شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل الحبّ هو ورقة التين الأخيرة؟

هل الحبّ هو ورقة التين الأخيرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الخميس 14 سبتمبر 202302:11 م

يكاد لا يخلو أيّ عالم متخيّل يبنيه الرّوائي من سؤال الحبّ، في تكشّفه انعكاساً لواقع معيش أو غرائبيّاً أو تعبيراً عن هواجس وتأملات تستشرف المستقبل. بل الأجمل أن نقول إنّ السرد لا يحلو بغير حكايات الحبّ. لكن، ماذا لو كان ثمة محاولات لوأد هذه الغريزة، وتغيير للهندسة الوراثية؟ وتنبت أسئلة أخرى عن مآل البشر لدى استشراء غريزة الخوف؛ فأين مكان الحبّ في قلوب مرتعبة؟ وإلى أي مدى يرتفع عن مستوى النزوع الفطري، في تحرّيه الانتقال إلى مستوى الإرادة المقاوِمة؟ إذ نخال الإنسان يقول: أنا جدير بالحبّ لكي أحيا.

بعض الروايات خليق بأن يُقرأ مجتمعاً؛ فلعناوينها أكثر من علاقة. أو ربما يكون بعضنا مصاباً "بمتلازمة المقارَنة"! مقدّمة أمهّد بها إلى روايات ثلاث تحمل في عناوينها أرقاماً تبدو اختزاليّة، غير أنّ قرّاءها يعلمون جيداً أنها مكتنزة بالدلالات. أعني بها: "67" لصنع الله إبراهيم، و"2067" لسعد القرش، و"1984" لجورج أورويل. أضيف إليها، ليكتمل المشهد، عَملين/عالمين، هما: "مدن السور" لهالة البدري، و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي.

عوالم ديستوبية: حين تختزل التواريخ مصائر أمم

على شاكلة "بعض" الأولى، فإنّ بعض التواريخ انعطافات لا تكثّف ماضي شعب فحسب، بل ترسم طريقه إلى تاريخ تعاد كتابته. بين روايتي "67" (2017) و"2067" (2022) قرن من الأحداث والمعاهدات والنضالات والخيانات وصعود دكتاتوريات وسقوطها، حدّدها عام النكسة، نكسة حزيران/يونيو العربية في 1967. زمن الأحداث المتخيّل في رواية القرش هو عام 2067 في استشراف لزمن آتٍ يتأمل ثورة يناير 2011، ويستعيد ثورة يوليو 1952، مروراً بمآسي وباء كورونا 2019.

بعض الروايات خليق بأن يُقرأ مجتمعاً؛ فلعناوينها أكثر من علاقة.  روايات كـ:"67" لصنع الله إبراهيم، و"2067" لسعد القرش، و"1984" لجورج أورويل، و"مدن السور" لهالة البدري، و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي

في الروايات الخمس لم يختزل الإنسان ظاهريّاً إلى رقم أو حرف، لكنّه قزّم على أيّ حال، وشُيّئ، وفي المجموع بات البشر أرقاماً. فهو شخص بغير اسم في رواية "67" ممثلاً بشخصية الصحفي ذاتيّ الحكي، يعيش في اليوميّة، في زمن فارغ مُقلق. وهو هدف دائم الاحتمال للآليين وذباب الكام وقادة "الكيان"، في رواية "2067". وإنسان أورويل يتحكّم به الأخ الكبير، يحاصره بصوره العملاقة وشاشات التليسكرين وبشرطة الأفكار أينما اتجه، حتى في سريره. ومدن السور تضمّ الفوقيين الطاردين للتحتيّين/ سكان القاهرة القديمة.

يبقون عليهم خارج أسوارهم مراقَبين فاقدي الخصوصيّة، ليظهر ناس القبو منقّبين في تاريخ القاهرة المطموس، والباحثين في أسباب الانتحار الجماعي. أما عالم هكسلي الشجاع فهو عالم يوتوبيا مزعومة، مؤسّس على هندسة بيولوجية مخالفة للطبيعة، يقصي من يعاند منظومته، ويبقي في محميات طبيعيّة مجموعات بدائية. لينتهي حارس الإنسانية الأخير منتحراً. كيف إذاً، في هذه الفضاءات الموبوءة والقامعة ينبت الحب وتنمو العلاقات؟

زمن الانكسار: شبقية جنسية في "67"

صحفيّ وأخوه وزوجة أخيه شخصيات منزوعة الأسماء والتاريخ. إنما شخصيات أخرى تدور في مدارها، حظيت بأسماء معلومة. وبحضور الجنس الطاغي يمكننا تصوّره شخصية مهيمنة على الصحفي. ليس باستطاعتنا الإفلات من قلق الحركة في لهاث مستعر تؤكّده الجمل القصيرة كوقع المطارق، أو كدبيب الأقدام على الورق. فالتحرّك الموتور للصحفي يعكس أوضاعاً مضطربة في الفضاء العام. وهو ليس إلا تجسيد لفراغ وإفراغ طاقة لا تلوي على شيء.

يوهمنا، بتواتر حركته، بأنّ دافعه الجنس في مطاردته أجساداً أنثويّة في غير مكان طلباً لما يشبه المتعة اللحظيّة. أو الخشية من افتضاح خيانته مع زوجة أخيه في جنس شبقي لا يرقى إلى إدراجه في خانة "علاقة حب". تأمّلنا هذا السعي الجنسي المحموم يقودنا إلى ملاحظة توازيه مع مطارديه، في حركة هروبيّة مضادّة، في أمرين يؤسّسان لديمومته: الكتابة والرجولة؟ فأجواء الرواية وفق طريقة الروائي في كتابة "البلاغات اليومية": تحرّشات، خيانات، رغبات في الزواج تقمعها الحالة المضطربة، اعتقالات، حرب تقع، بيانات، انتظارات، هزيمة، لا شيء جديد، ولا أحد يعرف.

في الروايات الخمس لم يختزل الإنسان ظاهريّاً إلى رقم أو حرف، لكنّه قزّم على أيّ حال، وشُيّئ، وفي المجموع بات البشر أرقاماً. 

أكتفي بتنضيد جمل تسعف في فهم أسباب أزمة فقدان الحب رغم صخب الجنس، وهو بدوره مأزوم في لا أخلاقيته. تقول إنصاف في المفتتح والختام السرديّين: "ألا يكفي أنهم قتلوه بعد تعذيبه؟ هذه قصة حياتها فقد قضتها جالسة تشهد الآخرين وهم يذهبون إلى السجن أو الخارج أو الحياة الأخرى". ويقول الصحفي لأخيه: "إننا جميعاً نعيش بين أقارب وأصدقاء وأحباء دون أن نعرف أنهم يمكن أن يبيعونا بسهولة. وقال أخي إنه لا يصدّق أنّ هذا يمكن أن يحدث".

كما يُخبر: "جذبت حقيبتي. وأخذت كرّاستي وألقيت بها في الحقيبة. لا أعرف مكاناً أذهب إليه. وفي وسعهم أن يصلوا إليّ في أي مكان. فكرت وأنا أتحرك فوقها [زوجة أخيه] في أن أنقل كراستي إلى الحقيبة الأصغر لأنها أحكم إغلاقاً من الأخرى". كأننا به يقتنص لحظات أخيرة قبل قفزة ما في المجهول باستخدام جلّ ما يملك: "قلمه" بدلالتيه. لكنّ الطفلة نهاد-ابنة أخيه- تشهد وتدين وتحاسب، في استعارة لإدانة المستقبل هذا الحاضر الذي سيصير ماضياً.

في مدينة تختنق: ثلاث نسخ من كنبة حمراء

ينمو الحبّ في "2067" على هامش الأزمات الشخصيّة والعامّة، يتغذّى منها ليحتلّ المركز ويعلن عن حضوره بعد غياب. الحركة في القاهرة تسير في خطين، المشترك بينهما وطأة الحاكميّات لسلطة غاشمة مهيمنة بوسائط تكنولوجية شتى، وسلطة تقاليد تحتكم إليها الشخصيات، مهما أبدت من ثوريّة في بعض سلوكياتها - خصوصاً أنّ الثورات تقام على أفكار تغييريّة- على غرار ما تبديه الشخصيتان العاشقتان سونهام ورشيد. يفتقد كلّ منهما السويّة والحبّ في علاقته الزوجيّة مع الشريك؛ وحين أفصح رشيد عن تمنّيه الزواج منها، في إشارة إلى ضرورة طلاقها، استنكرت ثائرة ومفاخرة بنسبها إلى أشراف الصعيد، ومذكّرة بمكانة زوجها، في تلميح بيّن إلى التفاوت الطبقي. على أن تبقى علاقتها برشيد في مستوى النزوة والحاجة المتبادلة. بالمقابل، طلب الزواج يعني زواجه من امرأة أخرى من دون الإشارة إلى طلاقه من زوجته الأولى.

إن دلّ سير الجديد والقديم جنباً إلى جنب على أمر، فهو يدلّ على مجتمع في مرحلة مخاض لولادة تطمح إلى الانقلاب على وضع قائم، باستعادة الصوت والكلام والخصوبة "فخر المصريين عبر التاريخ"، وذاكرة الأمكنة بأسمائها وتاريخها، ومجد ثورة غيّب مشروعها. فما جمع رشيد وسونهام انتماؤهما إلى جيل ما بعد ثورة كانون الثاني/يناير، جيل الأبناء وارثي الخيبة والنقمة.

يشتركان في اليُتم والفقد، ويلتقيان في خفة الروح وسط هواء القاهرة الخانق؛ فلا تكفيهما "بارات أوكسجين" يرتادها الهاربون من الضغطة والتلوّث. كأنما رشيد امتداد لأمّه، ولعلّه وجد في سونهام صورة عنها، وهي بدورها عثرت معه على حرارة عاطفة مفقودة، ونُبل ينكفئ في التعاملات الاجتماعية. أوجدا صيغة بَينيّة للعيش، وعالماً أحمر بديلاً يتجاور مع ما يعترف به المجتمع، في ردّ على الرماديّة وما تمثّله المؤسسات جميعها من روتين البلادة. فقد وزّعت سونهام على ثلاثة أمكنة كنبة/سرير حمراء للقاء الحميم مع رشيد: في مكتبه، وفي منزلها، وفي "متحف أنتيكا" الذي افتتحته. والكنبة الحمراء ما هي إلا رحم، هذا الحضن الكبير رمز الحب والأم والوطن والثورة جميعاً.

عالم بلا حبّ وبلا خصوصيّة

في "2067" بحث في ماضي مصر القريب، بينما في "مدن السور" سعي لاستعادة تاريخ مغرق في القدم. وفي كلتيهما مقاومة للمحو ولتفكيك الصلات بين الأجيال؛ إذ تقدمان تصوّراً عن مصر في الزمن الآتي. فهي تعاني من تراجع الخصوبة، ومن تحديد النسل بتحريم الطفل الثاني للعائلة، ومن التعديل الوراثي، ومن اختفاء الأعضاء التناسليّة. وما يعنينا في هذا المقام هو الإنسان في علاقته بقلبه. لم يفقد سكان القاهرة خارج السور الحب، غير أنّ لارتباط الحبيبين شروطاً قاسية وموافقة مسبقة من هيئة "منظمة القبو".

في ظل غياب الخصوصية، حتى في العلاقة الحميمة داخل "بوتقة"، وفي بيوت من زجاج، تتحسّر ميرا على حبّ حقيقي خالص عاشه الأجداد. تتمسّك بتراث البشريّة ولا تفتأ تستعيد سِيَر الأوّلين في حبّهم؛ وتقول إنّ الحبّ يأتي من السماء، ويقهر القدر. أما آدم فيختبر معها انفعالات لم تتفتّح في مسامه مع أي برنامج مصطَنع يُستخدم للانتشاء، مؤكّداً أنّ تجربة الحبّ هذه تستحق التضحية بوقته. هو عالم مستقبَلي يذكّرنا بمنظومة هكسلي. بالرغم من الحبّ، يُباعَد بين الحبيبين خدمةً لأهداف البحث العلمي. وبإذعانهما للقرار تضحية بالقلب من طريق "التسامي" لمصلحة الجماعة. لا فرق إذاً بين السلطات؛ فجميعها تهمّش الحبّ.

وفي عالم هكسلي صراع بين فكرتين، تنتمي الأولى إلى عالم جديد مكيّف وفق الاعتقاد بالسعادة غايةً مثلى، بتأمين الرفاهية للبشر، وفكرة قديمة يحملها جون الهمجي المتأثر بدراما شكسبير، الكتاب الوحيد المتبقي بعد إخفاء كل ما يمتّ بصلة ثقافية لزمن ما قبل فورد، ترى أنّ في حياتنا هدفاً أعلى مما يعرفه الناس، وهي تطهير الشعور وتوسيع المدارك. لذا يؤكد جون أهمية اختبار المشاعر المتناقضة، ومنها المعاناة في الحب.

وكذا كان وضع برنارد؛ فقد انتبه إلى ما يعيب المنظومة، ليقف وحيداً في وجهها، متقبّلا عقابه بالعزل، منتشياً بفرادته. يردّد أمام لينينا بأنّه يريد أن يعرف معنى أن يحبّ المرء بشغف، فيجرّب الأحاسيس القويّة، متمنّياً لو يتحرّر من قيود أخضعه لها التكييف طوال حياته. وما يراه قيوداً تجده المنظومة ضرورة لجعل حياة أفراد مجتمعها ميسّرة في المستوى العاطفي. ولحمايتهم من امتلاك أيّ نوع من أنواع العواطف، أوجدت عقار "السوما" بغية سعادة مصطنعة.

في هذه العوالم الديستوبية يتكشف لنا الصراع في صورته الأعمّ والأشمل للفطرة في وجه الثقافة على اختلاف إيدويلوجيّاتها

لا شكّ أنّ عالم أورويل أكثر فظاعة على الإطلاق. إذ يمسك بالماضي والحاضر والمستقبل، بإمعانه في بتر الجذور الإنسانية، من لغة وذاكرة وأفكار وفردانية وتماسك أسري؛ بحيث إنّ الطفل واجب الإنتاج لأجل المجتمع وخدمة للحزب، وليس وليد علاقة حبّ. هدف الحزب الشمولي ليس منع تشكيل النساء والرجال لواءات غير قابلة للسيطرة عليها، بل تجريد الفعل الجنسي من أيّ متعة. الحب والشهوانيّة كلاهما عدو الحزب. فلا بأس بالدعارة كمتنفّس للغرائز؛ فهو مختلس لا متعة فيه، في محاولة منه لتشويه غريزة الجنس على أقل تقدير.

كان الحبّ الردّ الوحيد على قوانين الأخ الكبير، لكنّه هُزم بهزيمة ونستون وحبيبته جوليا. خانها وخانته تحت وطأة التعذيب. مع شماتة المنظومة التي تراقب العواطف واختلاجات الوجوه. يتأكّد هذا الصّلف للسلطة بتكرار المشهد لأغنية تتردّد في مقهى يرتاده خائبون خارجون من سجون التعذيب: "تحت شجرة الكستناء الممتدّة بعتك وبعتني". فالتدجين الأمثل لوينستون، ليس في تطويع أفكاره وإذلال جسده وانتزاع كبريائه لقبول إيديولوجيا الحزب فحسب، بل بانتهاك قلبه، آخر معاقل مقاومته.

كذا هي الحال في ما نتوهّمه عالماً يوتوبياً ستكون الديستوبيا مستقبله القريب، تماماً كما يحذّر هكسلي في عالمه "الجديد"، بانتحار إنسانه البدائي الوحيد "جون" اللامنتمي والمعلّق بين عالمي الفطرة والتكنولوجيا. فهو لم يتقبل أطفال المعامل، والعلاقات الجنسيّة المفتوحة بغير حبّ،

كما أنّه لم يلقَ من يحبّه في عالم منزوع العواطف. في هذه العوالم الديستوبية يتكشف لنا الصراع في صورته الأعمّ والأشمل للفطرة في وجه الثقافة على اختلاف إيدويلوجيّاتها. القلق والخوف والفقد والتقزّم أشباح اجتمعت لتتجسّد في شخصيّة تتعملق لا يستر جسدها سوى ورقة تين أخيرة عنوانها الحبّ، تفضح الهشاشة بقدر ما تستر أرواحاً بائسة. غير أنهّا على أيّ حال ورقة خلاص، حارسة الإنسانيّة.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image