يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
صحونا صبيحة 25 كانون الثاني/ يناير 2111، ذكرى عيد الشرطة، لنجد ميدان التحرير وقد اختفى لينهض محله الكولوسيوم الروماني، وهو مبنى الألعاب الأكثر بهاءً ووحشيةً في التاريخ، مع إعلانات عملاقة تغزو فضاء البلاد لفتاة شقراء تلبس رداءً فضفاضاً وطويلاً مثبتاً من الأكتاف بدبابيس ومن الوسط بحزام، وهو الزي التقليدي لنساء الإمبراطورية الرومانية القديمة. كانت الفتاة تصدح بشعار ضخم تتبدل ألوانه المبهجة في غنج: "كل حاجة حلوة في روما"، وقد صار هذا الشعار مفتاحاً لحملة واسعة تبنّاها الإعلام.
فهمنا أن الكولوسيوم سيخصَّص لتقديم عروض يومية لمصارعين، وستُبثّ العروض على الهواء مباشرةً، أما الحضور فسيتم اختياره بتذاكر مجانية عن طريق يانصيب قومي، وسُيفتح باب المراهنات للجميع.
"هدية الرئيس لشعبه"؛ أكّد مقدّمو البرامج والمحللون، فالمصارعة في الحلبات الشعبية هي لعبتهم المفضلة برغم منعها قانوناً، قائلين إن الكولوسيوم قد لا يكون هديته الأخيرة، فما حدث ليس إلا بثّاً تجريبياً لآخر ما توصّل إليه العلم: استنساخ "جينات المدن"، ومتوقّعين أن تتحول القاهرة، خلال الأعوام القليلة المقبلة، إلى روما التاريخية، وتصبح أول مدينة متحولة في العالم، تنفيذاً لرؤية داهمت الرئيس في خلوته. ربما لن يتوقف الأمر عند حدود روما، بل قد نصحو لنجد أنفسنا في مدينة مختلفة كل يوم؛ باريس، نيودلهي، دبي، بوغوتا، واشنطن، كيب تاون.
صحونا صبيحة 25 كانون الثاني/ يناير 2111، ذكرى عيد الشرطة، لنجد ميدان التحرير وقد اختفى لينهض محله الكولوسيوم الروماني، وهو مبنى الألعاب الأكثر بهاءً ووحشيةً في التاريخ، مع إعلانات عملاقة تغزو فضاء البلاد لفتاة شقراء تصدح بشعار: "كل حاجة حلوة في روما"
لم يدهشنا هذا. المفاجأة الحقيقية كانت في الإعلان عن أن الرئيس قرر أن ينهي فترة احتجابه الطويل، وأن يتجلّى لشعبه بعد توسّلات وتضرّعات دامت لنصف قرن. تواترت الأنباء غير المؤكدة بأنه سيفتتح بنفسه عروض اليوم الأول في الكولوسيوم.
كان آخر ظهور حيّ للرئيس، في 25 كانون الثاني/ يناير 2061 (بعد عشرين عاماً من تسلّمه الحكم خلفاً لسابقه)، عندما باغتنا بخطبة بالغة الإيجاز والغرابة، ألقاها أمام مئة ألف مواطن احتشدوا بالأعلام والهتافات في إستاد القاهرة، وملايين أمام الشاشات:
"لقد مللت، لم تعودوا أطفالاً، أو شعباً تائهاً يعلّق كل خطاياه وذنوبه في رقبتي. لقد وضعتكم على الطريق الصحيح بعد أن حملت عنكم وزر أخطر الشرور، لُعنت مكانكم، اليوم جاء دوركم لتتموا المهمة، سأترككم لمسؤوليتكم دون وصيّ، سأعتزلكم".
بدا صوته في تلك الخطبة مثقلاً بالزهد، وأدركنا في نظرته حزناً عميقاً كان موجهاً ضدنا نحن بالذات. وبرغم الشحوب الذي كسا ملامحه، إلا أن هالةً نورانيةً شفّافةً أحاطت بوجهه كأنه حقّاً سيغيب عنّا إلى الأبد، سواء قرر اعتزالنا أو واصل أداء مهامه علناً كرئيس.
استمر احتجابه خمسين عاماً، قيل إنه اعتكف خلالها في مكان سرّي بحثاً عن الحقيقة المطلقة والأزلية وراء الخير والشر، دون أن تُعلَن وفاته أو يعيَّن مكانه رئيس جديد. كلّ ما تبقّى منه، خطبه المسجّلة والسابقة على تاريخ خطبته الأخيرة، التي تُبثّ عبر شاشات عملاقة في جميع أنحاء البلاد، لينكشف للبعض مع الزمن لبّ حكمتها العميقة، وتكتسب عبر التأويل صفة الوصايا السماوية، ويصير لها أثر الهمس المؤنس والوعيد الخفيّ.
ظهرت نظريات عدة من بينها أنه استفاد من آخر تقنيات العلم التي لَمْ تُتَحْ إلا لقلة من الصفوة في العالم، كي يتغلب على الشيخوخة، أو أن قدّيساً عاش بين ظَهْرانَيْنا دون أن ندري. كما ظهرت نظرية أخرى ترى أن ما حدث مجرد انقلاب عادي أَجْبِرَ فيه على قراءة خطاب التنحّي، ثم اغتيل أو مات في سجن سرّي، لكن قادة الانقلاب رأوا أنهم سيستفيدون أكثر من صورته المبثوثة عبر الشاشات، ليتمكنوا من حكم البلاد كشركاء متساويين وغير مرئيين، دون أن يهيمن أحدهم على الآخر.
مارسنا حياتنا بإيمان صارخ بوجوده المحيط والنافذ، وشكّ ضئيل ظل كامناً وغير معلن يعاقب عليه القانون. كان من الطبيعي أن نسمع في الليل تضرّعات المؤمنين به، الذين زادهم احتجابه حبّاً وتقديساً له، وأملاً في أن يعود لينقذنا مما آلت إليه أحوال البلاد من وحشية وتخبّط وفساد، غاضبين أحياناً من عدم تدخّل "مولانا"، كما دأب المؤمنون على تسميته.
لكن في السنوات العشر الأخيرة، ومع ضعف الطبقة الحاكمة وتحلّلها، وتردّي البلاد في الفقر، ازدادت موجات الشك، وتضاعفت الشائعات عن مؤامرات تُدبَّر بليل للقفز على السلطة، وارتفعت الأصوات التي تطالب بما هو أكثر من ظلال وصور؛ رئيس جديد حيّ يذكّرها بقوة شكيمة الرئيس المحتجب في أيامه الأولى، ويرفع عن أعناقها عبء الخطيئة بارتكابها.
على عكس كل من سبقوا "مولانا" إلى الحكم، لم يتصنّع أمام الغرب الديمقراطية أو الإيمان بحقوق الإنسان. كان بالغ الوضوح بشأن إدارته البلاد عبر قبضة حديدية، متخلّياً عن كل أقنعة المهادنة. وباستثناء وعد قدّمه للفقراء بأن إجراءاته الاقتصادية القاسية ستنتهي لصالحهم، لم يسعَ إلى تبرير أفعاله أو إنكارها، منهياً بعنف غير مراوغ أو ملتبس مكتسبات الحرية التي غنمناها في نهاية عهد الرئيس السابق بعد أن استتبّت له السيادة. ألغى كل أشكال الانتخابات، عطّل العمل بالدستور، ودون تردد عزل الدولة عن العالم كما همس أبناؤها في بداية القرن الماضي، وكانت قرارات الإعدام التي توقَّع ببساطة إلقاء صباح الخير، تُنفَّذ علناً في الميادين العامة.
بعد عقدين من الحكم المطلق، وكما فسر البعض لاحقاً خطبته الأخيرة، أدرك الرئيس حجم الخطيئة في قلبه، وأنه قَدْ سِيقَ إلى فخٍّ فداءً لنا. لقد سبقت قراره الاعتزال، بوادر تصوّف وكلمات ملغزة منثورة في خطاباته تشي بعذاب يقصم روح صاحبه، لكن لم نعِ إشاراته في حينها.
فرح المؤمنون بأنباء ظهوره الوشيك رضوخاً لرغبتهم وبالضد من رغبته. أما الخبثاء، فقالوا إن تلك الأنباء تعكس حقيقة أنه ككل من ذاقوا السلطة، لا يمكنه التخلي عنها، وأنه لم يعد يملك خيارات أخرى خوفاً من فقدانها، حتى أنه قرر أن يعلن عن وجوده عبر أكثر الطرق التي مارسها الأباطرة اعتياديةً:
افتتاح مبنى.
كان آخر ظهور حيّ للرئيس، في 25 كانون الثاني/ يناير 2061 (بعد عشرين عاماً من تسلّمه الحكم خلفاً لسابقه)، عندما باغتنا بخطبة بالغة الإيجاز والغرابة، ألقاها أمام مئة ألف مواطن احتشدوا بالأعلام والهتافات في إستاد القاهرة، وملايين أمام الشاشات
جسد مسحور
الصخب يشنق حناجر الجماهير.
يهتفون "هركليز... هركليز"، ويقصدون عبد المولى، بجسده الأسمر المصبوب والمنحوت كآلة قتل في حلبة المصارعة الشعبية المحاطة بقفص الموت والمنصوبة في الحارة المخفية عن أعين الحكومة وتحت أقدامها.
يسأل متفرج: "من أين أتوا بتلك المعجزة؟". يجيب آخر: "من مدينة مسحورة في صحراء موريتانيا حيث الوحوش ما زالت نضرةً ومخبّأةً كزهور برّية وسط الجحيم".
الحقيقة أن عبد المولى فلاح من قرية نائية وفقيرة في الصعيد، لكنه لم يهتمّ بنفي أي أسطورة ترددت حوله، حتى اسمه تركه لمحبّيه: "هركليز"، فشهرته محت قصته الأصلية لتنسَج حوله آلاف القصص.
كان يصرع الجميع على الحلبة، مقاتلاً تلو مقاتل، ومغامراً تلو مغامر، ومسخاً تلو مسخ، في رهانات سرّية يعرف بشأنها الجميع وينكرها الجميع. مصارعة شعبية بلا قواعد عدا قاعدة واحدة: أن ينتهي الأمر بفائز حيّ وآخر ميت.
يقذف الجماهير بالمزيد من الأسلحة عبر فتحات قفص الموت: ألواح خشبية، سيوف، مناجل، صفائح، سكاكين، كزالك، وسواطير، لا إلى عبد المولى، بل إلى خصمه، كي تزداد الإثارة. عبد المولى لا يستخدم أسلحةً. لا يلمسها، حتى لو نشبت الدماء أظافرها في جسده. خصمه يفوق حجمه مرتين، لكنه لا يملك أبداً عينَي عبد المولى الصارخة بالحياة وهو يصارع، وللمفارقة بالحرية.
ينطفئ عبد المولى خارج قفص الموت. يعود عبداً مطيعاً بعينين ميتتين ما أن يغادره. لا يتفوّه إلا بتمتمات صامتة، ولا ينظر إلى أحد، بل يقلب عينيه إلى الداخل فتصير بيضاء ومفزعةً. يلعق جراحه الثخينة والقاتلة ويرتجف من الخوف، وما هي إلا دقائق حتى تطيب جراحه كأنها لم تكن، بمعجزة لا يعرفها أحد. جسد مسحور.
الصراخ يزداد. فقرة الجمهور المحببة، حين يزيّن الضحية بما هو أثمن من الموت. لا أحد يعلم أي ضحية ستكون مختارةً، قد تكون الثامنة أو العاشرة وقد تكون الأولى، وقد لا يفعلها. فعبد المولى الذي يبدو غبياً خارج الحلبة، يعلم ما يفعل، لهذا يعشقونه. لقد جعل نفسه نجماً، اخترع لنفسه جائزةً أخرى غير حياته وطعام عائلته.
صنعوا له دمى، طبعوا صوره المرسومة على تيشيرتات رخيصة، وأطلقوا من أجله الأغاني، حتى الطبقة النافذة في الحكومة تراهن سرّاً عليه، برغم أنها لم تعترف أبداً بشهرته.
الضحية المختارة تستسلم تماماً للمصير الذي يعلّقه عبد المولى بأيدي محبّيه. كل ما عليهم فعله هو أن يشيروا بإصبع الإبهام إلى الأسفل.
لا يخيّبون ظنّه، بيديه العاريتين يشقّ هركليز صدر ضحيته التي لا تكفّ عن الحركة أو التوسّل عبر نظرة مستسلمة. يُخرج القلب، يقضم منه قضمةً، ثم يلفظه ويرفعه في هواء الهياج وهدير الجماهير، منتصراً وعالياً لثوانٍ، ثم تأتي تلك اللحظة التي ينظر فيها إلى الجماهير بسعادة واحتقار، كمن قبض على نشوة الحياة ثم انفلتت هاربةً من بين أصابعه.
قد تتبعه أو تسبقه عروض لمصارعين آخرين، لكن يظلّ هركليز درّة العرض، يحرّك الرهانات الكبرى ويرفع مبيعات الطعام والمخدرات والكحول إلى السماء.
لكن ذلك اليوم، لم يكن كيوم آخر في حياة عبد المولى، فقبل أن ينتهي العرض هجمت الشرطة على الحلبة.
برغم الاتفاق غير المعلن بينهم وبين الحكومة، إلا أن منظّمي الحلبات الشعبية اعتادوا على حملات الشرطة التي لم تكن تهدف إلا إلى ابتزازهم ومشاركتهم الأرباح، لكن غرضهم تلك المرة اقتصر على اعتقال عبد المولى، الذي خضع دون مقاومة عندما كبّلوا يديه وعصبوا عينيه، ثم ساقوه إلى مؤخرة شاحنة.
ذلك اليوم، لم يكن كيوم آخر في حياة عبد المولى، فقبل أن ينتهي العرض هجمت الشرطة على الحلبة. وبرغم الاتفاق غير المعلن بينهم وبين الحكومة، إلا أن منظّمي الحلبات الشعبية اعتادوا على حملات الشرطة التي لم تكن تهدف إلا إلى ابتزازهم ومشاركتهم الأرباح، لكن غرضهم تلك المرة اقتصر على اعتقال عبد المولى
في قصر الرئيس
لم يتفوه الحرّاس بحرف طوال الطريق. كانوا فقط يدخّنون في صمت قاتل. لم يكن عبد المولى في حاجة إلى الذكاء ليدرك أنه غادر القاهرة ما أن اختفى صخب المدينة الضجرة والميتة، ليرتفع ضجيج روحه بأصداء نقيق ضفادع وعواء جريحٍ لغيلان وجعجعة طواحين وصراخ عيال شاردة تلتهمهم الشياطين من حناجرهم، والأخطر أنين قتلاه.
خارج الحلبة لا تغادره أبداً نظرة الاستسلام المروعة والمتوسلة وهو يُجْهِز على ضحيته. سرّ يكتمه في أحشائه ويكاد أن يحطمه، لو انفضح لانكسرت هيبته وفقد لقمة عيشه، ولتحول من آلة قتل لا تعرف الرحمة إلى محض طفل خائف. لديه أسرة تطوّق عنقه، لا يمكن أن يسلّمها للجوع. مهنته بالكاد تسد رمقهم، بينما تتحصل سلسلة من السماسرة لا يرى إلا أول حلقة منها، على ثروة طائلة من ورائه.
شعر بالشاحنة تصعد منحدرات صخريةً، ثم تخترق أرضاً من وحل.
من التعب ورتابة الإيقاع الهادر للشاحنة ونواح الغيلان والأشباح، راح في غفوة طويلة، أفاق منها على صرير أمطار وأصوات ريح حبيسة تزأر في غضب، ثم حل الصمت مجدداً، وعندما دوت أصوات دقات رهيبة كدويّ الرعد وضربات القيامة، توقفت الشاحنة. دفعه الحراس بغلظة خارجها، رجّ الصقيع جسده وصارع مثانته التي تكاد أن تنفجر. سمحوا له بالتبول وهو في مكانه، بعد أن أزالوا العصبة عن عينيه دون أن يفكوا قيد يديه، ليرى نفسه في صحراء قاحلة يعتصر سماءها ضباب رمادي كثيف.
اجتازوا الضباب، فبزغ قصر كبير في قمته برج شاهق يكاد أن يناطح السماء. كان القصر محصّناً كقلعة أعلى ممرات جبلية وعرة.
صعد مساقاً بالهراوات حتى وصل إلى ممر ضيق يفضي إلى بوابة القلعة. انفتحت البوابة ببطء، ليخرج منها ضابط ذو رتبة كبيرة خلفه فرقة هجانة أعضاؤها ملثمون يحملون السياط في أيديهم وأسلحةً حديثة الطراز على ظهورهم.
كان الضابط خمسينياً متوسط القامة، يحمل على كتفيه شارة صقر أعمى، ويرتدي زيّاً وعمامةً على الطراز المملوكي وعلى خاصرته سيف. ميّزه عبد المولى فوراً. إنه مراد بك، مقدّم درك القاهرة، الذي يعادل مدير أمن، إلا أن تغيير اللقب كان إحدى نزوات "مولانا" القديمة غير المفهومة.
استقبله مراد بك، بابتسامة لطيفة معتذراً له عن "الخطأ غير المقصود"، موبّخاً قائد الفرقة التي اقتادته بتلك الطريقة، وأمر بفكّ قيده.
سمح مراد بك لحرّاسه بأن يتصوّروا مع نجمهم المحبوب، فلما انتهوا تأبّط ذراعه كصديق واجتاز به حديقةً واسعةً بالغة الجمال تحوي نباتات نادرةً، تتناثر حولها أقفاص لأسود وثعابين وحيوانات على وشك الانقراض. كانت منطقةً مصممةً على الطراز المملوكي، في الجهة الشرقية منها يقع جناح للحرملك، وآخر للعبيد والغلمان، وإسطبلات للخيل واستراحات للجند ونوافير مدهشة كأنها تُعيد تعريف الماء وتجعل المكان في غُسلٍ دائم.
بلغا بوابة القصر المهيب. انبهر عبد المولى كطفل بالتمثالين اللذين يحرسان البوابة. كان لهما وجه إنسان وأقدام أسد وجناحي نسر وجسد ثور، لقد رأى مثلهما من قبل في أحلامه، لكنه دائماً ما ارتبك بشأن تأويلهما، فلم يفهم إن كانا نداءه إلى شيء ما خارق يتشوق إلى أن يكونه، أو أنهما حارسان يمنعانه من اختراق حدود معيّنة، ولو في الحلم.
سأل مراد بك: "أين أنا؟".
أجابه: "في قصر الرئيس".
قال عبد المولى، وقد جذبته خبطة من الوجد: "مولانا".
رفع عبد المولى بصره تلقائياً إلى برج القصر، مستشعراً عينين هائلتين تراقبانه كأنهما تفعلان ذلك منذ الأزل. كان متأكداً أن مولانا يجلس هناك، لكنه لم يرَ إلا ظلالاً يمكن تشكيلها بأي صورة. خفض بصره محرجاً، فقال مراد بك:
"هذا البرج يدور كل ساعة مع الشمس على قاعدة متحركة، من يجلس فيه يُحِط بكل الاتجاهات".
صعدا معاً درجات سلم رخامية بيضاء ممتدة حتى مدخل القصر، إحدى الدرجات تلك يقف عليها تمثال لفارس روماني يرفع سيفه وتحت قدمه رأس مقطوع. على بعد ثلاث درجات أخرى، تمثال لفارس آخر يتّكئ على يد ويرفع الأخرى، رأسه مقطوع وبلا ذراعين. خمّن عبد المولى أنه ضحية الفارس الأول.
كانت شرفات القصر محمولةً على تماثيل فيلة هندية، وكانت نوافذه من زجاج بلّوري يَرى من في داخله من في الخارج دون أن يُرى.
اقتاده مراد بك إلى بهو القصر. كان مكدّساً بتحف من الذهب والبلاتين، وفيه ساعة أثرية تحكي الوقت بالدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين والتقلبات في وجه القمر ودرجات الحرارة، لا مثيل لها إلا في قصر باكنغهام في لندن، الذي صار متحفاً بعد انتهاء الملكية قبل عقود. أرضية القصر من الرخام والمرمر، تنتصب فوقها تماثيل لبوذا ولتنين أسطوري، ونُقشت "درابزين" سلالمه بصفائح البرونز وبتماثيل هندية صغيرة الحجم دقيقة النحت. كان القصر مصمماً بحيث لا تغيب الشمس عن حجراته وردهاته، وعلى جدرانه لوحات نادرة لكبار الرسامين في العالم، وفي كل ركن من أركانه تمثال ثمين لإله هندي.
لقد رأى عبد المولى، قصوراً أكثر عصريةً وإبهاراً في المرات التي طُلِب فيها لتقديم عروض خاصة في بيوت أثرياء، كان بعضها لا يمكن تخيله إلا كأعجوبة لا يمكن لها أن تحدث إلا في المستقبل أو في حكاية خرافية، أما ذلك القصر فكانت كل خطوة يخطوها فيه تشعره بأنه يوغل في ماضٍ سحيق، لا ينقصه ليصير بيتاً للأشباح إلا أن تكسو تحفه غلالة كثيفة من خيوط العناكب.
استوقفته لوحة كُتب فيها بخط عربي كوفيّ بارز: "لا ولادة إلا عبر الموت". تأمّلها طويلاً، قبل أن يباغته مراد بك بسؤاله:
"هل تؤمن بوجود الرئيس؟".
"قدر إيماني بوجودك ووجودي".
"عظيم... ما أحوج البلاد إلى مواطنين بقوّة إيمانك".
احتقن وجهه بالفخر، وتابع مراد بك:
"بعد أيام سيفتتح مولانا بنفسه عروض اليوم الأول للكولوسيوم. وقد اختارك للمشاركة في هذا الحدث الفريد لعلمه بما يكّنه لك الشعب من محبة، ستكون تلك المشاركة بمثابة أول اعتراف رسمي بك... لقد أنكرنا شهرتك طويلاً".
"شرف لي".
"عليك أن تعرف أن العرض يشبه ما تقدّمه يومياً، حلبة موت، لا نجاة فيها للخاسر".
ابتسم عبد المولى مزهواً ومستخفّاً، فسطع بياض أسنانه القوية التي تأمّلها مراد بك مفتوناً.
أشار إليه بالجلوس، وقدّم له الخدم الشراب وصحوناً ضخمةً من اللحوم وأطايب الطعام والفاكهة. كان جائعاً، فالتهم كل ما قُدّم له. لم يذُق في حياته طعاماً أو شراباً شهيّاً إلى هذا الحد، كأنه صنيعة الجنّة.
راقبه مراد بك حتى انتهى من طعامه دون أن يتفوّه بحرف، ثم أمر له بحشيش وأفيون من أفخر الأنواع، فلما تكيّف وانسطل، أشار مراد بك لجنوده، ففُتحت الأبواب، لتدخل عشرات النساء الفاتنات من كل بقاع الدنيا وألوانها، لم يرَ عبد المولى في مثل جمالهنّ. تحلّقن جميعهنّ حوله، لعقن كل قطعة في جسده المسحور فظل يتأوّه كأنه يطرد عن عظامه عفن الفقر وإهانات الزمن.
"كلهنّ لي؟"؛ تساءل ببراءة، متجاهلاً نظرة الاحتقار التي أفلتت من مراد بك.
تضحية من أجل الوطن!
استفاق ليجد نفسه مكبّلاً داخل قفص حديدي في قبو نصف مظلم ذي رائحة عفنة. فكّر في أطفاله وامرأته وشعر بالذنب لانغماسه ليلة أمس في اللذة دون أن يخطروا على باله، ثم حلّ به قلق كاسح على مصيره ومصيرهم، إذ لطالما سمع عن هؤلاء اللذين يختفون دون سبب، هؤلاء اللذين يغيبون منذ بدء الخليقة وراء الشمس، لكنه وافق على طلبهم المشاركة في احتفالات "مولانا"، وراح يتساءل لماذا منحوه ليلةً من ليالي الجنّة ثم سلبوه إياها؟ هل يُعاقَب لأنه قبل لذّة الطعام والمخدرات والنساء؟ هل فشل في اختبار مولانا؟ لكن ماذا يدري ذلك السابح في عليائه عما يكتنزه جوع الفقراء الطويل من رغبات؟
استفاق عبد المولى ليجد نفسه مكبّلاً داخل قفص حديدي في قبو نصف مظلم ذي رائحة عفنة. فكّر في أطفاله وامرأته وشعر بالذنب لانغماسه ليلة أمس في اللذة دون أن يخطروا على باله، ثم حلّ به قلق كاسح على مصيره ومصيرهم...
بعد ساعات دخل مراد بك. جلس على مقعد في مواجهة القفص، أشعل سيجاراً، نفث دخانه ببطء متأملاً في صمت ذلك الوحش الذي يشبه في الأسر وحشاً مهاناً.
قال أخيراً:
"أنت مصارع رائع يا عبد المولى، كنت آتي متخفياً لأشاهد عروضك، يا للجسد الموهوب، لكن أتعرف ما أكثر ما فتنني بك؟".
لم يُجِبه، فتابع:
"أسنانك. قوية وبارزة كأنها مستعدة لأن تُغرس في جسد العالم بلا تعاطف، شيء نادر، أسناننا ليّنة، أما أجسادنا فقد طمرها الزمن".
"أي خطأ ارتكبت كي أُحبس في قفص بعد كرم ليلة أمس؟".
"لم ترتكب أي خطأ، كرم أمس كان عربوناً لصفقة".
"سأقبل بأي شيء".
"عندما يحين وقت عرضك في الكولوسيوم، ستهزم بضعة مصارعين كعادتك، لكن في الفقرة الأخيرة لعرضك ستواجه مصارعاً بعينه".
"والمطلوب؟".
"أن تُهزم أمامه".
"أي أن أموت؟".
"بالضبط".
"أعطني سبباً واحداً يجبرني أن أفعل هذا".
"تضحية من أجل الوطن! نَمُرُّ بأزمة اقتصادية كبيرة، وبالإعلان عن مشاركتك سيراهن الجميع، أثرياء وفقراء، بأموال طائلة على فوزك".
"بينما تراهن الدولة على موتي".
"عاجلاً أو آجلاً سيدفعك سماسرة الحلبات الشعبية إلى الموت، فانتصارك الدائم يفسد ندرتك، لكن موتك حينها سيكون تافهاً، ما أعرضه عليك فرصة لن تعوّض كي تُثمّن موهبتك بشكل عادل ومن أجل هدف عظيم".
نظر عبد المولى طويلاً في وجه مراد بك الشرس ذي النظرة المتغطرسة التي يفوح منها المكر، والشاربين المنتصبين في صلف، ليدرك حقيقة روحه المختبئة خلف سياج من العجرفة والشعور الطاغي بالسيادة. محض خسة وجبن.
"لا"، أطلقها كزفرة حاسمة مشبعة بمرارات حياته كلها.
غادر مقدّم الدرك القبو بملامح باردة حيادية، أطفئت الأنوار الشحيحة لتحلّ عتمة قاسية صار معها كحبيس في جوف حوت.
"ما أجمل الإيمان!"
تُرك ليومين دون طعام أو شراب، وحيداً في مواجهة صمت مهيب، ليرتفع ضجيج أنين قتلاه إلى أقصاه، فتكوّم في قفصه وهو يرتجف. تضرع إلى مولانا كعادة المؤمنين به، لكنه سرعان ما شعر بالغضب منه، هو الذي ورّطهم بغيابه في هذا كله.
لم يتخطَّ عبد المولى التاسعة والعشرين عاماً من عمره، ولم يعاصر التجلّي الحيّ للرئيس، لكنه كان يعرف أن الوعد الوحيد الذي قدّمه في خطبه المسجلة هو أن يكون لتضحيات الفقراء معنى في نهاية المطاف، وألا تستمر حياتهم اليومية كمحض إهانة. الآن يقامر كل ليلة بحياته كي يعود بلقمة لأطفاله، لعنه وسبّه، ثم بكى واستغفر، وظل يردد اسمه لساعات في تبتّل، حتى اختفى صخب أشباحه، ليبزغ من داخله صوت واحد يحفظه عن ظهر قلب، صوت "مولانا".
لم يقل الصوت شيئاً مفهوماً. محض تهتهة وطلاسم، كأنها رقية، لكنها كانت كفيلةً بأن تبعث فيه السكون، ومع الوقت بدأت اللغة الضبابية تتضح كهمس سماويّ يخبره بأنه مواطن صالح مرضيّ عنه. كافح وصارع من أجل عائلته، تحمّل ذنوبه بشجاعة، لذا غُفرت له جميعها، وسيكافأ بمُلك لا يبلى ومكان لا يجوع فيه ولا يعرى لا تفصله عنه إلا خطوة واحدة، كل ما عليه أن يفعله هو أن يعبرها.
سأله مولانا:
"هل تقبل أن تخطو تلك الخطوة؟".
سرت نشوة صوفية كرعدة خفيفة في كيان عبد المولى، وسرعان ما تبددت لتحلّ مكانها طمأنينة باردة.
في قلب جوف الحوت همس:
"لقد قبلت".
حينها انفتح باب القبو، وأضيئت الأنوار.
قاده الجنود برفق إلى بهو القصر. كان مراد بك مضطجعاً على أريكة يقشّر تفاحةً قذفها تجاه عبد المولى الذي تلقفها وأكلها بجوع الأيام الثلاثة التي قضاها حبيس قبو مظلم.
قال مراد بك بابتسامة ماكرة:
"ما أجمل الإيمان!".
"لست قلقاً إلا على امرأتي وعيالي".
"لا تخف... لقد صاروا في معية مولانا... سيتكفل بهم مدى الحياة... سيُنقلون إلى سكن أرقى وسيحظى أطفالك بأفضل فرص التعليم والعلاج... وربما يصبح أحدهم ضابطاً كبيراً له شأن في الدولة، بالإضافة إلى راتب كبير سيصل إلى زوجتك شهرياً. لن يجوعوا بعد ذلك أو يعروا".
"أثق بحكمة مولانا وعطفه، لن يجدوا أباً أفضل منه".
"ما زال بإمكانك أن تتراجع".
قال عبد المولى مندهشاً:
"لم أكن أعرف أني أملك أن أختار".
"لا يمكن لتضحية عظيمة كتلك أن تتم إلا بكامل إرادتك".
قالها بصدق أربكه.
"عندما يحين وقت عرضك في الكولوسيوم، ستهزم بضعة مصارعين كعادتك، لكن في الفقرة الأخيرة لعرضك ستواجه مصارعاً بعينه"/ "والمطلوب؟"/ "أن تُهزم أمامه"/ "أي أن أموت؟"/ "بالضبط"/ "أعطني سبباً واحداً يجبرني أن أفعل هذا"/ "تضحية من أجل الوطن!
"مولانا" عبد المولى
"من أجل العائلة"؛ قال لنفسه وهو في قبو يفضي إلى حلبة الكولوسيوم، ينتظر دوره ليقدّم فقرته الأخيرة.
سلّى نفسه بتخيّل وجه مولانا، واشتمّ رائحة قربه وتَجسُّد صوته في هدير الجماهير المهتاجة كأنه تشكّل من أعمق رغباتهم. جاؤوا ليروا "هركليز"، وهو يقتل الجميع دون أن يعلموا أنه سيفاجئهم اليوم بموته.
"لا... بل من أجل مولانا".
يدرك الآن أن رضاه هو الخيط الواهي الذي بربطه بالعالم، والأكثر صلابةً من أي دافع، وأن حُبَّهُ هو مصدر الخسة والعظمة الكامنتين في قلبه.
رأى عازف بيانو يتمرّن على فقرته. كان يرتدي بذلةً فاخرةً تحسب معها أنه رجل بالغ الرزانة، لكنه خلع بنطاله فجأةً ثم لباسه الداخلي، وانحنى ليعزف مقطوعةً كلاسيكيةً بقضيبه، ساتراً عورته بلوح خشبي. أضحكته تلك الفقرة كثيراً. أعجبه أيضاً رجل يضع كرةً حديديةً على مشط قدمه وهي مشتعلة بالنار من جانبها العلوي، ركلها إلى أعلى وأوقفها على رأسه دون أن تمسّها النار، لكن أكثر ما فتنه كانت فقرة يتمرن عليها رجلان، أحدهما شاب والآخر شيخ مهيب، يمسك الأول بحبال يقذفها في الهواء فتتحول إلى حيّات، ثم يأتي دور الشيخ فيلقي بعصاه لتأكل الحيات.
أثار تعاطفه شاب رقيق يدّعي القدرة على إحياء الموتى. لم يظنّه عبد المولى أكثر من نصّاب، لكنه يتفهم أي حيل قد يلجأ إليها الفقراء من أجل قروش قليلة تسدّ رمقهم.
دخلت شحنة من عراة تسوقهم السياط، عرف من وشم الخونة وشارة صفراء تظلل اللحم العاري، أنهم خليط من المشككين في وجود الرئيس والمتهمين بالتآمر عليه والحاملين أفكاراً وميولاً وأهواء أخرى لا تتفق مع عاداتنا وتقاليدنا كـ"مصريين". أشار إليهم عبد المولى بإصبعه الوسطى، وبصق في وجوههم في احتقار متعجباً كيف لا تنتهي تلك الجراثيم من اختراق هواء البلاد.
كسا الحراس أجسادهم الهشّة بأزياء مصارعين، دون أن يُمنحوا أسلحةً أو دروعاً، ثم أخرجوهم إلى الحلبة كوليمة للأسود، كم أثار هذا الجماهير التي هتفت مفتونةً باسم مولانا.
عندما جاءت فقرة الشاب الذي يحيي الموتى، رمق المؤدّين قبل خروجه بنظرة ملتاعة، ثم قال:
"طوبى للمساكين".
سمع عبد المولى صفارات مستهجنةً، فعلم أنه فشل في إحياء الموتى، ثم بلغ أذنيه دويّ تصفيق حادّ وصيحات تختلط فيها البهجة بالألم والحماسة بالعويل.
أعلن مذيع الإستاد عن قدوم فقرته. أخذ نفساً طويلاً ثم عبر إلى الحلبة، فدبّت العاصفة في أرواح الجماهير، التي لا تهتف إلا باسمه: هركليز... هركليز. كانوا يحملون لافتات وصوراً له. لم يهتمّ، جل ما شغله رؤية "مولانا". التقطه بسهولة، وكيف لا يفعل؟ كان مضيئاً كشمس، كملك للعالم قد يحرقه دون ذرّة ندم لو تعكّر مزاجه، دون أن يملك أي شخص القدرة على حسابه أو مراجعته، كان يرتدي زيّ قيصر؛ يد تعاقب ويد تمنح الغفران.
رأى محيي الموتى مصلوباً بمسامير مغروسة في يديه وقدميه، ومرتدياً تاجاً من الشوك والدماء تنزف من جسده ببطء. خمّن أنه اضطر إلى أن يقدّم أفضل فقراته ليبهج الجمهور، بعد أن فشل في إحياء الموتى. انحناءة رأسه المعذبة بدت كانحناءة من تُردّ لهم التحية.
دخل إلى الحلبة عشرة مصارعين أقوياء البنية مسلحين بالكامل. كان الجمهور ينتظر أن يلتهمهم بيديه العاريتين. انتقى أقواهم وطوّح بجسده إلى الأرض، واعتصر رقبته بساقيه. بإمكانه أن يحطمها في ثوانٍ، لكنه انتظر إشارة "مولانا" للقضاء عليه. تضاعفت صرخات الحشد الذي شكّل رابطةً جذابةً ومغريةً من الأخوة الباحثين عن انتصار نهائي وساحق، فصاروا جسداً واحداً عالقاً في السراب، بروح هائجة كطوفان وقودها إيمان قوي ومبهم. أتته الإشارة فأجهز على المصارع، وسط حماسة الجماهير.
صرخ محيي الموتى من فوق صليبه:
"أنتم ملح الأرض، ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملَّح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يُطرح خارجاً ويداس من الناس".
تدافع نحوه باقي المصارعين وقد تكاتفوا معاً وتحركوا ككتلة واحدة تحت غطاء من دروع؛ أثخنوه بالضربات المتوالية للسيوف والبلطات بلا رحمة، سقط هركليز، سمع تأوهات الإعجاب وهي تتبدل إلى مطالبة بإنهاء حياة النجم الذي هوى.
"ها أنا أرسلكم كحملان في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام".
انقلبت عينا عبد المولى إلى الداخل، لعق جراحه والتأم جسده المسحور، لتعود الحياة سريعاً إلى جسده الممزق، ويعود سالماً كأن لا شيء مسّه، انتفض كعنقاء من الموت ثم صرخ صرخةً مدويةً، وبصدر عارٍ اندفع نحوهم كسيل، قتلهم مصارعاً تلو آخر، ثم انتصب عالياً فوق جثثهم المكومة، غرس يده في صدر أحدهم، وفعل حركة الجماهير المفضلة؛ انتزع قلباً، قضم منه قضمةً، لكن تلك المرة رفع القلب في الهواء ملوّحاً به إلى مولانا وحده.
"كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون"؛ صرخ محيي الموتى دون أن يسمعه أحد هذه المرة.
أعلن مذيع الإستاد أن درّة العرض لم تأتِ بعد: "فمهما هزم هركليز من مصارعين، هل يقدر على ذلك المصارع الجبار والفريد من نوعه، مولانا نفسه؟".
حطّ الصمت على الإستاد، وتصاعد صخب القتلى داخل روح عبد المولى، وارتجف قلبه كطفل. أهذا هو المصارع المنشود الذي عليه أن ينهزم أمامه، أن يموت عابراً الخطوة الفاصلة إلى مُلك لا يبلى ومكان لا يجوع فيه ولا يعرى.
ظلّ غير مصدق عينيه وهو يرى مولانا يهبط إلى الحلبة متكئاً على مراد بك. خلع رداءه الملكي وأعطى تاجه إلى مقدّم دركه. أسفل الرداء زيّ بسيط لمصارع، ليس إلا لباساً من جلد حيوان مسلوخ يغطّي عورته.
تعجّب عبد المولى من أن الشمس التي كانت جالسةً قبل دقائق في المقصورة الرئيسية، لها جسد عجوز خرب ودميم وبالغ النحول بهذا الشكل، بأنف تعلوه بثور ساحرة ووجه مشقّق على وشك السقوط، وجلد متدلٍّ كخرقة بالية. شمس لا تحتاج إلى أكثر من نفخة من فمه كي يطفئها.
ما أربكه هو اهتزاز إيمانه. تصاعدت في رأسه أبخرة دم "زنخ" من الكبرياء والجحود: كيف يسمح لنفسه بأن ينهزم أمام عود حطب جاف كهذا؟
"لا تجرّب الربّ إلهك".
وقف الجميع لغناء النشيد القومي بحرارة غير معهودة صاعدة من حفرة في قاع القلب مكدسة بالجثث والأشباح والظلام، وبالرعب والآمال، ثم دوت أصوات طبول نحاسية لتعلن بدء المصارعة.
هرول بكل ما أوتي من قوة تجاه مولانا الذي لم يرتبك للحظة، بل ظل جامداً في مكانه كتمثال محنّط، لكن ما أن بلغه عبد المولى حتى جثا على ركبتيه كعبد طالباً العفو. لقد قرر الاستسلام. حتى لو قتله فلن ينجو من رصاص الحراس أو من شهية الجماهير المتوثبة لالتهام قاتل رئيسها حيّاً، وستخسر عائلته الوعد بالجنّة. لقد حوصر وهو الجبل الشامخ كفأر، كان يأمل أن ينجيه مولانا من مصير الموت عبر استسلام ذليل يضع فيه حياته بين يديه.
برقّةٍ مسّته كتيار من النسيم وسط الجحيم، ربت مولانا على رأسه، ورفعها إليه. حدّق عبد المولى في عيني العجوز الغائرتين الخاويتين كبئر معطلة، ورأى الحقيقة.
لم تكن الصفقة في أن يترك مولانا يقتله، بل في أن يقتل هو مولانا، أن يُفلِت بالموت روحه الشائخة من قبضة الخلود الأبدي والسلطة المطلقة، كان يتوسل إليه أن يفعلها. من يجرؤ حقاً على أن يقتل الرئيس بيدين عاريتين، سوى العبد الصالح الذي غُفرت له كل خطاياه. خطوة واحدة تفصل كلاً منهما عن نعيم أزلي ومُلك لا يبلى، وعلى عبد المولى وحده أن يتحمل وزر تلك الخطيئة بشجاعة. هو الآن أمام ما لم يملك فهمه أو تفسيره في كليته، لكن قداسة المهمة كانت تغمر كل ذرة في كيانه، وقد خفت للأبد أنين قتلاه. رأى أشباحهم وهي تنفلت في سلام من روحه، لتعتقه من الازدراء الطويل للنفس.
مولانا هو، وهو مولانا.
انتصب عبد المولى كرمح مسنون، بيديه العارتين أطبق على عنق العجوز، وظل يضغط ويضغط، لكن كان هو من يختنق. كانت تنتقل شيخوخة العجوز الخرافية إلى روحه وتشيع الوهن في بدنه العملاق ذي الجسد المسحور، بينما ينتقل إلى مولانا سرّ شبابه الأبدي.
أشار الجمهور بإبهامه إلى أسفل، فتفتتا معاً ككومة من التراب، لكن جسد مولانا وحده هو من انتفض كجبل شاهق وخرافيّ، وخرّ له الجمهور مصعوقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...