كل الطرق الرئيسية في مصر يجمع بينها شيئان؛ عواميد الاضاءة شبه المطفأة، ولافتات تحمل إعلانات لمنتجات خرافية: قرى في مناطق ساحلية لا يسمح بدخولها إلا بتصاريح أو "QR Code"، سيارات بأسعار تبدأ من رقم مكون من سبعة أعداد، وليست حتى مصنّفة كسيارات فخمة، لهواة الاقتناء. هي سيارات عائلية تناسب أسرة مكون من 5 أفراد.
"فرصتك الذهبية"... "بيتك لازم يكون هنا"... "لو مش ساكن هنا يبقى أنت مش عايش"، وأعتقد أن الإعلان الأخير هو الأصدق من بين تلك الإعلانات: إن لم تسكن بينهم، ففي الأغلب أنت محسوب على الميتين.
أضف لهذا كله العديد من اللافتات المكتوبة فقط باللغة الإنجليزية، والتي قد توهمك أنك انتقلت إلى نيويورك، إلى أن يوقظك صوت سائق الميكروباص وهو ينادي: "الأجرة ورا يا حضرات".
لا يقتصر الوضع على إعلانات لافتات الطرق، فكل وسيلة يمكن الإعلان من خلالها تحيطك بمنتجاتها التي لا تجرؤ أن تهتمّ بها حتى؛ في التلفزيون، خلال مقطع اليوتيوب الواحد، مكالمات التليفون... لن تستطيع اليوم أن تحدّد إن كان المتصل سيبلغك بوفاة أعزّ أقاربك أم أن الوحدات الجديدة على أحر من جمر في انتظارك لشرائها.
لكن ما قد يزيد الوضع استفزازاً بالنسبة للافتات الطريق، هي عدد الكباري اللامحدود الذي بُني في الفترة الأخيرة، ما سمح بوجود مساحات دعائية أكثر وأكبر، لا مفرّ منها. إنها كالأخ الكبير، حولك في كل مكان، كل دورها أن تزيد من التضييق على الناس في الشوارع "وتطليع دين أبوهم".
كل من اطلع على أساسيات الدعاية والإعلان يعلم جيداً أن الشرط الأول المطلوب تحقيقه في الإعلان الناجح هو وصوله للطبقة المستهدفة، ولهذا وجب السؤال من هم الطبقة المستهدفة من الإعلانات المصرية؟
هل تسكن في مصر أم إيجيبت؟ هل تشتري منتجاتك من محلّات مصر أم إيجيبت؟ هل تتبع صيحات إيجيبت أم تكتفي بكونك "أنت" فقط من مصر؟ كيف تفضّل قهوتك (سادة، مظبوط، مانو) أم لا تشرب إلا القهوة المختصّة والماتشا وحليب اللوز؟
السيناريو المحفوظ
"تضخّم، انفلات الأسواق، ارتفاع جنوني في الأسعار، هيمنة السوق السوداء، تعويم"، سيناريو يتكرّر بنفس حيثياته من 2016 تقريباً، حيث شهدت مصر من حينها خمس تحريرات لسعر صرف الجنيه، أربعة منهم في آخر سنتين فقط، ومن المؤكد أن هذه الحالة من الجنون الاقتصادي كان لها العديد من التأثيرات على مختلف جوانب الحياة في مصر وبالأخص الاجتماعية.
هل تسكن في مصر أم إيجيبت؟ هل تشتري منتجاتك من محلات مصر أم إيجيبت؟ هل تتبع صيحات إيجيبت أم تكتفي بكونك "أنت" فقط من مصر؟ كيف تفضّل قهوتك (سادة، مظبوط، مانو) أم لا تشرب إلا القهوة المختصّة والماتشا وحليب اللوز؟ هل ترتدين حجابك فقط أم أن الطرحة من الماركة التي تميز من هنّ من إيجيبت عمّن هن من مصر؟ هل تستمع للأغاني الشعبية لأنها تعبّر عنك أم لأنها تجعلك تبدو "أصيع" ولكنك في الواقع لا تعلم عن واقعها شيئاً؟ هل تفضّل دفع سعر المنتج الطبيعي أم تشعر برضا أكثر حين تدفع قيمته مضاعفة؟ هل تحسب ميزانيتك الشهرية أم تفضّل أن يصرف ابنك يومياً ما يعادل مرتب موظف حكومي أوشك على التقاعد؟
تذهب إلى "الساحل الطيب" إن كنت من مصر، أو صيفك في "الساحل الشرير" في حال كنت من إيجيبت
أسئلة كثيرة يمكن من خلالها أن تستدلّ من أي شعب أنت، لأنك اليوم إما من مصر أو من إيجيبت، فما مرّت به البلاد من اضطرابات اقتصادية كان لها مردودها الاجتماعي في خلق شعبين بينهما هوّة واسعة، يزداد حجمها مع الوقت، في تلك الهوّة سقطت طبقة كانت تعرف قديما بالطبقة المتوسطة.
ولن يؤثر كونك من أحد الشعبين على اختياراتك في الحياة فقط، والتي في الأغلب ستحكمها قدرتك الشرائية، ولكن قد تؤثر أيضاً على مستقبلك، فبعض الشركات اليوم لن تقبل تعيينك إلا إن كنت من إيجيبت، مهما كان مستوى تفوّقك في مجالك أو خبراتك السابقة، أو حتى المهارات الأخرى التي تُقاس عليها قدرتك على الاندماج والعمل في فريق... إلخ. لا يهم، ستُسأل صراحة: أنت من إيجيبت ولا من مصر؟ وتذكر أن هناك كافيهات وبارات لن تسمح بدخولك إن ثبُت لهم أنك من مصر، ولهذا، فضلاً وليس أمراً، سيُطلب منك إرسال صفحاتك الشخصية على السوشيال ميديا، فقط لضمان نظافة المكان من فقراء مصر.
حتى الطريقة التي ستقضي بها صيفك تتقرّر: إما تذهب إلى "الساحل الطيب" إن كنت من مصر، أو ليكن صيفك في "الساحل الشرير" في حال كنت من إيجيبت.
أرتكاريا الفقراء
الفقراء والأغنياء موجودون من قديم الأزل، ورغم وجود بعض النماذج الناجحة في القضاء على الفقر بدون القضاء على الفقراء، وخلق حالة مساواة بين الشعب، لكن لنفترض أنهم الشذوذ والقاعدة هي وجود الفقراء والأغنياء، وأيضاً وجود ما بينهما من طبقات تخلق حالة من التدرّج المجتمعي التي تسمح بفرص متكافئة للتحسين من مستوى المعيشة والحياة، لكن وجود نقيضين فقط بدأ يخلق حالة من العنصرية الطبقية بين أفراد الشعب الواحد -سابقاً- تماماً كما كنا في عصر الباشوات أصحاب الأرض والفلاحين، ولكن أضف لهم الآن مجتمعاً صغيراً مشوّهاً لا يعلم إلى أي عالم ينتمى.
كان وليد هذا التغير الاجتماعي شديد التباين مسخاً صغيراً يصعب تصنيفه، مجتمعاً صغيراً يحاول أن يتشبّث بكل الطرق ليبقى مع أهل إيجيبت، عدا ذلك سيسقط في الهوّة الواسعة التي ستنتهي به إلى أن يكون من أهل مصر. هذا المجتمع المشوّه يعيش في ضغوط مادية واجتماعية فقط ليكون في الصورة مع إيجيبت، لأنك إن لم تكن إيجيبت فحتماً أنت من مصر، ومن ليس معنا فهو حتماً عليناً.
لنضع جواز سفر خاصاً بالأغنياء، يسمح لهم بالتنقل بدون تأشيرات، تماماً مثل دول العالم الأول، وليكن لهم عملة خاصة، ليُعادل جنيههم "الإيجيبتي" خمس جنيهات مصرية فقيرة، فلا يُظلموا معنا ومع عملتنا "وش الفقر"
لتحترق العاصمة القديمة بأهلها
من المرجّح، وطبقاً لما تشير له كل المؤشرات الاقتصادية، أن الوضع لن يتحسّن ولن يبقى حتى كما هو عليه، بل سيسوء أكثر، ولكن السؤال إلى أي مدى؟ هل يمكن أن يتحوّل يوماً التصريح المتعارف عليه ضمنياً بأن الشعب شعبان إلى تصريح رسمي من قبل الحكومة، وتعلن عن امتيازات حصرية لسكان إيجيبت تحميهم من "دناسة" سكان مصر وتخلّفهم وتأخرهم؟ هل يبنى سور كبير يفصل بين الشعبين، ويتم معاملة كل شعب معاملة منفصلة؟ فلماذا نزعج سكان إيجيبت بالوضع الاقتصادي المزري الذي تمرّ به البلد، فتتعطّل إجراءاتهم ومصالحهم المالية بالعديد من الإثباتات المطلوبة، والتي تُوضع في الأغلب لضمان ألا يسعى الفقراء إلى الاحتيال.
بمنتهى البساطة، لنضع جواز سفر خاصاً بالأغنياء، يسمح لهم بالتنقل بدون تأشيرات، تماماً مثل دول العالم الأول، وليكن لهم عملة خاصة، ليُعادل جنيههم "الإيجيبتي" خمس جنيهات مصرية فقيرة، فلا يُظلموا معنا ومع عملتنا "وش الفقر".
في المقابل، لنترك لسكان مصر يوم في السنة تُقنّن فيه كل الجرائم، لينتقموا فيه من سكان إيجيبت، فينفّسوا عن غضبهم، وبالتالي نضمن بقائهم مخدّرين بقية أيام السنة، تماماً كما يحدث في سلسلة أفلام "The Purge"، وإن كان شعبنا في الواقع لا يحتاج حتى إلى هذا اليوم، فهو مُخدَّر بالولادة، وراض بتخديره.
خيالات واسعة قد تظن أنها أقرب للاستحالة، ولكن صدقني بمجرّد أن أفكاراً مماثلة تشكلت -ولو على صورة خيالات فقط- هذا يجعلها أقرب للواقع من أي شيء آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...