يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
يشغلني المستقبل؛ التفكير فيه والتخطيط له والغوص فيه. ليس كهاجس، بل كغدٍ متّصل بالحاضر الآني، وغريب عنه في الوقت عينه. في معظم الأحيان يتبلّد عقلي حين يحضر المستقبل كموضوع، فهو قريب جداً، تتكشف لي بعض تفاصيله الكبيرة فأقنع نفسي بأني أراه وبأنه هنا وبأن لا حاجة لي بالخشية منه، ولا بالوقوف له بالمرصاد، فهو مقبل بكلّه، بغضبه وحسنه، لا حاجة له لاستئذاني. أتفرّس في وجهه الطويل المظلم وأحاول تمرين نفسي على تقبّل أبشع السيناريوهات والمجابهات مع القدر. أتخيّل الأسوأ طمعاً في الإفلات منه. ربما إذا تحرّر طليقاً في خيالي واستطاب له الركون على أوراقي، يعدل، فلا يسقط كأنه واقع حدث، بل على شكل احتمال بعيد وإن مخيف. هذا هو الرجاء.
يشغلني المستقبل؛ التفكير فيه والتخطيط له والغوص فيه. ليس كهاجس، بل كغدٍ متّصل بالحاضر الآني، وغريب عنه في الوقت عينه. في معظم الأحيان يتبلّد عقلي حين يحضر المستقبل كموضوع، فهو قريب جداً، تتكشف لي بعض تفاصيله الكبيرة فأقنع نفسي بأني أراه وبأنه هنا وبأن لا حاجة لي بالخشية منه
في أحد السيناريوهات مثلاً، أصبح الهواء النظيف عملةً شديدة الندرة تستقيم بها وحدها الحياة أو تندثر قبل إطفاء البشر لشموع الذكرى الأربعين لميلادهم. التلوّث والتصحّر الناجمان عن التدهور المستمر للنظم الإيكولوجية للأراضي الجافة بسبب الزراعة غير المستدامة، والتعدين، والرعي الجائر، وقطع الأراضي والانبعاثات الكيميائية والنفايات وصهر المعادن وتغيّر المناخ، كلها ساهمت في ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في العالم إلى مستويات شديدة الخطورة وغير صحية، أصابت معظم السكان بعدد من الأمراض الخطيرة والمميتة وأهمها سرطان الرئة والربو وخطر الاختناق، وتالياً الموت.
بعد محاولات حثيثة للسيطرة على الوضع المذري والبائس لأكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم، خصوصاً المقيمين في المدن المكتظة، ظهرت قوى التسلّط بوجهها السافر، فشنّت حروباً صغيرةً نالت نصيباً ضئيلاً من تغطية الإعلام العالمي الذي ظلّ يلهي نفسه عن نفسه. رفضت معظم الشعوب والقبائل والمجموعات السكانية المحاذية للأراضي الزراعية ومصادر المياه، الخضوع للابتزاز من أجل أراضيها. من رفض مات وقوفاً.
في أحد السيناريوهات مثلاً، أصبح الهواء النظيف عملةً شديدة الندرة تستقيم بها وحدها الحياة أو تندثر قبل إطفاء البشر لشموع الذكرى الأربعين لميلادهم.
صارت الأرض أغلى من الإنسان. مات الكثير من الناس في المرحلة الأولى، ثم حلّ النسيان كغيمة ثقيلة، فكانت مرحلة بناء محميات قادرة على إنتاج الهواء النظيف بكميات كبيرة في فترات قصيرة نسبياً بالاعتماد على التكنولوجيا التي واصلت تطوّرها. مرّت خمس سنوات، ومع استنزاف كل بقعة خضراء قابلة للزراعة استكمل العالم دورة انهياره، فصار شديد البؤس. قامت بعدها بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا باحتلال غابات ومحميات طبيعية حول العالم بالإضافة إلى ارتكاب عدد من الإبادات الجماعية لمجموعات سكانية أصيلة تعيش على ضفاف الأنهار وفي صدر الطبيعة المنسية. هذه المحميات الطبيعية وأخرى جديدة، تم إنشاؤها بهدف إنتاج قوارير من الهواء النظيف والصحي والخالي من الجسيمات الخطيرة المحمولة جوّاً. تكفي القارورة الواحدة لعشر ساعات فقط، وتباع بمئتي دولار أمريكي في السوق الرسمية. بعد فترة قصيرة من التداوي بقوارير الهواء النظيف الذي خفّف من وطأة داء الاختناق الطبيعي، والذي ارتفعت أرقامه بشكل كارثي نظراً إلى ارتفاع منسوب تلوّث الهواء إلى 85 في المئة في المدن، و70 في المئة في الأرياف، حاولت عصابات منظّمة في أستراليا وأمريكا الجنوبية والقارة الإفريقية احتلال المحميات الطبيعية في مناطقها، فقررّت الشركات المالكة للغابات وللماركة المسجلة "O2-VITAL"، برفع أسعار القوارير حتى وصلت إلى 500 دولار للقارورة الواحدة. قسّمت القوارير العالم إلى فئتين، وزادت الشرخ بينهما، وأدّى الحصول غير المتكافئ وغير المتساوي عليها إلى نشوب حرب عالمية جرّت العالم إلى دماره النهائي.
هكذا أرى المستقبل وهو يتكّشف لي ببعض التفاصيل المخيفة والمحتملة. أنفض هذه الأفكار المروّعة عن رأسي، وأدعها تتساقط أمامي.
أحاول تثبيت وعيي على المستقبل المستنبط من الحاضر، وكأنّ صحة الكرة الأرضية ليست من الأولويات، خصوصاً بعدما عاث فيها الخراب الذي جرّه الإنسان على نفسه بحروبه التي لا تنتهي واستنكاره المستمر لحقّ الطبيعة عليه. أفكّر في البيئة بمفاهيمها الكبيرة وبالبيئة النفسية التي تكوّننا ونكوّنها، فأتساءل.
في سيناريو جديد محتمل للمستقبل، تصبح قضيّة فلسطين كأمة وشعب ودولة مستقلّة، في الواجهة الأمامية. هذه المرّة تختلف قوانين الاشتباك الإعلامي فيتوّقف الإعلام الغربي المعطوف على السياسة الغربية، عن استغلال الحق الفلسطيني في الوجود، ويستيقظ العالم الغربي على مفاهيم جديدة أكثر شموليةً لتعريف الإنسان. يضعون للمرة الأولى، وبعد ضغط شعبي ساحق من العرب والحكومات العربية المنتجة للنفط، قوانين تحمي العرب والأفراد من أصول عربية من التمييز ضدهم، وذلك بعد إدراج مجموعة من قوانين الحقوق المدنية الجديدة التي حظيت بتصويت أكثرية المواطنين في البلدان الغربية. هذه القوانين المدنية المُشركة للعرب للمرة الأولى، والتي أتت بعد تضحيات جسيمة، فتحت الباب رسمياً أمام تبنّي العالم للسردية العربية المنبثقة عن العرب أنفسهم من دون تقويضهم، فسقطت عبارات تمييزية شديدة الخطورة كانت لقمةً سائغةً في أفواه الكارهين وعلى رأسها كلمة "إرهابي" التي أصبحت ممنوعةً عالمياً.
بعد فترة قصيرة من التداوي بقوارير الهواء النظيف الذي خفّف من وطأة داء الاختناق الطبيعي، حاولت عصابات منظّمة في أستراليا وأمريكا الجنوبية والقارة الإفريقية احتلال المحميات الطبيعية في مناطقها، فقررّت الشركات المالكة للغابات وللماركة المسجلة "O2-VITAL"، برفع أسعار القوارير حتى وصلت إلى 500 دولار للقارورة الواحدة
صار العالم والعرب خصوصاً يحتفلون بأنفسهم وبتاريخهم الذي تمت إعادة صياغته اعتماداً على قوانين الحقوق المدنية الجديدة، وبإنجازاتهم الكثيرة وبعملهم التعاوني. وسُجّلت فورة في الإنتاج الأدبي والصناعي والاكتشافات العلمية والاختراعات العربيّة بأقلام وأيادٍ عربيّة. في هذا السيناريو الحالم والطوباوي يضطر العرب بعد تغيير نظرة العالم إليهم، إلى التطلّع نحو أنفسهم ومجتمعاتهم من زاوية التدقيق والتحليل والتغيير وتحسين ظروف عيشهم، فتنعم المرأة العربية للمرة الأولى بالحماية القانونية والدستورية والمجتمعية وبالحرية غير المنقوصة أو المجزّأة أو المهددّة. يعيش أولادي وأولاد العالم العربي أينما كانوا، من دون الخوف من الأحكام المسبقة والصور النمطية والأعراف السائدة ضدهم، ومن دون تمييز وتقويض وسلخ لحقوق أساسية هي من صلب حريّاتهم وتوقهم إلى السعادة والحياة.
ترتسم بسمة مشرقة على شفتيّ أتلمسّها بيدي.
في رواية جورج أورويل الشهيرة "1948"، يرد على لسان شخصية المحقق الكبير للنظام الشمولي أوبراين، الآتي: "إذا كنت تريد صورةً للمستقبل، تخيّل حذاءً يدوس على وجه بشري إلى الأبد".
في رسم المستقبل نحتاج إلى أدوات وحقائق من حيّزنا الحالي، ومن حاضرنا. للأسف تشير الأدلة المنظورة إلى سيناريوهات بشعة ومؤلمة فيها المزيد من الدمار والموت والإلغاء. لذا سأكتفي بهذا القدر من التأرجح الفكري بين الإيجابية الهادفة والتشاؤمية المعقولة. أخرج إلى شرفتي المطلّة على الأشجار المنتجة للأوكسجين المجاني، وأتنفّس الهواء العليل والنظيف طالما في استطاعتي فعل ذلك. أستمر في التأمل في المستقبل ويدي على ابتسامتي الهشة، محاولةً تثبيتها، في انتظار المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...