شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أول صورة فوتوغرافية لمولود الحرب، أنا

أول صورة فوتوغرافية لمولود الحرب، أنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الأربعاء 11 سبتمبر 202411:02 ص

تقع قريتنا على الطريق الواصل بين مدينتيّ رام الله ونابلس، في فلسطين، أو للدقة، فإن الطريق الواصل بين المدينتين يمرّ بالقرب منها. من منزلنا، والذي هو منزل أبي إلى حين وفاته، وحتى الوصول إلى هذا الطريق، يلزم المرء ما يزيد عن النصف ساعة من المشي السريع.

المشي السريع ليس هو ذاته ما نعرفه الآن كرياضة يومية لسكان المدن الكسالى، بل هو ذلك الذي يقوم به الفلاح صباحاً، أو بعد العصر، من هرولة خلف الحمار، ذهاباً إلى الحقل أو عودة منه، ونحن كنا فلاحين، أقصد أن أبي كان فلاحاً، أما أنا فلم أكن قد وُلدت بعد، في الشهور الأولى من العام 1967 الذي حدثت فيه النكسة.
أمي المسكينة لم تكن فلاحة، وهي لم تكن قد صارت أمي كذلك، بل زوجة صغيرة لرجل خرج من السجن قبل شهور، ولم يجد في القرية من يجرؤ أن يزوّجه ابنته، فما كان منه إلا الذهاب مع أحد أصدقائه إلى مدينة الزرقاء في الأردن، ليطلب يد صبية غريبة، لا تعرفه ولا يعرفه أهلها، فوافقت ووافقوا على هذا الشاب الوسيم، القادر على الحديث بطلاقة بين الرجال.
إذن أبي فلاح خارج من السجن، وأمي من سكان المدينة، ولا تعرف لا فلسطين ولا قرى فلسطين، وهي بالتأكيد لا تعرف لا الحمير ولا الحقول ولا المشي السريع.
في الشهر الذي سبق النكسة، كانت هذه الصبية تمشي ببطء في حاكورة الدار، بسبب الحمل الأول لها، وكان زوجها يمشي خلف الحمار مشياً سريعاً بين بيتهما والطريق الواصل بين رام الله ونابلس، حيث يوجد مدخل القرية، وحيث يوجد الدكان الصغير الذي افتتحه قبل أيام ليعيل زوجته وابنه القادم إلى الدنيا بعد أسابيع قليلة.

في اليوم السادس من انتظارهم سقطت "البلاد"، فعادوا مهزومين إلى منازلهم دون أن يحاربوا. وحين تخسر حرباً دون أن تشارك فيها، ودون أن ترى وجه عدوّك، فإن الغموض الذي حاصرك يتحوّل إلى خوف
في الخامس من حزيران، ودون مقدمات لدى أهل القرية، بدأت الحرب. سمع الناس في الراديو أن الجيش الإسرائيلي أو "اليهود" كما كانوا يطلقون عليهم، قد بدأوا باحتلال الضفة الغربية، فما كان من شبابهم ورجالهم المتحمّسين، وهم قلّة قليلة آنذاك، إلا حمل عِصيهم وبنادقهم والتوجّه إلى الطريق العام الواصل بين المدينتين، والذي يمر بمحاذاة قريتهم. لقد قرروا الدفاع عن القرية بالطريقة التي يستطيعونها، فجلسوا فوق التلة القريبة من الشارع وانتظروا.
انتظروا طوال اليوم ولم يأت العدو، ثم انتظروا طوال الليل، واليوم التالي، والليلة الثانية، لكن العدو لم يعرهم انتباهاً. في كل حروب الدنيا يسمع الناس في منازلهم أخبار الحرب من المقاتلين على الجبهة، إلا في قريتنا تلك، فقد كان المقاتلون، إن جازت تسميتهم كذلك، يرسلون واحداً منهم إلى المنازل القريبة ليسأل الناس عما سمعوه في نشرات الأخبار التي يبثّها الراديو، والراديو لم يكن يقول شيئاً ذا قيمة، ولم يكن يوجّه لهم خطابه أصلاً، ولم يشاركهم معلومة واحدة؛ كأن يرشدهم إلى أمكنة القتال، أو تطوّر المعركة، بل كان يخاطب سمك البحر ويعده بوجبات شهية من لحم الأعداء.
في اليوم السادس من انتظارهم سقطت "البلاد"، فعادوا مهزومين إلى منازلهم دون أن يحاربوا. وحين تخسر حرباً دون أن تشارك فيها، ودون أن ترى وجه عدوّك، فإن الغموض الذي حاصرك يتحوّل إلى خوف، وإلى حكايا ليلية عن شكل هذا العدو، ولون بشرته، ونوع سلاحه. لقد سيطر الخوف على القرية وعلى نسائها ورجالها، والأهم على الأطفال الذين يسمعون حكايا الليل عن عدو هزم جيوش العرب في أقل من أسبوع.
عاد أبي بكل خيبته وحسرته إلى دكانه، وعادت أمي ببطنها المنتفخة ومشيتها البطيئة المتثاقلة، إلى أشغالها القليلة، في يوم طويل من انتظار زوجها والخوف عليه. كانت تطبخ وجبة لاثنين؛ تأكل النصف، وترسل النصف الثاني مع ابن الجيران إلى زوجها في دكانه.

وفي يوم من الأيام حمل الولد وجبة عمّه واتجه إلى مدخل القرية، وقبل أن يصل الدكان شاهد سيارة عسكرية وفي داخلها جنود مسلحون من جنود العدو، تسافر على الشارع العام. لقد فهم أن هؤلاء هم "اليهود"، فخاف وتسمّر قليلاً في مكانه إلى أن تختفي.
لكن الجنود كان لهم رأي آخر، فحين رأوا رجلاً يجلس أمام دكان في مكان بلا بيوت، قرّروا تخويفه بأن أطلق أحدهم رصاصة في الهواء، قبل أن يترجّلوا لاستجوابه وتفتيش المكان. سمع الولد صوت إطلاق النار، فاستنتج أن الجنود قتلوا عمّه، فعاد يلهث مسرعاً إلى البيت وهو يصرخ: "لقد قتل اليهود عمي، لقد قتلوه، أنا رأيتهم".

سمعت المرأة الحامل هذا الصراخ "فهبط" قلبها، وهبط أيضاً جنينها دون مخاض ودون ألم. جئتُ أنا، وبعد أقل من ساعة جاء أبي إلى البيت وأشبع الولد توبيخاً وشتماً، واطمأنت أمي وضحكت وبكت، ثم ضحكت وبكت مطولاً.

أمسك أبي صورتنا أنا وأمي، وبالمقص صنع من الصورة صورتين شخصيتين صغيرتين. واحدة لأمي بأذن غريبة إلى جوار صدرها على اليسار، وواحدة لي بيد تلتف حول ظهري وتظهر كفّها على خصري الأيمن

بعد شهر أو شهرين، أرادت أمي صورة لمولودها الجديد، صورة باللفّة البيضاء، ككل المواليد الذين عرفتهم فيما مضى أو رأت صورهم عند أقاربها أو صديقاتها، لكن الحرب وبُعد المدينة حرماها من ذلك. ألحّت على أبي وحاولت معه، لكنه تذرّع بالدكان الذي لا يجوز أن يُغلق. مرّت الأيام، ولم يحقق أبي رغبتها بأن تحصل على هذه الصورة، لكنها لم تفقد الأمل.
صار عمري سنة، وصارت الشوارع هادئة وآمنة، وصار أبي يملك أجرة الحافلة من القرية إلى المدينة، فأغلق الدكان واصطحب الأم والمولود إلى المدينة، ولأن أمي سعيدة بابنها الذي أصبح يجلس دون مساعدة، فقد قرّرت أن تأخذ صورة معه. وهكذا حصلت أمي على تلك الصورة: امرأة جالسة على مقعد جلدي، وتضع ذراعها خلف ظهر طفلها لتسنده إلى حين ينتهي المصوّر من مهمته.
بعد شهر من هذه الحادثة قرّر الحكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية أن يجري إحصاءً للسكان، وأن يُصدر للبالغين بطاقات هوية جديدة، والهوية بحاجة إلى صورة شخصية، لكن أبي لا يملك الوقت ولا المال ليذهب مجدّداً إلى المدينة من أجل صورة لأمي، حتى لو ظلت بلا هوية. وعليّ أن أعترف بعد مرور هذا الزمن أن أبي كان يخاف الاعتقال، كرجل يشتغل في السياسة وله أسبقيات كسجين سياسي، ولا يريد أن يسافر إلا للضرورات القصوى، كالمرض الذي لا تنفع معه الميرمية، أما أن يسافر من أجل صورة، فهذا زائد عن الحاجة في أفضل الأحوال.
ما العمل إذن؟ لقد وجد الحل بعد تفكير غير طويل، فأمسك صورتنا أنا وأمي، وبالمقص صنع من الصورة صورتين شخصيتين صغيرتين. واحدة لأمي بأذن غريبة إلى جوار صدرها على اليسار، وواحدة لي بيد تلتف حول ظهري وتظهر كفّها على خصري الأيمن.
حملت أمي هويتها بتلك الصورة إلى أن تلفت الهوية والصورة معاً، ووضعت أنا حصتي من الصورة في محفظتي إلى الآن. لم يحدث أن سألني أحد: لمن هذه الصورة؟ أو من هذا الطفل؟ كل الأسئلة كانت تُطرح حول الكف والأصابع: "لمن هذه الأصابع؟"، فأجيب: "لأمي"، "أهذا أنت؟"، فأجيب: "لا، هذه صورة لعمر الاحتلال".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image