شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الهنود لم يبيعوا الأرض ولا الفلسطينيون... ما أشبه غزة بالجنوب الأمريكي

الهنود لم يبيعوا الأرض ولا الفلسطينيون... ما أشبه غزة بالجنوب الأمريكي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات العامة

الخميس 25 يناير 202401:39 م

قبل تأسيس إسرائيل، رسّخ آباؤها الأوروبيون أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ومع تشكّل الملامح الأولى للمشروع، واتجاه المستثمرين الصهاينة إلى فلسطين، أسس الإرهابيون الأوائل أكذوبة بيع الفلسطينيين أرضهم لليهود، طمعاً في المال. وأرجّح أن هؤلاء وهؤلاء، الآباء في أسطورتهم والإرهابيين في أكذوبتهم، استوعبوا التاريخ الأمريكي جيداً، قبل إعلان قيام الولايات المتحدة، وبعد التأسيس.

ومن هذا التشابه، في البدايات والمصائر والسياسات، يأتي الدعم الأمريكي المطلق لممارسات إسرائيل الإرهابية، ولا يرتبط الدعم المبدئي بحزب أو رئيس، بل ينطلق من الأفكار المؤسسة لكلتا الدولتين، أفكار تتخذ غطاءً دينياً، منذ غزو كولومبس تحت راية الكتاب المقدس، وصولاً إلى ممثلي تيار المسيحية الصهيونية.

كلتا الدولتين تنتهج سياسة التوسع، وليست فلسطين وحدها هي أرض الميعاد الأسطورية، ففي المناهج الدراسية يحلُمون بالفرات ويتوعدون مصر بالثأر. وفي نيسان/أبريل 2016 اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، للمرة الأولى، في الجولان، وقال بنيامين نتنياهو لمجلس وزرائه: "ستبقى مرتفعات الجولان تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد".

وفي آذار/مارس 2017، أعلن مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي عن بناء أول مستوطنة، منذ عشرين عاماً، في الضفة الغربية المحتلة. كلا التصريحين مهين، صفعة تتحدى وهماً مزمناً اسمه "حل الدولتين" يراهن عليه القادة العرب كلما اجتمعوا، وفي قمة القاهرة عجزوا عن إدخال شاحنات الدواء والغذاء إلى قطاع غزة المحاصر، في تحدّيه البطولي للإبادة، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ما أشبه غزة بالجنوب الأمريكي، في هذا القطاع يتكدس 2.3 مليون فلسطيني، محاصرين تماماً، وما يميزهم مأساتهم عما جرى للهنود الحمر أن العالم يرصد الإبادة، وتُوثَّق على الفور بالصوت والصورة، ولا يسمح الضمير الإنساني بهذه الجريمة التي يجب ألا تمرّ من دون محاسبة وعقاب

وفي كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" يورد المؤرخ الأمريكي هوارد زِن (1922 ـ 2010) طرفاٌ من المسكوت عنه، من جرائم تجعل أمريكا مسرحاً لأول وأكبر هولوكوست في التاريخ. الكتاب الذي ترجمه، في مجلدين، المترجم المصري الدكتور شعبان مكاوي (1963 ـ 2005) هو الأصل، النيجاتيف الحقيقي، لصور مطبوعة تم تزييفها وتعميمها، ولذلك واجه المؤلف اتهامات بالشيوعية وغيرها من مواريث زمن الإرهاب المكارثي، فلا يزعج القوة العظمى سوى الحقيقة، ومنذ البدء اعتبروا السكان الأصليين هم الأجانب، ويذكر مايكل روجين في كتابه "آباء وأبناء" أن عدد الهنود الحمر شرقي الميسيسيبي، عام 1820، كان 120 ألفاً. وبحلول 1844 بقي منهم أقل من 30 ألفاً.

كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"

وبعد أن ضاعف الرئيس توماس جيفرسون حجم الدولة، بشراء منطقة لويزيانا من فرنسا عام 1803، تم تشجيع الهنود على التجارة مع البيض، بإقراضهم أموالاً يردونها بالتنازل عن قطع من أرضهم. وفي عام 1790، كان عدد الأمريكيين 3.9 مليون، ويعيشون في نطاق خمسين ميلاً من المحيط الأطلسي. وفي عام 1830 أصبح عددهم 13 مليوناً، وتوغلوا في العمق.

وقبل توليه الرئاسة كان أندرو جاكسون تاجراً ومقتنيا للعبيد، "وأكثر أعداء الهنود عدوانية في بداية التاريخ الأمريكي"، كان بطلاً في الحرب ضد الإنجليز عام 1812، كما تقول الكتب المدرسية التي تتجاهل أنها "حرب توسّع للأمة الوليدة... وكان جاكسون يشجع المحتلين البيض على دخول الأراضي الهندية ثم يقول للهنود بأن الحكومة لا تستطيع إزاحة هؤلاء وأنه من الأفضل لهم التنازل عن هذه الأراضي وإلا أزيحوا هم منها".

هل كان الأمريكان دعاة تحرر؟ يجيب هوارد زِن بالنفي، وكان العبيد السود يهربون إلى قرى الهنود، وكانت للعبيد قراهم، وينال أبناؤهم الحرية، كما عاشوا في قرى مختلطة مع السكان الأصليين، وهذا الاختلاط أزعج ملاك العبيد الذين رأوا في ذلك "فتنة لعبيدهم الذين ينشدون الحرية"، وقام جاكسون بغارات على فلوريدا، ملاذ الهنود والعبيد الهاربين، واستطاع ضمّها إلى الولايات المتحدة، وهذه عملية تسجل في الكتب المدرسية بعنوان "مهذب هو شراء فلوريدا 1819 إلا أن فلوريدا لم تُشتر بل أتت عن طريق الحملة العسكرية التي قام بها جاكسون والتي قامت بحرق قرى الهنود السيمينول وحصار الحصون الإسبانية حتى اقتنعت إسبانيا بأن تبيع فلوريدا".

ماذا يجمع هنود تمسكوا بالبقاء والفلسطينيين منذ اتفاقية أوسلو 1993؟ وجه الشبه هو الثقة بالطرف الآخر، الأمريكي الإسرائيلي. 

جاكسون، في كتب التاريخ التي يدرسها الطلاب الأمريكيون، هو المحارب والرائد الديمقراطي، وليس مالك الأراضي، مقتني العبيد، "وجلاد الجنود المتذمرين ومبيد الهنود". تولى الرئاسة عام 1829 فأقر مشروع إزاحة الهنود، وأجبر 70 ألفاً شرقي الميسيسيبي على الرحيل غرباً. وبعد أسر الزعيم الهندي "الصقر الأسود" ألقى خطاب الاستسلام، وأدان جشع الرجل الأبيض: "لا يملك البيض إلا الشعور بالخجل مما اقترفته أيديهم... الهنود لا يعرفون الغش أو الخداع... لا يكذبون ولا يسرقون، والهندي الذي يكون سيئا سوء البيض لا يستطيع أن يعيش بين أمتنا... أصحاب البشرة البيضاء لا يسلخون فروة الرأس، لكنهم يفعلون ما هو أسوأ؛ إنهم يسمّمون القلوب.. الوداع يا أمتي".

أعيد قراءة كتاب هوارد زِن، خصوصاً الجزء الأول، لأتأمل مأساة تتكرر في فلسطين فصولها، وتتفوق على أخيلة كتاب الملاحم، إلا أن الأشرار الأمريكان انتصروا، وصاغوا تاريخاً يمجّدهم، وتجاهلوا من يجب إنصافهم، ففي الحقبة الجاكسونية استولى "الغزاة البيض على الأرض... وأجبروا الهنود على توقيع عقود لهم، وضربوا من اعترض على ذلك، وباعوا الخمور للهنود كي يوهنوا مقاومتهم، وقتلوا الطيور والحيوانات" التي يعتمد عليها الهنود.

ردّاً على سياسة جاكسون "الخاصة بإزالة الهنود"، قال هندي يدعى "الثعبان المنقط"، وكان عمره أكبر من مئة عام: "إخوتي! لقد استمعت إلى أحاديث كثيرة لأبينا العظيم. عندما جاء عبر البحار الواسعة، كان رجلاً قليل الجسم... كانت قدماه متشنجتين لطول جلسته في قاربه الكبير، فتوسل إلى الهنود كي يعطوه قطعة أرض صغيرة يوقد عليها ناره... لكنه عندما سرى الدفء المنبعث من نار الهنود في أوصاله وامتلأ جوفه بطعامهم، صار كبير الحجم. وبخطوة واحدة أحاط برجليه الجبال وغطت قدماه السهول والوديان، أما يداه فقد أحاطتا بالبحار الشرقية والغربية، واستراح رأسه على القمر. ثم أصبح هو نفسه أبانا العظيم. أحب أبناءه الحمر وقال لهم: "ابعدوا عني قليلاً! إني أخشى أن تدهسكم قدماي". يا إخوتي! لقد استمعت إلى أحاديث كثيرة من أبينا العظيم، لكنها دائماً كانت تبدأ وتنتهي بهذه العبارة: ابعدوا عني قليلاً".

ما أشبه غزة بالجنوب الأمريكي، في هذا القطاع يتكدس 2.3 مليون فلسطيني، محاصرين تماماً، وما يميزهم مأساتهم عما جرى للهنود الحمر أن العالم يرصد الإبادة، وتُوثَّق على الفور بالصوت والصورة، ولا يسمح الضمير الإنساني بهذه الجريمة التي يجب ألا تمرّ من دون محاسبة وعقاب. وكان اليهود قد رحبوا بالمبشرين، واعتنقوا المسيحية، لكن أرض الهنود ظلت هدف الغزاة، وصدر قانون الإزاحة الذي عارضه، من نيوجيرسي السيناتور تيودور فريلنجهايزن، وقال مخاطباً مجلس الشيوخ: "لقد كوّمنا القبائل بعضها فوق بعض داخل عدة مناطق بائسة من جبهتنا الجنوبية، وهذا هو كل ما بقي لهم من أرضهم التي كانت يوماً بغير حدود، ولا يزال جشعنا الذي لا يشبع يصرخ: المزيد! المزيد!... يا سيدي... هل تتغير موازين العدل وفقاً للون البشرة؟".

وبإخلاء أرض الهنود، اندفع إليها البيض، بمن "فيهم تجار الخمور والمهربون"، وأصدرت ولاية نيوجيرسي قانون تجريم أي محاولة للهنود "بإقناع بعضهم البعض برفض قرار الإزاحة"، وفي نهاية عام 1831، سار 13 ألفاً، "تحت أعين الحراس والمقاولين، إلى وجهة مجهولة نائية، كأنهم قطيع من الغنم"، على عربات تجرها الثيران، وعلى الأقدام، "نحو الغرب يخوضون الأنهار والغابات ويرتقون التلال في كفاحهم الزاحف من أرضهم المورقة الغنية إلى أرض الغرب القاحلة". وبإعادة انتخاب جاكسون عام 1832، عجّل بإزاحة الهنود، فغادر معظم الهنود غرباً، وآثر البقاء اثنان وعشرون ألفاً من هنود الكريك في آلاباما، وثمانية عشر ألفاً من الشيروكي في جورجيا، وخمسة آلاف من السيمينول في فلوريدا.

إذا انعدم التكافؤ، وتنازل أصحاب الحق عما يمتلكونه من أوراق للقوة، تتحول المعاهدات إلى عملية تفاوض، ثم تفاوض جديد من أجل تعديل التفاوض السابق، والتعلل بحاجة المستوطنين المسلحين بالضرورة إلى بناء مستوطنات برعاية الحكومة، وترك العزل، من هنود وفلسطينيين

ماذا يجمع هنود تمسكوا بالبقاء والفلسطينيين منذ اتفاقية أوسلو 1993؟ وجه الشبه هو الثقة بالطرف الآخر، الأمريكي الإسرائيلي. في عام 1832 كان هنود الكريك قد أصبحوا قلة، واستناداً إلى وعود من الحكومة الفيدرالية، وقعوا معاهدة واشنطن، وتنازلوا عن خمسة ملايين آكر (4.8 مليون فدان)، على أن تظل مساحة مليوني آكر تحت أيديهم ويحق لهم بيعها أو البقاء في آلاباما تحت الحماية الفيدرالية. ويقول ديل فان إيفري في كتابه "المحرومون من الميراث" عن هذه الاتفاقية: لم يسجل تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الهنود وذوي البشرة البيضاء حالة واحدة لمعاهدة التزم بها أصحاب البشرة البيضاء حتى عام 1832... مهما زينت هذه المعاهدة كلمات من قبيل "دائمة" و"أبدية" و"طوال الزمان" و"طالما أشرقت شمس"... بيد أنه لم يتم نقض معاهدة بالسرعة التي حدثت مع معاهدة 1832، إذ تكسرت في خلال أيام الوعود التي أخذتها الولايات المتحدة على عاتقها.

فسرعان ما اقتحموا أراضي الكريك، "وراح النهابون والسفاحون وقطاع الطرق والباحثون عن الأرض وبائعو الخمور يطاردون الهنود من بيوتهم إلى المستنقعات والغابات، ولم تحرك الحكومة الفيدرالية ساكناً"، وبدأت الحكومة تتفاوض من أجل التوصل إلى معاهدة جديدة توجب النزوح الفوري إلى الغرب، والجيش شنّ حملات عليهم، لدفعهم "إلى مراكز للتجمع"، تمهيداً لإجلائهم، ولم يتم تعويضهم عن أرض أو ممتلكات.

إذا انعدم التكافؤ، وتنازل أصحاب الحق عما يمتلكونه من أوراق للقوة، تتحول المعاهدات إلى عملية تفاوض، ثم تفاوض جديد من أجل تعديل التفاوض السابق، والتعلل بحاجة المستوطنين المسلحين بالضرورة إلى بناء مستوطنات برعاية الحكومة، وترك العزل، من هنود وفلسطينيين، في مواجهة المستعمرين، فما أشبه الليلة الفلسطينية بالبارحة الهندية.

قبل الهولوكوست النازي كان الهولوكوست الأمريكي، بشكل فردي يجعل حرق الزنوج حتى الموت عقوبة قانونية. وبعد النازي، بشكل جماعي، في محارق ضحاياها مدافعون عن بلادهم في فيتنام وغيرها. وهذا حديث يلزمه استراحة للكاتب وللقارئ معاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image