يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
هل نتجرأ أن نتخيّل حياةً بلا بنوك؟ ليس تماماً… فهذا النوع من الخيال يستدعي ذلك النوع من القسوة التي تضطر الكتّاب إلى الاستغناء عن رفاهيات القصة، والخروج من شروطها. وهذا التخيّل، أي حياة بلا بنوك، هو حالة تداعٍ كبرى تستدعي انهيار المدينة التي نحبّها بشكلها الحالي، بعناصرها كلها المغرية والمثيرة.
شيئاً فشيئاً سأضطر وأنا أتخيل حياةً بلا بنوك، إلى أن أتخلص من كل شيء، ولا أقصد بطاقات الائتمان، وحلاوة صوت الصرّاف الآلي، وهوس التسوقوالمطاعم والعطور، وتحقيق الأمنيات بالشراء دون استحقاق. ليس هذا فقط، لكن أقصد النظام الاقتصادي الحديث كاملاً، لأن النظام البنكي متغلغل في كل شيء. لذا، وبدلاً من تخيّل الحياة الحالية وقد أخرجنا منها البنوك، فالأسهل أن أبني حياةً جديدةً من الصفر في دولة غير موجودة بعد، ومن المعروف عن الخيال أنه يأخذ الطريق الأسهل دائماً.
ستكون بلاداً بحريةً بالضرورة، وذات مناخ معتدل، فالمناخ المعتدل يساعد على توفير نفقات التدفئة والتبريد صيفاً شتاءً، مما سيقلل من الحاجة للمال.
ولأن جميع الجزر والسواحل في البحر المتوسط محجوزة مسبقاً من دول تتعامل مع البنوك، فلنتخيل، والخيال حرّ في ما يريده، أن هناك جزيرةً ظهرت في المياه الدولية ولم تحصل عليها أي دولة، وأننا -أنا والأشخاص الذين قررنا أن نُخرج البنوك من حياتنا- نحوز على مبلغ بسيط، ولأن لا أحد يريد هذه الجزيرة، ولأننا أوفياء لفكرتنا، فسنتنازل عن أموالنا مقابل شراء هذه الجزيرة، وسنسمّيها بلاد الطنان، وسيكون شعارها الرسمي طائر الطنان.
بدلاً من تخيّل الحياة الحالية وقد أخرجنا منها البنوك، فالأسهل أن أبني حياةً جديدةً من الصفر في دولة غير موجودة بعد، ومن المعروف عن الخيال أنه يأخذ الطريق الأسهل دائماً.
نحن الطنانيين والطنانيات، لا نحمل نقوداً، فهذا شرط من ضمن 77 شرطاً آخر للحصول على الجنسية الطنانية، أما الـ76 شرطاً الباقية فتتمحور بالمختصر حول ضمان أن يكون كل سكان الجزيرة من "الأحرار الطيّبين"، وليس بلغة المواثيق الدولية، إنما بلغة الصعاليك، إذ نقرأ في كتيب اشتراطات الحصول على مكان في بلاد الطنان عبارات من نوع: "أنتم أحرار في أن تكونوا أو لا تكونوا أحراراً"، أو "الأطفال محميون بالمطلق من كل ألم وخطر وحزن، وأي أحمق يحتاج لتفسير هذه العبارة؟"، أو "المقايضة العادلة تستدعي مستويات متساوية بين الطمع والإيثار"، وأيضاً "لا يوجد مناسبات وطنية، فبلاد الطنان ليست وطناً، بل مجرد مساحة هادئة بين ما يسمى أوطاناً".
لأننا بلا بنوك، وبلا نقود، فنحن بالضرورة بلا قروض، وهذا كفيل بالحصول على نصف السعادة، أي جانب الراحة النفسية الذي تسمّيه "الختيارات" ببلاغة مثيرة للإعجاب: "هداة البال".
"البال" من الكلمات غير الموجودة إلا في اللغة العربية، لأن المفهوم نفسه غير موجود إلا لدى العرب، فهو ليس العمليات العقلية التي تدور داخل رؤوسنا فحسب، وليس التفكير في المستقبل أو محاسبة الماضي، وليس التخوف من أمر قد يحدث في الحاضر. البال هو ذلك الصوت الذي يصرخ ويبكي ويضحك ويفكر داخل رؤوسنا طوال الوقت.
"هداة البال" التي تدعو لنا الختيارات بها، هي إخراس ذلك الصوت الذي في رؤوسنا لأنه لا يملك ما يشكو منه، ولعلها القدرة على الجلوس على رأس جبل يطلّ على البحر وشرب "كاسة شاي" من دون أي حسابات، كأننا في لحظة لا نريد شيئاً آخر معها، وقد اكتفينا ورضينا وابتسمنا.
فلنتخيل، والخيال حرّ في ما يريده، أن هناك جزيرةً ظهرت في المياه الدولية ولم تحصل عليها أي دولة، وأننا -أنا والأشخاص الذين قررنا أن نُخرج البنوك من حياتنا- نحوز على مبلغ بسيط، ولأن لا أحد يريد هذه الجزيرة، فسنتنازل عن أموالنا مقابل شراء هذه الجزيرة، وسنسمّيها بلاد الطنان
هذا هو هدوء البال الذي سننعم به كثيراً في بلاد الطنان، فلدينا جبل وبحر، ولدينا مزارع تصلح لزراعة الشاي والنعنع وقصب السكر، والأهم لدينا من الرمل ما يكفي لصناعة كؤوسنا الخاصة.
بهذا، نكون قد حصلنا على الجزء النفسي بلا بنوك، لكن منذ متى كانت البنوك تكترث لنفسياتنا؟ النصف الثاني هو الصعب، فهو النصف العملي الذي سيتطلب منا نحن سكان بلاد الطنان أن نبني منازلنا ونخيط ملابسنا ونزرع طعامنا ونصطاده، وهي عمليات متعبة في الحقيقة، والمعروف عن الناس الذين يطمعون بـ"هداة البال" أنهم كسولون أيضاً.
كطنانية، أعرف تماماً أن بنوك العالم تنتظر لحظة انهيارنا وطلب المساعدة، فلا أحد ينتظر منا أن ننجح في تأسيس دولة بلا عملة، وبلا بنوك، فهذا سيكون مثيراً لذعر الاقتصاد العالمي، فحتى بعد أن صنعنا كؤوسنا الخاصة وأبهرناهم بإنجازنا، ظلت عملية بناء المنازل تحدّياً كبيراً، لذا قررنا أن نسكن في الكهوف، فعددنا قليل والكهوف كثيرة.
نحن الطنانيين والطنانيات، لا نحمل نقوداً، فهذا شرط من ضمن 77 شرطاً آخر للحصول على الجنسية الطنانية.
وهكذا عدنا إلى حياة إنسان الكهف، وللحقيقة فقد أبليت جيداً كابنة للمدن هناك، ولم أتذمر، فطالما أمتلك "هداة البال"، سأتنازل عن طلاء أظافري.
لدينا ما يمكن تسميته بالمطاعم على الساحل لكنها فارغة معظم الوقت، ولدينا مدارسنا التي نعلم بها الأطفال شتى أنواع الهراء البوهيمي ونحولهم لكائنات تحمل أفكاراً غير قابلة للتطبيق إذا غادرونا، وليس لدينا مستشفيات أو أطباء لأننا لا نملك المال الكافي ولا الموارد لبنائها، وفي الحقيقة فنحن لا نملك شيئاً يمكنه أن يبقينا أحياء لفترة طويلة، ونحن فقراء أيضاً، ولكننا نحظى بهداة البال، وهذا سيعوضنا عن كل شيء آخر في الحضارة!
حصلت على كهف مرتفع يطلّ على البحر، زرعت بالقرب من الباب شجرة ليمون، ورسمت على جدرانه أشكالاً كثيرةً لـ"هداة البال"، وشاركني زوجي في زراعة الأرض التي اخترناها بما جلبه من بذور من العالم الحقيقي، وبعد أول محصول، وبعد أن سئم الأحرار الطيبون من السمك المشويّ، والطيور التي نصطادها بصعوبة، قررنا إرسال بعض الرجال والنساء في بعثة إلى عالم البشر للتزوّد ببعض البذور والنباتات والدجاج والخراف والأحذية والملابس والأدوية والعلكة وقليل من الشوكلاته وبعض البهارات والتبغ والمشروب ومولدات الكهرباء، وكل هذا يحتاج إلى نقود، ونحن لا نملك نقوداً، مما اضطر البعثة إلى رهن الجزيرة للبنك مقابل الحصول على النقود، وبالنقود اشترينا ما ينقصنا، وما هي إلا سنوات قليلة حتى صادر البنك بلاد الطنان فعدنا للتناثر في العالم.
كيف توقعتم أن تنتهي هكذا قصة إذاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...