتابه "سياسة الشمبانزي"، وصف فرانس دي وال بدقة أسلوب يروين القيادي، حيث يُشبِّه قوته بتلك الموجودة في دبابة متقدمة أو وحيد قرن مهاجم، مُشيراً إلى تأثيره الكبير على مجموعته عندما يعرض هيمنته.

في المشهد الذي وصفه دي وال، كان يروين، في ذروة قوته، يُندفع نحو مجموعة من الشمبانزي، مُثيراً الرعب والذعر بينهم، حتى إن الأمهات كنّ يهرعن لحماية صغارهن قبل أن يصل إليهم. بعد هذا الاستعراض العنيف، يعود السلام فجأة، حيث يُقدِّم له باقي أفراد المجموعة احترامهم وتقديرهم كملك يقبل هذا التكريم.

تعيش الشمبانزي في تسلسلات هرمية صارمة، حيث تُحَقَّق المكانة العليا من خلال القوة والتهديد، ويُعتبر امتلاك القوة البدنية والسمات الشخصية التي تدفع نحو الهيمنة أموراً أساسية لتحقيق مكانة "الألفا". وكما هو الحال مع يروين، تُظهِر الشمبانزي ألفا انتصاب شعرها، ما يُضفي عليها مظهراً أكبر وأقوى، وتُبنى التحالفات بين القردة ذات المكانة العالية في المجموعة كإجراء تكتيكي لمنع الإطاحة بالقائد.

هذه السمات القيادية للشمبانزي تُعيدنا إلى أصول التسلسل الهرمي الاجتماعي في الإنسان، حيث يتوقع البشر، منذ القدم، أن القوّة الجسدية والترهيب هما مفتاح السيطرة، وعلى الرغم من أن الهيبة كاستراتيجية قيادية حاولت منافسة الهيمنة، إلا أن الأخيرة استعادت قوتها مع ظهور الزراعة وتأسيس الممالك.

في كتابه "الحالة الغريبة لدونالد ترامب" يأخذ عالم النفس دان بي ماك آدامز، نموذج الفرق بين القيادتين، إلى منطقة السياسة والحكم، من خلال طرحه لنموذج أوباما على سبيل المثال في مقابل نموذج ترامب، إلا أن الأمر نفسه ينطبق على حكامنا العرب.

في القرن الحادي والعشرين، يتنافس نموذجا الهيمنة والهيبة كاستراتيجيات قيادية في المجتمعات البشرية. على سبيل المثال، باراك أوباما يرمز إلى الهيبة بينما يمثل دونالد ترامب نموذجاً للهيمنة، لذا ستجد ترامب هو الرئيس الأمريكي الذي يعلن محبته علناً للديكتاتورين العرب

صراع الهيمنة والهيبة في القيادة السياسية الحديثة

في القرن الحادي والعشرين، يتنافس نموذجا الهيمنة والهيبة كاستراتيجيات قيادية في المجتمعات البشرية، ويُمكن ملاحظة هذا التنافس في السياسة الحديثة. على سبيل المثال، باراك أوباما يرمز إلى الهيبة بينما يمثل دونالد ترامب نموذجاً للهيمنة، لذا ستجد ترامب هو الرئيس الأمريكي الذي يعلن محبته علناً للديكتاتورين العرب.

على النقيض من نموذج الهيبة الذي يُقدِّر التعاون والخبرة، يعتمد نموذج الهيمنة على الترهيب والخوف. وفي ظل القيادة المهيمنة، قد يحجب القادة المعلومات عن مرؤوسيهم، ويُثبطون التعاون للحفاظ على سيطرتهم. تُشير الأبحاث إلى أن الهيمنة تعمل بشكل جيد في البيئات التي تتطلّب قرارات سريعة، أو في ظروف قاسية، لكنها قد تعرقل التطور طويل الأمد للمرؤوسين.

في المجمل، تُعبر الهيمنة عن علم نفس بدائي، متجذّر في تاريخ البشرية الطويل، حيث يظل السؤال مطروحاً دائماً: من يجب أن يقود؟ وكيف؟ في حين أن الشمبانزي يتبعون قواعد الهيمنة القديمة، يُمكن للبشر اختيار نماذج أخرى للقيادة، مع إدراك أن كلا النموذجين، الهيمنة والهيبة، متأصّلان بعمق في طبيعتهم.

تستخدم الهيمنة العدوان لإثارة الخوف في حين تستخدم الهيبة الخبرة لإثارة الإعجاب.

في نموذج الهيمنة، يُشَبَّه القائد المهيمن بذكر الشمبانزي ألفا الذي يثير الفوضى. هذا القائد يسعى لجذب الانتباه على نحو دائم من خلال سلوكياته العدوانية، مثل استخدام وسائل الإعلام لتسليط الضوء عليه، ما يضمن بقاءه في الوعي العام كتهديد مستمر.

أما نموذج الهيبة والإعجاب فيعمل عكس ذلك، والقادة الذين يعتمدون على الهيبة يسعون لإثارة الإعجاب من خلال إظهار مهاراتهم وخبراتهم. إنهم يسعون ليكونوا قدوة، ويريدون من الآخرين أن يتطلعوا إليهم بإعجاب ورغبة في التشبّه بهم. هم يفضلون أن يكونوا محبوبين ومحترمين بدلاً من مخيفين ومرهوبي الجانب.

في سياق الهيمنة، يزدهر القادة في أجواء التهديد والخطر، فهم يفضلون اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة دون الكثير من المداولات، معتبرين أن العالم مكان للفوضى التي لا يمكن التعامل معها إلا بالقوة والسيطرة، وتظهر الدراسات الاجتماعية أن الناس يميلون إلى دعم القادة المهيمنين عندما يشعرون بفقدان السيطرة على حياتهم.

على النقيض، في الأجواء الأكثر تفاؤلاً والمبنية على الأمل، يفضّل القادة اتخاذ قرارات تداولية ومدروسة بعناية، فيركزون على بناء الثقة والتعاون طويل الأمد لتحقيق الأهداف المشتركة، معتبرين أن النمو والنجاح يأتيان من العمل الجماعي والتعاون.

تعزّز الهيمنة العلاقات التعاقدية قصيرة المدى؛ بينما تعزز الهيبة التعاون طويل الأمد المبني على الثقة.

في سياق الهيمنة، يزدهر القادة في أجواء التهديد والخطر، فهم يفضلون اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة دون الكثير من المداولات، معتبرين أن العالم مكان للفوضى التي لا يمكن التعامل معها إلا بالقوة والسيطرة

يعتمد القادة المهيمنون على صفقات قصيرة الأجل وعلاقات تكتيكية تتغير بتغير الظروف. هؤلاء القادة يشبهون الشمبانزي ألفا الذي يشكّل تحالفات مؤقتة لتحقيق أهداف فورية، فالقيادة المهيمنة تركّز على تحقيق المكاسب السريعة، وغالباً ما تتفاوض من موقع القوة لتحقيق أفضل الشروط الممكنة.

في المقابل، يسعى القادة المرموقون إلى بناء علاقات طويلة الأمد قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، فيحترمون الاتفاقات طويلة الأمد ويعملون على تقليل عدم اليقين من خلال أنظمة وقوانين مستقرة.

قادة الهيمنة يعتمدون على إظهار القوة والسيطرة لتأكيد شرعيتهم، فيتجنبون الظهور بمظهر الضعف، ويسعون دائماً للحفاظ على صورة القوة حتى لو كانت مجرّد مظهر خارجي. هذا النوع من القيادة لا يعتمد على إلهام الناس، بل يركّز على السيطرة والتفوق الفوري.

أما قادة الهيبة فيسعون إلى إلهام الآخرين من خلال قصصهم الشخصية وإنجازاتهم. هم يكشفون عن جوانب من حياتهم تجعلهم مثار إعجاب الآخرين، ويحاولون إدارة تصورات الآخرين عنهم بشكل استراتيجي، يسعون لأن يكونوا قدوة يُحتذى بها، ويركزون على بناء روابط إنسانية قوية مع أتباعهم.

تطوّر الإنسان ليتجاوز نموذج القيادة المهيمنة على غرار "ألفا" في مجتمعات الشمبانزي، التي تعتمد على السيطرة والقوة لتحقيق السلطة. في البداية، كانت الهيمنة النموذج السائد في المجتمعات البشرية القديمة، حيث كان القادة يستخدمون الترهيب لتحقيق أهدافهم، مع مرور الوقت، تطورت المجتمعات البشرية بفضل الثقافة والخبرة، وظهر نموذج القيادة بالهيبة، الذي يعتمد على الاحترام والإعجاب نتيجة المعرفة والقدرات.

التطور الثقافي للإنسان أسهم في تقليل الاعتماد على القيادة المهيمنة، واستبدالها بقيادة تعتمد على التعاون والخبرة. اليوم، لا يزال النموذجان يتنافسان في المجتمعات البشرية، إلا أن القيادة القائمة على الهيبة والتعاون تبرز كبديل مستدام وأكثر فعالية من القيادة المهيمنة التي تعرقل التقدم على المدى الطويل وتُبنى على الخوف والقمع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image