شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الساحل والمسحول وسيلفستر ستالون.. كيف أصبح

الساحل والمسحول وسيلفستر ستالون.. كيف أصبح "السحل" مفهوماً اجتماعياً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 16 سبتمبر 202412:06 م

"مارينا ومراقيا وماربيلا". ظهرت هذه الأسماء لقرى "الساحل الشمالي" منذ نهاية الثمانينيات، وفي مشهد متداول من الفيلم المصري "جعلتني مجرماً"، والذي يظهر فيه الممثل أحمد حلمي مدهوشاً من وجوده في "الساحل الشمالي"، ويعرض بطريقة ساخرة عدم إدراكه للموقع الجغرافي لهذا "الساحل الشمالي". المكان الذي لم ولن يخطر على باله في يوم من الأيام أن يكون فيه، وأين؟ في "مارينا بتاعة الأغنياء".

ربما يعبر هذا التصوّر عما استقر في ذهن العديد من المصريين -وقتذاك في 2006- بخصوص ما يعنيه وما يمثله "الساحل الشمالي"، لا كمجرّد "مصيف فاخر"، بل كنموذج أولي لنوعية معينة من "جودة الحياة".

وفي السنين الأخيرة تداول العديد فيديوهات وصور وميمز تتناول تصورات وانطباعات عن أشكال مستحدثة من التمايز الطبقي والوجود الاجتماعي، مثل "الساحل الطيب" و"الساحل الشرير". الأمر الذي يظهر أحياناً في آراء أو تدوينات أو فيديوهات مصوّرة تنتقد هذه التصوّرات بصفتها تعبيراً عن ذروة الصراع الاجتماعي أو الطبقي في مصر، لكن يتناسى مثل هذا التفكير حقيقة أن غالبية المصريين بعيدون تماماً عن "الساحلين"، وأن التصوّر الساخر في أول الأمر عن "مارينا بتاعة الأغنياء"، وصعوبة إدراك كيف أن أحد العاديين أو العوام – أو ما يطلق عليهم في ثقافة الساحل النورمز- يستطيع الاقتراب أو التواجد في الساحل!

كل هذا تم تجاوزه لما هو أبعد من ذلك، ولما تؤكده الشواهد والمواقف التي تنتشر بشكل يومي على مواقع التواصل الاجتماعي عن مجال اجتماعي ينتقي أفراده، ويحرص على تكوين أكواد وصفات ثقافية تحفظ له خصوصية وضعه ووجوده.

المفارقة الساخرة الأحدث بخصوص وضع تعريف مناسب لما يعنيه أن تنتمي "للساحل"، عن طريق تعريف وتعيين نقيض الساحل وإلصاقه به في صياغة بسيطة للغاية: "ساحل/مسحول"، حتى أصبحت "تيمة دعائية" يتغنّى بها أحد مغنيي الراب، كونه يريد "العيش في الساحل لا في المسحول".

وبقدر ما تحتويه هذه المفارقة من سخرية بقدر ما تكشف أيضاً عن الكيفية التي انحدرت بها صيغة "المواطنة"، والطريقة التي يتشكل بها وجود الفرد في مجتمع، ليصبح "السحل" هو القاعدة العامة للوجود الاجتماعي، وكل ما عليك هو إيجاد موقعك من هذا "السحل"، إما بصيغة الفاعل أو المفعول.

المفارقة الساخرة بخصوص وضع تعريف مناسب لما يعنيه أن تنتمي "للساحل"، عن طريق تعريف وتعيين نقيض الساحل وإلصاقه به في صياغة بسيطة للغاية: "ساحل/مسحول"، حتى أصبحت "تيمة دعائية" يتغنّى بها أحد مغنيي الراب، كونه يريد "العيش في الساحل لا في المسحول"

في الأيام الأخيرة، ومع صعود ترندات الساحل، كشفت إحدى عناوين الأخبار عن وفاة شاب من صعيد مصر يبلغ من العمر 29 عاماً، إثر انفجار في المخ بسبب ضغط العمل. ربما يكون موت الشاب استثناء، لكنه لا ينفي قاعدة عامة، يشترك فيها مع ملايين أخرى من الشباب والمصريين الذين تدفعهم الظروف والأوضاع المعيشية المضنية لكي يتم "سحلهم" في وظيفتين، بعدد ساعات يتراوح بين 12-16 ساعة يومياً، وهذا الوضع هو ما جعل كلمة "سحل" على لسان كثير من الشباب وهم يصفون ما يلاقونه ويختبرونه بشكل يومي، في أماكن عملهم، وفي حديثهم اليومي عن تلبية احتياجات ومتطلبات حياتهم.

تصبح بالتالي جدلية "الساحل/المسحول" مدخلاً مناسباً لإلقاء النظر على الوضع الطبقي والمكانة الاجتماعية، وما يترتب عليهما من صفات اعتبارية أو حيثية لما يعنيه أن تكون مواطناً مصرياً، خصوصاً في الفترة الأخيرة، والتي لا يخفى على أحد فيها ما يتردّد بخصوص الأزمة الاقتصادية التي تلقي بثقلها على الفئات والقطاعات الأكثر فقراً والأقرب لكونهم "مسحولين".

ما يجعلنا نتساءل: ما هي طبيعة الأوضاع التي جعلت من "السحل" مفهوماً اجتماعياً يجري على أساسه تناول واقع المصريين؟ ووفق أي منظور يتم التعاطي مع المسألة الاجتماعية؟ وبأي معنى نفهم الحديث عن "جودة الحياة" و"التنمية" و"الحقوق"؟

تناقض مفهوم "التنمية"

يجري الحديث في السنين الأخيرة عن "تنمية" غير مسبوقة تشهدها مصر، ضمن ما بات يُعرف بمخطط "الجمهورية الجديدة"، لكن مناقشة هذه "التنمية" تستوجب السؤال عن نوعية المصريين المستفيدين منها، ومن ثَم النوعية التي تم استثنائها وإسقاطها خارج حدود التنمية؟

وبالرغم من أن فكرة "المدن الجديدة" ليست بالشيء الجديد على مجتمعنا الذي سبق وشهد تأسيس مدن مثل: "العاشر من رمضان"، "السادات"، "6 أكتوبر"، "السلام"... إلا أن التصوّر الحالي لما تمثله المدن الجديدة يطرح تساؤلات عديدة عن ماهية مواضيع التشكل الجديدة: نوعية السكان، وجودة الحياة، والثقافة الجديدة للمجتمع المُسوًر والمعزول بـ "ثقافة الكومباوند".

يتجلّى هذا التصور في المشروع الضخم الذي تملكه مجموعة "طلعت مصطفى" بالمشاركة مع هيئة حكومية -هيئة المجتمعات العمرانية- التي وفقاً لرؤيتها، فهي مناط بها "تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حياة كريمة لكافة المواطنين من خلال توفير مجتمعات عمرانية وسكنية متكاملة الخدمات، تضم وحدات الإسكان المناسبة لكافة فئات المجتمع والمرافق الخاصة بها، بالإضافة الى الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والترفيهية..."، إلا أن هذه الرؤية تتلاشى بمجرد مشاهدة الحملة الدعائية المروّجة لمشروع "ساوث ميد إيجيبت"، حيث الاستعانة بالفنان الأمريكي سيلفستر ستالون في إعلان يضفي طابعاً من الاستثنائية على كل شيء. استثنائية من يخاطبه ومن يستهدفه، واستثنائية أيضاً تعلن عن "حياة أفضل" تتمايز كثيراً عن شكل الحياة العادية، حياة غالبية المصريين.

وفي الوقت الذي أعلنت فيه المجموعة، في تموز/يوليو الماضي، ارتفاع مبيعاتها إلى 340 مليار جنيه، مدعومة بمبيعات مشروع "ساوث ميد" البالغة نحو 200 مليار جنيه في ستة أيام فقط، نجد في المقابل وقفة احتجاجية بشركة الإسكندرية للإنشاءات، التابعة لمجموعة طلعت مصطفى، أمام الإدارة المركزية بـ "مدينتي"، للمطالبة بزيادة الأجور.

وطبقاً لأحد العاملين فإن مرتباتهم تتراوح بين 5 إلى 6 آلاف جنيه، ويعملون 12 ساعة يومياً، دون راحات أسبوعية، حيث يقيمون في سكن الشركة لمدة 23 يوماً متواصلة، ويأخذون راحة 7 أيام في الشهر، وينفقون أكثر من نصف راتبهم طوال مدة إقامتهم في السكن على الوجبات الثلاثة، فيما لا يتقاضون سوى 23 جنيهاً فقط بدل وجبة في اليوم.

الاستعانة بالفنان الأمريكي سيلفستر ستالون في إعلان يضفي طابعاً من الاستثنائية على كل شيء. استثنائية من يخاطبه ومن يستهدفه، واستثنائية أيضاً تعلن عن "حياة أفضل" تتمايز كثيراً عن شكل الحياة العادية، حياة غالبية المصريين

تبرز الفقرة السابقة السمة الرئيسية لتناقض ما تعنيه التنمية بالنسبة للمصريين، أو بمعنى أدق، جانبي قاعدة "السحل"؛ فمن ناحية هناك "ساوث ميد" وثقافة "الساحل" وإعلانات عن مشاريع التنمية بلغة إنجليزية، ومبيعات وأرباح تصل لمليارات الجنيهات، وجودة حياة لا يقوى المواطن أو العامل "المسحول" على تخيّلها، بينما ما زالت كل آماله هو الاقتراب من رقم 6000 جنيه، الحد الأدنى للأجور.

بالنظر إلى خريطة الكثافة السكانية بالقاهرة الكبرى، نجد صورة واقعية كافية لاستخلاص معانٍ عن شكل الحياة ومعايير الجودة المنعدمة بالنسبة لعامة المصريين. في منطقتي "الخصوص وشبرا الخيمة" يعيش حوالي 77 ألف فرد في الأولى، و39 ألف فرد في الثانية. يشير هذا الرقم للكثافة السكانية (فرد/كم مربع)، بينما في المقابل تحظى مدن العمران الجديد بكثافة سكانية أقل من 1000 فرد لكل كم مربع، وبالرغم مما تظهره الأرقام من تكدّس سكاني يكون له بالغ الأثر على المرافق والخدمات ونوعية جودة الحياة، إلا أن هذا التكدّس يقابله طفرة على مستوى بناء الوحدات السكنية، حتى أن ما نسبته 44% من الوحدات السكنية في القاهرة "خالية".

بالعودة إلى ثنائية الساحل/المسحول، نجد ما تمثله مشاريع التجمّعات العمرانية مثل: ساوث ميد، كامتداد لمجتمع "إيجيبت"، وهو النقيض الطبقي والاجتماعي لما بات يعرف بـ "الفناء الخلفي" للجمهورية الجديدة، حيث المجتمعات السكانية "الأصلية" والتي بات التأفف والانزعاج منها جلياً وحاضراً بقوة في الفترة الأخيرة، أما عن  الحل السحري بصددها، فيتمثل في "الهروب" منها، وإذا كان الهرب هو خيار لمن يملك ثمنه، فماذا عن خيارات الباقين؟

المقومات المادية للسحل

لا تزال النسبة الأكبر من المصريين تعيش في الريف -حوالي 57% بحسب المركزي للإحصاء- بينما على سبيل المثال يصبح الوصول لمصدر مياه نقي وقفاً على مساهمات العمل الخيري والتبرعات، ومن ثم لا يغدو الحراك الاجتماعي بالنسبة لهؤلاء "الفلاحين" أبعد من انتقالهم لأماكن مشابهة، للخصوص أو شبرا الخيمة. هذا على سبيل العيش، أما على سبيل العمل والتوظيف، نجد 62.5% من العاملين ينتمون إلى القطاع غير الرسمي، أي وظائف لا توفر مزايا الضمان الاجتماعي، ولا تحقق أي شكل من أشكال الحماية، في مواجهة أصحاب العمل أو في مواجهة التقلبات والأزمات الاقتصادية، كما يفرض عليهم هذا الوضع شتى الضغوطات التي تعيق قدرتهم على المساومة والتفاوض لتحسين أحوالهم.

وبعد تفاقم الأزمة الاقتصادية أكثر في السنوات الأخيرة، وارتفاع حصة خدمة الديون والفوائد لتلتهم 91% من حصيلة الضرائب، نجد -حسب دراسة للمبادرة المصرية- إذا تم حساب نصيب الفرد من مدفوعات فوائد الديون الحكومية المتضخمة، فإنه يبلغ 17.2 ألف جنيه سنوياً، في حين يقلّ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة مثلاً عن 1900 جنيه سنوياً، وفي الوقت الذي عملت الحكومة على تأجيل تحصيل ضريبة الأرباح الرأسمالية للمرة العاشرة منذ إقرارها في 2014، إلا أنها لا تتوانى في الحديث عن ضرورة رفع ما تبقى من دعم لرغيف الخبز والسلع التموينية.

في ضوء هذا تصبح الاختراقات الاجتماعية التي من الممكن أن يحرزها أحد "المسحولين" صدفة بحتة، وبدلاً من تسليط الضوء على العراقيل والضغوطات والظروف الموضوعية التي تشكّل القاعدة الصلبة "للسحل الاجتماعي"، يجري "الاحتفاء بالفقر". وبنظرة على الأمثلة التي اكتسبت شهرة إعلامية: "مريم بنت البواب" أو "بائع الفريسكا" أو "بائعة الأحذية"، يتبيّن لنا دلالات هذا الاحتفاء الذي يغفل عن سياق التشكل الموضوعي للأفراد العاديين وما يتضمّنه من صعوبات، كما يغفل أيضاً الكم المهول من قصص أخرى لم يسعفها الحظ لتكتسب هذه الشهرة.

ويبقى الأمل معقوداً فقط على "صدف أخرى" تكشف كل فترة عن "متفوّق" أو "موهوب"، ولكن وضعه الاجتماعي والطبقي يحول بينه وبين معرفة كيفية استخدام تفوّقه لتحسين وضعه.

يجري "الاحتفاء بالفقر". وبنظرة على الأمثلة التي اكتسبت شهرة إعلامية: "مريم بنت البواب" أو "بائع الفريسكا" أو "بائعة الأحذية"، يتبيّن لنا دلالات هذا الاحتفاء الذي يغفل عن سياق التشكّل الموضوعي للأفراد العاديين وما يتضمّنه من صعوبات

يُمثل كل ذلك المقومات المادية لمفهوم "السحل" الذي يعكس طبيعة المسألة الاجتماعية بقدر أكبر من مفهوم "جودة الحياة" بمؤشراته ومعاييره، ويظهر بوضوح ما تعكسه المؤشرات من غموض في البيانات الحكومية حول تراجع معدل البطالة، والتي تستشهد بها الحكومة على نجاح برنامجها الاقتصادي لعام 2016. تُعلّق الدكتورة هبة الليثي- أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- على هذا التراجع وما يُفهم منه أنه "لا يعني زيادة الوظائف المتاحة في الاقتصاد، بما ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين، وإنما يعود في جانب منه إلى تراجع عدد الباحثين عن الوظائف نتيجة اليأس من الحصول على فرصة".

المقومات الأيديولوجية للسحل

يستتبع المقومات المادية "للسحل الاجتماعي" توافر صيغة أيديولوجية ومعنوية، تؤسّس لخطاب يتغاضى عن مسببات الفقر وبنية "السحل" المتجذّرة وانهيار تصورات "العيش الكريم"، دعاية تبرّر "السحل" وتقدم عصارة خبرتها وأغلى نصائحها للشباب بمحاولة "التطبيع الاجتماعي" مع "السحل". وتعبيراً عن هذه الصورة البائسة، يخرج أحد رواد الأعمال المصريين ويطلب من الشباب الباحثين عن تحسين أوضاعهم والنجاح في مستقبلهم الوظيفي "أن يعملوا 16 ساعة أسبوعياً على الأقل".

وبنفس القدر من التعامي عن الأوضاع العامة، والتي بالفعل يتورّط فيها أغلب العاملين الذين تدفعهم ظروفهم للعمل ساعات طويلة، أو العمل بوظيفتين، يستكمل نصيحته: "افرم نفسك". وبالسؤال عن الضمانات التي يحملها الوعد بالعمل 16 ساعة يومياً بالنسبة للفرد، أو الإنجازات الشخصية الممكن تحقيقها، أو الثروة التي يستطيع مراكمتها، أو حتى على الأقل البقاء في الوظيفة التي يعمل بها، تفشل الصياغات الحماسية لمحبي التنمية البشرية ومدمني "كورسات النجاح" في استشراف إجابات لهذه الأسئلة، الخاصة بالقيمة والمعنى، بالنسبة لحياة الأفراد.

ألقت الترسيمة الجديدة للحياة الاجتماعية التي تعترف "بالسحل" تأثيرها على مفردات ومصطلحات تنتشر على لسان الأجيال الشابة، بينما يتحدثون عن أوضاعهم في العمل أو الطريقة التي يعيشون بها، أو تعبيراً عن الصعوبة التي تواجههم في أبسط تفاصيل الحياة وأعقدها. تتكرّر مصطلحات أخرى بجانب "سحل/سحلة" مثل كلمة "ينحل"، والتي لا تستخدم للتشبه بالنحل في إنجاز الأشياء في أسرع وقت، بل يعبر المعنى الدارج عن عكس ذلك تماماً، عن العجز وعدم القدرة على الفعل والتأثير بينما تتسارع الأحداث والظروف.

في "رأس المال" يعقد كارل ماركس مقارنة بين أسوأ معماري وأبرع نحلة، يقول ماركس: "غير أن ما يميز أسوأ معماري عن أبرع نحلة، هو أنه يقيم البنيان في خياله قبل أن يبنيه... ففي ختام كل عملية عمل، نحصل على نتيجة كانت موجودة، سلفاً، في مخيلة العامل عند بدء العملية، أي مثالياً. إنه لا يحدث تغييراً في شکل مادة الطبيعة فحسب، بل ويحقق في هذه المادة الطبيعية غايته الواعية... فالعمل يقتضي، في أثناء سيره، فضلاً عن جهد الأعضاء الجسدية، أن تتطابق إرادة العامل باستمرار مع غايته، وهذا يتجلى في الانتباه الدقيق؛ وبقدر ما يكون مضمون العمل وأسلوب تنفيذه قليلي الجاذبية للعامل، تقل متعته بهذا العمل كشيء تنطلق خلاله قواه الجسدية والذهنية".

يُعبر مصطلح "ينحل" عن المُضيَ فحسب، بلا أي خيال يميزنا، ولا خطة تمكننا من فعل الأشياء. مُضي لا يلتفت إلى حقوق أو أدنى التزام تعاقدي. وبهذا المعنى تتأكد دلالات الوضع الاجتماعي، الذي يكتفي بالأزمات وتأثيرها كسبب وحيد لحالة التقهقر العام في الأوضاع بدون الخوض في الأسباب الحقيقية التي تؤبّد "السحل" كحالة وجودية للمجتمع. وبدلاً من السير نحو توسيع حيز ومفهوم "المواطنة" والتي انبثقت منها فكرة "حقوق الإنسان"، ومن ثم أدبيات "جودة الحياة"، نجد تراجعاً وسيراً عكس الزمن؛ حيث بدلاً من السعي لتخفيض ساعات العمل، وهو الأمر التاريخي الذي شكلته نضالات عالمية ومحلية للوصول لصيغة "8 ساعات عمل"، والتي يبدو أنها أصبحت حلماً من الماضي، وحيث الجدارة والاحترام باتت أوصاف وسمات من لديهم "حيثية" طبقة "الساحل" ورواد الأعمال وصفوة "الناجحين"، أما العوام، الفلاحون، عمال اليومية وسكان العشوائيات... وبجانب أن كل هذه التوصيفات تُطلق أحياناً باعتبارها "شتائم" ووصماً لأفراد بأنهم "كذا"، إلا أن كل هؤلاء لا يُنظر لهم ولا يأتي ذكرهم إلا باعتبارهم "عبئاً" ثقيلاً تتحمله الموازنة.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image