أكثر من 40 ألفاً قتلتهم إسرائيل منذ بداية حرب الإبادة على غزة، علاوة على إصابة أكثر من 93 ألفاً آخرين. ارتكبت عشرات المجازر، وشرّدت نحو مليوني شخص هم سكّان القطاع تقريباً، رغم ذلك لم تتمكن من تحقيق "النصر" أو ما يسمّيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، "النصر المُطلق"، في كل خطاب وكل فيديو وفوق كل منصة.
منذ أن بدأت إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها على غزة بشكلِ متواصل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدت تل أبيب وكأنما بدأت حرباً لا تعرف كيف تنهيها، والأهم أن "الفرضية" السائدة في إسرائيل حول تحقيق "النصر المُطلق" أصبحت اليوم، ومع مرور 11 شهراً، محل شك. وذلك قياساً إلى الأهداف التي وضعتها إسرائيل في بداية الحرب ومدى تحققها بعد شهور من المعارك.
لا أرقام حول قدرات حماس العسكرية
نقطة الانطلاق في فهم أي حرب وما الذي يمكن أن تصل إليه هو قياس القدرات العسكرية لكل طرف، والحقيقة أن المقارنة بين القدرات العسكرية لإسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، التي تسيطر على قطاع غزة، توحي بنتائج أخرى للحرب غير التي نشهدها اليوم.
مذ بدأت إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها على غزة بشكلِ متواصل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدت تل أبيب كأنما بدأت حرباً لا تعرف كيف تنهيها، والأهم أن "الفرضية" السائدة في إسرائيل حول تحقيق "النصر المُطلق" أصبحت، اليوم، ومع مرور 11 شهراً، محل شك
الفرضية الكلاسيكية أن الجيش الإسرائيلي أقوى من حماس ما قد يعني أن النصر مضمون له، وهو ما يشبه تفكير الولايات المتحدة في بداية حرب فيتنام. في حينه، كانت التقديرات الأمريكية أنه بسبب التسليح المتطور للقوات الأمريكية، فلا شيء سيقف أمام انتصار الولايات المتحدة، ولكن في الواقع فإن الولايات المتحدة غرقت في وحل فيتنام بدون حسم.
في إسرائيل، وقع المسؤولون في الخطأ نفسه، بل بشكل مضاعف. فالتقديرات الإسرائيلية حول قدرات حماس العسكرية لم تكن دقيقة، وعند دخول الجيش الإسرائيلي إلى القطاع المحاصر منذ 18 عاماً، فوجئوا بكمية هائلة من السلاح والذخيرة، ما أتاح لمجموعات صغيرة مواصلة القتال كل هذه المدة. هذا فضلاً عن الأنفاق التي سهّلت المهمة لعناصر حماس.
لا تُتيح حماس أرقاماً حول أعداد مسلّحيها، بينما تشير تقديرات إلى أن العدد كان يراوح بين 30 و40 ألفاً لدى اندلاع الحرب. ووفق المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، فإن كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، كانت تعد ما بين 15 إلى 20 ألف مسلح، بينما يشير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى 15 ألفاً.
في المقابل، زعم الخبير العسكري والإستراتيجي الإسرائيلي، موشيه إلعاد، في تصريح لموقع الحرة، أن إسرائيل نجحت في القضاء على 22 كتيبة تابعة لحماس من أصل 25 موجودة في قطاع غزة، كما استطاع الجيش الإسرائيلي القضاء على 17 ألف عنصر من عناصر حماس والفصائل الأخرى في القطاع.
أهداف غير قابلة للتحقق
السؤال الملح هنا، وهو: لماذا لم تحقّق إسرائيل "النصر المطلق" على حماس؟يتعلّق بتفسير مفهوم النصر الذي وضعته إسرائيل أو بالأحرى وضعه رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وهو كما ذكر في الأيام الأولى للحرب: القضاء التام على حركة حماس، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وإنشاء حكم بديل لحماس القطاع، وليس سراً أن الثلاثة أهداف لم يتحقق أي منها حتى اليوم.
الأزمة التي تواجهها إسرائيل حيال تلك الأهداف هي أنها تتعارض بعضها مع بعض، فإذا أرادت إسرائيل هزيمة حماس وانهيارها، فيجب أن تستمر الحرب، وهذا سيأتي على حساب الهدف المتمثّل في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين عبر اتفاق أو "صفقة" من شأنه/ا وقف الحرب لتنفيذه/ا. وهي وجهة النظر التي عبّر عنها القائد العسكري السابق يتسحاق بريك في مقالة بصحيفة معاريف يشرح فيها لماذا لم تتحقق أهداف الحرب.
كتب بريك: "تبرير اليمين الإسرائيلي الذي دعا إلى استمرار الحرب حتى هزيمة حماس، هو أن وقف الحرب من أجل إطلاق سراح الأسرى سيطلق العنان لمحرقة أخرى على إسرائيل من قبل حماس لسنوات عديدة، على غرار ما حدث لنا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ووفقاً لهم، فإن عدد المدنيين الذين سيقتلون في المستقبل أكبر بكثير من عدد المختطفين الذين سننقذهم الآن. لذلك، يعتقد اليمين الإسرائيلي أنه تجب مواصلة محاربة حماس حتى النصر الكامل، ولو كان القتال على حساب تحرير الأسرى".
في مقال آخر في معاريف، كشف بريك أنه التقى نتنياهو 6 مرات منذ بداية الحرب على غزة، وتكوّن لديه انطباع أن نتنياهو يدرك جيداً استحالة القضاء على "حماس" بصورة قاطعة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا لم يمنعه من الإعلان من فوق المنابر أن إسرائيل ستواصل القتال حتى "النصر المطلق".
الفرضية الكلاسيكية أن الجيش الإسرائيلي أقوى من حماس ما قد يعني أن "النصر" مضمون له، تشبه تفكير الولايات المتحدة في بداية حرب فيتنام. آنذاك، كانت التقديرات الأمريكية أنه لن يوقف شيء انتصار واشنطن بفضل التسليح المتطور للقوات الأمريكية، لكنها غرقت في وحل فيتنام بدون حسم. وهو ما وقع فيه المسؤولون الإسرائيليون
تفويت الفرصة
إذا كانت حماس لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية، بعد مرور نحو 11 شهراً على الحرب، وما تزال تسيطر على قطاع غزة دون منازع، وهو ما يعني أنه حتى هذه اللحظة وعلى الرغم من الإنجازات التكتيكية للجيش الإسرائيلي، وعلى رأسها عمليات الاغتيال وعمليات التوغّل النوعية، فإن مسألة القضاء الكامل على حماس لم تتحقق.
وهناك تفسير آخر حول عدم تمكن إسرائيل من تحقيق النصر المُطلق، طرحه المحلل الإسرائيلي يوسي هدار، في مقالة في صحيفة معاريف، وهو ما وصفه بـ"تفويت فرصة ترجمة إنجازات الجيش الإسرائيلي إلى انتصار سياسي، وتغيير السلطة المدنية في القطاع"، وهو ما رأى أنه كان سيقضي على القوة العسكرية لحماس، أو على الأقل، سيُلحق بها ضرراً كبيراً، موضحاً أن مراوغة نتنياهو في الشهور الأولى من الحرب ورفضِهِ الحديث عن "اليوم التالي للحرب"، ورفضُه دخول ممثلين عن السلطة الفلسطينية إلى القطاع، وقوات عربية ودولية، وهو ما أدى إلى بقاء سلطة حماس.
من الأسباب الأخرى التي ساقها هدار هي إدارة نتنياهو للحرب في البداية بقوة كبيرة في شمال القطاع فقط، من دون رفح ومحور فيلادلفيا، حيث اعتبر ذلك من العوامل التي حرمت إسرائيل من تحقيق إنجاز أكبر كثيراً. كتب هدار: "يتعين على نتنياهو أن يفهم أنه إذا لم يحقق النصر خلال 10 أشهر، فإنه لن ينتصر قط".
الإجراءات العسكرية محل نقد
تفسيرات أخرى تتعلّق بعدم حسم إسرائيل الحرب مع حماس، عزت ذلك إلى التعقيدات اللوجستية في قطاع غزة بسبب الأنفاق، وطرحت فكرة أنه كان من الضروري أن تضرب إسرائيل بقوة وعنف أكبر. فبحسب معاريف، 80% من مئات الكيلومترات من أنفاق حماس لا تزال تحت سيطرة الحركة، ويصل عدد مقاتلي حماس إلى عشرات الآلاف، ولا يزال الكثير منهم مختبئين في الأنفاق ويتنكر كثيرون آخرون في زي مدنيين على الأرض.
ورأت "معاريف" أنه من أجل القضاء على حماس، كان على الجيش الإسرائيلي أن يهدم البنية التحتية الرئيسية للحركة، أي الأنفاق، موضحةً أنه لم يكن كافياً هدم العقارات والبنية التحتية القتالية لحماس فقط على الأرض، وأن الجيش الإسرائيلي لم يقم سوى بالقليل جداً تحت الأرض، من أجل هدم مئات الكيلومترات من الأنفاق في قطاع غزة وتحت محور فيلادلفيا ومحور نتساريم، وهو ما يعني أن الجيش الإسرائيلي عليه البقاء في القطاع لفترة طويلة بعد تدمير المنطقة.
وأوضحت "معاريف" أن الجيش الإسرائيلي لم يقم بإعداد التدابير المناسبة لهدم الأنفاق خلال السنوات الماضية، إذ كانت التقديرات تشير إلى عدم وجود حرب وشيكة أخرى على غزة بينما كان تركيز إسرائيل على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
اتفق مع هذه الفكرة، المحلل السياسي والعسكري غيورا آيلند، في مقالةٍ بصحيفة يديعوت أحرونوت، قال فيها إن إسرائيل عملت بقوة في الشهرين الأولين من الحرب، ونتيجة للضغط الأمريكي، فإن إسرائيل قلّلت - على حد وصفه - قوة العمليات، وذلك بعد أن ذكرت الإدارة الأمريكية أن إسرائيل "تقتل أكثر مما ينبغي من المدنيين في غزة".
وذكر آيلند أن التوقف بين مراحل الحرب في شمال القطاع وبين خانيونس، وبعد ذلك بين خانيونس ورفح، حال دون تحقيق النصر لأن التوقفات المتتالية لعمليات الجيش الإسرائيلي منحت حماس فرصة للنهوض مجدداً، على حد قوله.
وطرح آيلند فكرة أكثر تطرفاً حول أنه كان بإمكان إسرائيل أن تحقق نتائج أفضل عن طريق "الحصار" والسيطرة على حدود غزة مع مصر ومنع كل دخول لمؤن الطعام والوقود إلى غزة. وحسب وصفه، فإن السنوار لا يبالي بالقتلى، لكن لا يمكنه ألا يبالي بقطع الماء والمؤن، وزعم أن إستراتيجية كهذه كانت ستمكِّن إسرائيل من الانتصار في زمن قصير.
المعطيات الحالية تشير إلى أن حماس باقية على رأس السلطة في غزة، والسؤال المطروح بالنسبة لإسرائيل هنا: كيف يمكن أن تُعلن إسرائيل "الانتصار" في الحرب إذا ظلت حماس في السلطة في غزة؟
الحرب الطويلة
بدوره، رأى الرئيس السابق لمعهد الأمن القومي عاموس يادلين، في مقالٍ له، أن "النصر الكامل" الذي يعني استمرار الحرب في غزة، مع استمرار المواجهات الإقليمية التي تخوضها إسرائيل على عدة ساحات تنطوي على تهديدات لإسرائيل، أكبر جداً مما تبقّى لحركة حماس من قوة في القطاع.
وأضاف: "إن توزيع قواتنا (المحدودة العدد أصلاً) على المحورين (فيلادلفيا ونتساريم) لن يؤدي إلى القضاء على حماس في غزة، بل سيسفر عن حرب طويلة الأمد في صورة حرب عصابات في القطاع، وتصعيد متزامن في ساحات أُخرى. كما من الممكن أن يسفر ذلك موت الأسرى في أنفاق حماس، وقد تتورّط إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، ويستمر الاقتصاد الإسرائيلي في التدهور، وتنخفض مكانة إسرائيل في العالم إلى درك جديد، ويشتد وقع الملاحقة القضائية ضدنا في المحاكم الدولية".
وختم يادلين: "في الواقع، إن إستراتيجية 'النصر التام' تخدم الإستراتيجية الإيرانية التي تريد توريط إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، على عدة جبهات، وبصورة متزامنة، إلى أن تنهار".
بقاء حماس… هل يعني انتصارها؟
الاتجاه في إسرائيل والعالم الآن يميل إلى "ترك حماس في السلطة"، فالوسطاء في الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر، يدفعون نحو وقف إطلاق النار، وفي إسرائيل لم يعد الحديث عن بديل حماس بالكثافة نفسها مثلما كان في بداية الحرب، وهو ما يمكن فهمه في سياق أن وسطاء تخلّوا عن فكرة استبدال حماس، وأن إسرائيل على ما يبدو بصدد التخلّص من التركيز على هدف "القضاء على حماس" واستبدالها بكلمة "النصر المطلق" الفضفاضة بعض الشيء.
"إستراتيجية 'النصر التام' تخدم الإستراتيجية الإيرانية التي تريد توريط إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، على عدة جبهات، وبصورة متزامنة، إلى أن تنهار".
كما أن خطة وقف إطلاق النار الحالية، والمفاوضات حولها هي خطة لإبقاء حماس في السلطة، وبحسب تحليل صحيفة جيروزاليم بوست، فإن نتيجة هذا ستكون عودة حماس إلى إدارة معظم قطاع غزة في السنوات المقبلة، ومن المرجح أن تؤدي جهود إعادة الإعمار إلى تمكين حماس كما فعلت في الماضي.
تقول الصحيفة الإسرائيلية إنه ما لم يتم استبدال حماس بحكومة مختلفة في غزة، فإن حماس سوف تشارك بر مانحين في عملية إعادة الإعمار، وستكون لها يد في كل مبنى يتم إعادة بنائه. مبرزةً أنه في الماضي، قامت الحركة ببناء ممرات أنفاق تحت المباني، بما في ذلك أنفاق تحت المدارس والمراكز المجتمعية، وسيكون بمقدورها أيضاً وضع الأسلحة في المناطق المعاد بناؤها، وهو ما يعني فعلياً إعادة بناء قدرات حماس في غضون أعوام قليلة، على حد توقع "جيروزاليم بوست".
وبالنسبة لإسرائيل فإنه إذا سُمح لحماس بالبقاء فسوف تعلن النصر. والسؤال المطروح بالنسبة لإسرائيل هنا: كيف يمكن أن تُعلن الانتصار في الحرب إذا ظلت حماس في السلطة في غزة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...