شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مضار استنشاق أو تدخين مسحوق فيسبوك وخلافه

مضار استنشاق أو تدخين مسحوق فيسبوك وخلافه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأربعاء 28 أغسطس 202412:08 م

مثل أي عمل غير معروف النتائج مسبقاً، أو أي تصرّف غير خاضع لرقابة طبية أو اجتماعية مشدّدة، فإن التعاطي مع فيسبوك وأشباهه، له مضار تشبه في كثير منها مضار تدخين النيكوتين أو الحشيش. هذه المضار أو (الأعراض الجانبية) إن شئنا تخفيف التسمية بما يُبعد الشبهة عن المتعاطي ويركّز اللوم بدلاً من ذلك على فيسبوك نفسه، تتمظهر أيضاً على شكل تشوّهات جسدية متبوعة بتشوّهات نفسية أو عقلية، تؤثر على المتعاطي أولاً وقبل أي شيء أو شخص آخر، ثم تنسحب، في أوقات لاحقة، على المحيطين به من دائرة الأقارب والأصدقاء، والقرّاء أيضاً.

أول هذه الأضرار هو اتساخ الأصابع. فالتدخين كما هو معروف، يبدأ بمسك السيجارة بين السبابة والإصبع الوسطى، وعند اتساخ إصبعين من أصل عشرة، فإن المنطق الحسابي البسيط، أي منطق الأرقام في صيغتها الأولى، يصبح مختلّاً بطريقة تدعو إلى الشفقة.

هل تريدون مثالاً؟ إليكم التالي:

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختلف عاقلان، وبأصابع نظيفة وأدمغة صافية، حول أن رقم الأربعين ألفاً أكبر من رقم السبعمائة. فالرقم الأول يبدو للعيان أكبر من الرقم الثاني، ولو من باب أن الأول مكوّن من خمس خانات بينما الثاني مكوّن من ثلاث فقط. لكن مدخّني فيسبوك مصرّون على أن الرقم الأول عادي جداً، وهو ضريبة منطقية لأي حرب، بينما رقم السبعمائة يدلّل بما لا يدع مجالاً للشك على "الخازوق" الذي وقع عليه نتنياهو وحكومته، بل ودولته أيضاً، وأن هذا الرقم الكبير هو بداية النهاية له ولدولته. لا أحد من هؤلاء يمكنه أن يستمع لمؤشرات نهايتنا نحن، ولا أن يقف عندها لمراجعتها على الأقل.

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختلف عاقلان، حول أن الأربعين ألفاً أكبر من السبعمائة. لكن مدخّني فيسبوك مصرّون على أن الرقم الأول عادي جداً، وهو ضريبة منطقية لأي حرب، بينما السبعمائة يدلّل بما لا يدع مجالاً للشك على "الخازوق" الذي وقع عليه نتنياهو وحكومته

على النقيض من هذه المراجعة المطلوبة، فإن المتعاطي يتهمك بتثبيط المعنويات إن حاولت، مجرّد محاولة، خلخلة بعض المفاهيم المتعلّقة بالأرقام البسيطة. قل له مثلاً إن الضحايا في غزة المنكوبة لا يجوز أن نتعامل معهم كـ "ثمن" لأي شيء، وسوف يردّ عليك بأسطوانة تثبيط المعنويات. جرّب أن تسأله عن أي معنويات يتحدّث، وستكتشف بعد نقاش طويل أن الحديث يدور حول معنوياته هو وليس معنويات المقاتلين ولا معنويات الضحايا.

معنويات هذا المتعاطي أهم من الدخول في نقاش وطني حول أهداف الشعب الفلسطيني والطرق المناسبة لتحقيقها بأقل التكاليف. والأهم من ذلك، أن المتعاطي نفسه لا يقدّم حصته من هذا الثمن الذي ينادي به، أو على الأقل لا يسمح لأحد بالحديث عنه، خاصة وأنه يتعلق بأرواح أبناء شعبنا الفلسطيني الواحد، أو المفترض أن يكون واحداً، وليس عدّة شعوب فلسطينية، أحدها يدفع هذا الثمن الكبير والصعب، والآخرون يحرصون على معنوياتهم، على مدار ما يقارب السنة من نكبته وقتله وتشريده.

لكل ذلك، فإن اتساخ الأصابع كأحد الأضرار الأولى للتدخين لا تقتصر نتائجه على العمليات الحسابية، بل يتعدّى ذلك إلى إنتاج أفكار وسخة عن تحريم أي نقاش أو مراجعة يمكنها أن تخلخل قناعاته، أو تثبّط معنوياته البطولية خلف الكيبورد أو في المقهى.

الضرر الثاني للتدخين هو التسطيل، ومن ثم إنتاج أفكار متضاربة، بل ومتناقضة، في كثير من المواقف والمحكّات، وحول أحداث متشابهة تماماً، وفي بعض الحالات تتعدّى هذه الأفكار، أو تتجاوز، التناقض لتدخل في خانة اللاأخلاقية.

هل فكّر أحد بما يكتبه بعض المتثاقفين ومستجدّي الوطنية، وما يروجونه من مديح يومي لحكمة إيران أو حزب الله في توخّي الحذر في الردود على انتهاكات إسرائيل لأراضيهما. هل ترون كمية التبرير، بل والمديح لكل خطوة يتخذها أحد الجيران الممانعين، تحت يافطة تغليب مصلحة الشعب السوري أو اللبناني أو الإيراني، وتجنيبه بطش الآلة العسكرية الإسرائيلية المجرمة أو الآلة العسكرية الأمريكية الجاهزة في المنطقة؟ أما عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بتغليب مصلحة الشعب الفلسطيني وتجنيبه القتل والتهجير، فإن ذلك يدخل فوراً تحت بند التخاذل والوقوف في صف الأعداء، وكأن دم الفلسطينيين هو الدم الرخيص الذي يُمنع الكلام حوله أو التفكير بمحاولة حقنه.
لا أملك بالطبع وصفة جاهزة لكيفية حقن هذا الدم، ولا أدّعي قدرات ليست لي، أو برنامجاً محكماً وفعّالاً لذلك، خاصة مع وجود حكومة إسرائيلية تعتاش على الدم والحروب، لكنني أعلم أنه، وبمعزل عن أهداف عدونا ونواياه، علينا أن نجترع البديل الذي يجنبنا ما ينويه لنا، لا أن ننساق مع مخططاته ونسهّل له المهمة أو نمهّد له الطريق للقيام بما يرغب.

عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بتغليب مصلحة الشعب الفلسطيني وتجنيبه القتل والتهجير، فإن ذلك يدخل فوراً تحت بند التخاذل والوقوف في صف الأعداء، وكأن دم الفلسطينيين هو الدم الرخيص الذي يُمنع الكلام حوله أو التفكير بمحاولة حقنه

التسطيل، كضرر فادح لهذا التعاطي، يُنتج أيضاً خطاباً لا يمكن فهمه حول الحكمة القديمة، والتي مفادها أنك لا تستطيع أن تكرّر الشيء ذاته مرّتين، وبنفس المعطيات، ثم تنتظر نتائج مختلفة. الفكرة بسيطة جداً في هذا السياق، لكن التسطيل شديد في التعاطي معها، بحيث يقف المرء حائراً، بل ومصدوماً، من هؤلاء المتحمّسين لكل شيء إلا مصلحة شعبهم وقضيته.

كلنا كفلسطينيين، وأعني هنا الكُتّاب والمحللين والمقاتلين في الميدان وقادة الفصائل، والسلطة وحماس، كلنا بمعنى الكلمة نحاول، ونخاطب العالم الحر وغير الحر، الصديق منه والعدو، ونتوسّل الجميع أن يساعدوا في لجم هذه الدولة المجرمة وهذا العدوان الفاشي، وأن يوقفوا الحرب على شعبنا في غزة. لا أحد يطالب باستمرار هذه الوحشية وهذا القتل لشعبنا بكل أنواع الأسلحة. لا مجنون بين الفلسطينيين قال، حتى الآن، إنه مع استمرار هذا الذي يجري بحق أطفالنا وشيوخنا ونسائنا في قطاع غزة. الجميع يريد إيقاف الحرب لما تسببت به من معاناة وتهجير وأوبئة وجوع.
لكن المتعاطي ذاته، والذي يطالب بإيقاف الحرب على غزة، يطالب في نفس الوقت بإشعالها في الضفة الغربية. لا يمكن بالطبع تبرير هذا المنطق إلا بلغة التسطيل ذاتها؛ اللغة غير المترابطة والتي تتعاطى مع الأحداث كل على حدة. فهذه اللغة وهذا المنطق لا يعنيهما لا التراكم ولا التجربة، بل تعنيهما معنويات صاحبهما الشخصية، ويا ويلك لو قمت بما يتسبّب له بتثبيطها في اللحظات المصيرية من جلوسه خلف اللابتوب، أو على طاولة المقهى، مع مساطيل آخرين مثله.
إن قلتَ له علينا أن نجلس ونفكّر بالوسيلة الأسلم للنضال، أو حتى الهدوء المؤقت، أو أية طريقة نتفق عليها سوياً بما يضع حداً لشهوة إسرائيل في اقتلاعنا، فأنت من المتخاذلين. إن سألته فيما لو كان وقف إطلاق النار الذي يتم التفاوض عليه في القاهرة أو الدوحة يشمل الضفة الغربية أم هو خاص بغزة فقط، فأنت من الذباب الإلكتروني المعادي... وهكذا، أو لآخره، ما يسرّع من آخرتنا نحن، إن بقينا على هذه الحالة من التنافر والدفاع عن المصالح الضيقة والمعنويات الشخصية، في مقابل وعلى حساب مصلحة شعبنا وقضيتنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image