كتب يوسف إدريس قصته "أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟"، سنة 1970، ولم تُنشَر في حينها. ذلك أنّ القاصّ قد مسّ تابوهين من التابوهات الاجتماعيّة الثلاثة، وهما: الرغبات الجنسية، ومن يمثّل الدين. فكيف الحال إذا ما تظهّر هذا المكبوت، وهو من الفطرة البشريّة، في رمز ديني ينبغي أن يكون الصورة المُثلى للإله، والمعصوم عن الخطأ في عُرف المجتمع؟
من يقرأ رواية "تاييس" (1891)، لأناتول فرانس، التي يتكئ فيها على سردية دينية تتناول حياة القديسة تاييس (أو "تاي" بلفظها الفرنسي)، الغانية التائبة على يد الراهب بافنوس، سيجد تقاطعات ومفارقات تصلح لقراءة مقارنة محورها الشخصيتان المذكّرتان، قبل أن تكون للشخصيّتين الأنثويّتين: الشيخ عبد العال، لوقوعه في شِباك لي لي، وبافنوس الذي كفر بعد ترهّب، لِولهه بتاييس.
الدعاء الصرخة... وإشارات إلهية لا تأتي
"يا رب!"؛ استحالت بتكرارها ثماني مرات صرخة استغاثة تنطلق من قلب الإمام عبد العال. نخاله يدعو ربّه لئلا يدخله "في تجربة". ومعنى الآية الواردة في إنجيل متى: "ولا تدخلنا في تجربة لكن نجّنا من الشرير" (13:6)، يؤوّل برجاء أن تبقى التجارب خارجنا في صراعنا معها، وألا تدخل إلى قلوبنا، كمثل الأمواج التي تصطدم بالسفينة من الخارج فلا تضرّ بها. هذا التفسير يؤكّد حالة الغرق التي يعيشها؛ فالماء وجد ثقباً يدخل منه إلى أعماقه، فخرج الصوت منه في عبارة شديدة التكثيف، تضيق بها أوتاره الصوتية حدّ الاختناق.
من يقرأ رواية "تاييس" لأناتول فرانس، سيجد تقاطعات ومفارقات تصلح لقراءة مقارنة محورها الشخصيتان المذكّرتان، قبل أن تكون للشخصيّتين الأنثويّتين: الشيخ عبد العال، لوقوعه في شِباك لي لي، وبافنوس الذي كفر بعد ترهّب، لِولهه بتاييس
لم يكفر الإمام بربّه أو يتنكّر لكتابه، بل هو الضعف البشري أمام ما فُطر عليه من انجذاب إلى الجنس الآخر. لكنّه اختار طريقاً ملتوياً لا يتّفق وتعاليم دينه. أكان لا بدّ أن يترك المصلّين في حالة سجود، وينسحب من نافذة المسجد ليطرق باب لي لي؟ أكان لا بدّ أن يقول لها: "جئت أعلّمك الصلاة"؟ أكان لا بدّ أن يفكّ "زرار الكاكولة الأعلى"، ليظهر خبث "صلاته" بتوريتها؟ "في البدء كانت النكتة"؛ هكذا يبدأ الراوي قصته، لكنّها نكتة مرّة وموجعة. لم يصبر، ولم يحتمل سطوع النور: نور لي لي ببياض جسدها وفتنتها؛ فانفجر! وكان لا بدّ من الدخول في تجربة يا عبد العال!
ماذا عن بافنوس إزاء جمال تاييس؟ قبل الرؤية، كانت الذكرى وكان صدى ما قيل عنها في الذاكرة الشعبية. وقبل المرأة التي كانت غايته إنقاذها، كانت المدينة بعد غياب عشر سنوات في الصحراء، حيث يعود ويخاطب الإسكندرية: "أنا أكرهك لغناك، لعلمك، للذاتك، لجمالك!". وما ذلك إلا مفارقة لاواعية بين ما يبطن وما يظهر. وقد حذّره أحد الفلاسفة من أن يغضب الإلهة فينوس "الزهرة"، إن حرمها أبدع عبادها، ويعني تاييس. لم يصغِ، وحلّت لعنتها عليه في الختام. ظنّ أنّ سعيه إليها كان لأجل خلاص روحها حين باح بالقول: "أحبك يا تاييس أكثر من حياتي... لأجلك نطق لساني بكلمات دنيوية، وكان قد نذر الصمت... لأجلك تبلبلت روحي".
عندما كانت تاييس في صومعتها داخل الدير تغتسل من خطاياها، كانت بذور الخطيئة تنمو وتتمدد في نفس "كاهن أنصينا"، برغم اجتراره التسابيح التي لاكها لسانه تكراراً، على حد تعبير صديقه المتهكّم "نسياس". يناجي نفسه الحزينة: "ما من شيء تغيّر حولي، ولكنني أنا الذي لم أبقَ الشخص الذي كُنته". هجرته الرؤى وأصوات الملائكة، "والله صامت" وإن أقام فوق العمود، في كفارة خارقة للعادة. في داخله "عالم أفكار شريرة... لأنّ اشتهاء المرأة كان مسلّطاً عليه"، إلى أن علم بمرض تاييس، فأفصح عن شكّه، وراح يهرول إليها نادباً شقاءه: "كيف لم أدرك أنّ السعادة الأبدية إنما هي في قبلة واحدة من قبلاتها؟".
نهايات رهن البدايات، الشيخ والراهب
في دراسة القصة يلتفت الدارس إلى تنظيمها من نهايتها لا من بدايتها. والحال هذه تتطابق مع الدلالة في ما يذهب إليه كلّ من القاصّ والرّوائي في رؤيتهما. فنهاية الشيخ الشاب عبد العال رهن بدايته، ونهاية بافنوس الصادمة تضعنا في حيرة من أمرنا، وسرعان ما نجد الإجابة إذا ما تأمّلنا البدايات. وكأنّنا بيوسف إدريس يجيب عن تساؤلاتنا حيال بافنوس، بخلق شخصية عبد العال؛ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الترتيب الزمني لإصدار العملين السرديين.
لا بد من التجربة، مع لي لي أو مع غيرها، ومع تاييس أو أيّ امرأة أخرى على المقلب الآخر. ومن حقّنا أن نقف موقف المتشكّك أمام هذا اليقين: "لا بدّ!". لكنّ الإجابة تأتي منطقيّةً في القصة والرواية معاً. فالرجلان عاشا متبتّلين، لم يجرّبا الحب. قمعا الجسد وحاجاته، وفي ظنّهما أنّ الغريزة ماتت وأنّ الرغبات قُهرت، وأنّ الشيطان بعيد، وأنّه -أي الشيطان- لا يتظهّر إلا في القبيح.
مهما يكن من أمر الرؤية السردية، فهي بغمزها من جهة الممارسات الدينيّة الخطأ والمغالية في إجحافها بحق الجسد ومتطلّباته، تولي قضية الجسد، وموضوع الحبّ اهتماماً جمّاً جديراً بالقراءة، وتعديل أنماط التفكير والعيش تالياً.
وكانت المفاجأة أنّ ما ظنّاه شيطاناً يوسوس لهما تجلّى في الجمال، وفي أجمل كائنات الأرض: "هي لي لي بالتمام، هي الشيطان كاملاً غير منقوص... كم نقشوا على قلوبنا الأخطاء عنك حتى ارتسمت في أذهاننا دائماً رجلاً بشعاً، ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرةً، مع أنك لا يحلو لك التربص إلا محاطاً بالجمال وإلا على هيئة ستّ". وإذا ما نظرنا في المتكرّرات الأربعة على لسان عبد العال: الشيطان، يا رب، لي لي، فضلاً عن اللازمة "لا بدّ"، نجد أنفسنا أمام قراءة فرويديّة بمصطلحات اللاشعور التي اجترحها: "الهو" إزاء "الأنا الأعلى" في صراع "الأنا" الأبدي وتنازعه بين الغرائز، والقيم الاجتماعيّة.
من زرع في عقل بافنوس أنّ الشيطان قبيح؟ حالما رأى تاييس على المسرح، ثم في كهف العذارى (مكان إقامتها)، اضطربت حاله؛ فالواقع على وجه مغاير لما تصوّره. وليس العيب إلا في ما تصوّر من إيمان لمغالاته في الزهد والتقشّف وقمع شهواته. ألم يتردد صوت من المقبرة، في رحلة تيهه، يقول: "إنه ميت ولكنه عاش، وأنت ستموت ولن تكون قد عشت"؟ كان لا بدّ من استفاقة ما حاول إسكاته، ولا بدّ من التجربة يا بافنوس! كشف السرد هذا التحوّل تباعاً، وصولاً إلى الكفر بماضيه وبما على الأرض وفي السماء، ولا شيء سوى تاييس وحبها يستحقان العيش لأجلهما. وللدكتور محمد حسين هيكل مطالعته القيّمة في هذا الشأن، في مقالة حول رواية "تاييس" ضمّنها كتابه "في أوقات الفراغ". ولفت الانتباه إلى التمايز بين السردية الدينية، ونعتها بالخرافة القديمة، والسياق التخييلي لقصة الناسك الذي انقلب كافراً والراقصة البغيّ التي أصبحت قديسةً.
كتب يقول: "وُلد بافنوس بالإسكندرية من أسرة ذات نبل. لكن أهله لم يكونوا يمدونه من المال بما يسد مطامع لذائذ الحياة عنده. فلما كان في العشرين، انقطع إلى العبادة في الصحراء، وذكر أنه اندفع يوماً إلى دارها [تاييس] فلم يردّه إلا حياء الشباب وضيق ذات اليد. ولو أنّ بافنوس أخطأ قبل أن يحب لصهره الحب وطهّره كما صهر تاييس وطهّرها، لكنه طُهّر قبل أن يحب فاستحال حبه خطيئةً كما تحيل النار الماس فحماً".
ويتابع هيكل تأويله للنهايات غير المستغربة في جو من تجاور أبيقورية الترف واللذة ورواقية التقشّف في ذلك العصر: "فلا عجب وهذه الحال أن جذب جمال الإيمان بغياً أو استغوت نعمة المدن ناسكاً". وفي مقارنته البدايات ينتبه إلى أنّ كلّاً من بافنوس وتاييس عاد إلى عهده الأول وإلى ما كانه (الناسك الذي كان مترفاً، والبغي التي نشأت فقيرةً ومؤمنةً).
في دراسة القصة يلتفت الدارس إلى تنظيمها من نهايتها لا من بدايتها. والحال هذه تتطابق مع الدلالة في ما يذهب إليه كلّ من القاصّ والرّوائي في رؤيتهما. فنهاية الشيخ الشاب عبد العال رهن بدايته، ونهاية بافنوس الصادمة تضعنا في حيرة من أمرنا
أهي استفاقة الطفولة، أم صعود الرغبات المخبوءة وغير المتحقّقة في رحلة الحياة؟ ما حدث من انقلاب أوضاع للشخصيّات يمكن اختزاله في ثنائيات من قبيل: الصمت والثرثرة، الإضاءة والعتمة. ما أن التقى بافنوس بتاييس والذكريات والأحلام تثرثر، ومعها الشهوة تصغي وتستفيق. ولصمت النور في غرفة لي لي دلالة صمت الشهوة لدى عبد العال، قبل إضاءته. وحين ثرثر النور وتلوّى الجسد الأنثوي بنور بياضه أمام ناظري الشيخ تقلّبت نفسه، ليعود النور إلى وضعه الصامت في نهاية القصة: "وأطفأت النور" تنبئ برفض لي لي العلاقة، وبخيبة الرجل على حد سواء. ولنقلب المعادلة في السؤال الآتي: هل حُرم عبد العال وبافنوس من النعمة الإلهية، أم أنهما استفاقا من ضلالهما بتجاهل جمال الكائنات ونعمة الحب، فوجدا معنى الإيمان؟
بين لي لي وتاييس، الشخصية "الدونجوانة" ومتلازمة "ثنائي القطب"
إذا كان ثمة تماهٍ في الحال والمآل بين عبد العال وبافنوس، فالحال ليست على هذا النحو بين لي لي وتاييس. تلاعبت لي لي بعواطف الشيخ بسخرية موجعة، بغرائزه تحديداً؛ بوعي منها ودراية بحاله وبقدرتها على السيطرة عليه: "جمالها طاغٍ على الحي محرّم"؛ فلم يفلت من شباكها، تماماً كحال شبّان حي الباطنيّة الذين حاولوا معها بالقوة والنقود والزحف على البطون دون جدوى، وفي النهاية قبلوها كما هي مستعصيةً، واحترموا أنها ليست لأحد. ولمَ يكون استثناءً؟ أليس رجلاً؟ سيرضي غرورها الأنثويّ أكثر حين يكون "صيدُها" رجلَ دين شاباً ومتشدّداً. فهي في قرارة نفسها لا تكترث بالرجل المصري، بل بالإنكليزي: "لي لي لا تقرب إلا الأجانب. لم تكن تقول، ولكنه السر. سرّها الدفين". وكلّما ارتفع عدد فرائسها، ابتهجت؛ لأنها ببساطة تمتلك صفات الشخصية "الدونجوانية"، وهذه الشخصية ليست حكراً على الرجل!
يوضّح صادق جلال العظم، سلوك الشخصية الدونجوانية في كتابه: "في الحب والحب والعذري"، والصفة "الكنائية" تعود إلى المسرحي الفرنسي موليير في مسرحيته "دونجوان". ينقل العظم عن الجاحظ وصفه للمرأة (الدنجوانيّة) في "رسالة القيان" بأنّ هذه المرأة "لا تناصح في ودّها لأنها مكتسبة ومجبولة على نصب الحبالة والشرك للمتربطين ليقعوا في أنشوطتها... فإذا أحسّت بأنّ سحرها قد تقلب فيه وأنه تغلغل في الشرك، تزيّدت". ويسجّل اتفاقاً شبه تام بين وصف كل من الجاحظ وموليير لهذه الشخصية بصيغتي التذكير والتأنيث. وبالعودة إلى ألاعيب لي لي، نتذكّر حوارها مع الشيخ: "عايزاك تعلمني الصلاة. عندي كتاب خذيه. أنا عايزة درس خصوصي". وعندما دخل عليها يبتغي أن يعلّمها الصلاة المزعومة، توليه الظهر وتقول: "أنا اشتريت الأسطوانة الإنكليزي اللي بتعلم الصلاة، لقيتني أفهمها أكتر، متأسفة". وأطفأت النور. في دلالة واضحة على خبثها وعلى معنى النور المفارق الذي قاده إليها؛ إلى تهلكته.
أما انتقال تاييس من عالم الدنيا المادي بكامل مباهجه وما أصابت فيه من شهرة وثراء واهتمام، إلى عالم نقيض من الزهد والتقشّف والتخلّي فله تفسير مغاير لما ذهب إليه هيكل. وإن كان الراوي قد ذكر ما يُشعر القارئ بالاطمئنان والتصديق، بأنّ تاييس لم تكن سعيدةً برغم ما حظيت به، وأنها مؤمنة بالعناية الإلهية وبالرقى والتعاويذ وبالعدل الأزلي، وكانت دائمة الخشية من الموت والشيخوخة وذهاب الجمال؛ فجاء تحولها منطقيّاً بإبدال مفهوم المجد ليس إلا. هذا التناقض يأتي تحت مسمّى "اضطراب ثنائي القطب". وفي تعريفه أنه يبرز في مجموعة تقلّبات مزاجيّة؛ فيعاني المضطرب من أعراض انفعالية مثل الاكتئاب والشعور بالحزن واليأس، وفقدان الاهتمام بمعظم الأنشطة والاستمتاع بها. كما تؤثر التقلبات المزاجية في القدرة على اتخاذ القرارات والتفكير بوضوح. ألا تنطبق هذه الأعراض على حال تاييس في إشارات لمّاحة؟
مهما يكن من أمر الرؤية السردية، فهي بغمزها من جهة الممارسات الدينيّة الخطأ والمغالية في إجحافها بحق الجسد ومتطلّباته، تولي قضية الجسد، وموضوع الحبّ اهتماماً جمّاً جديراً بالقراءة، وتعديل أنماط التفكير والعيش تالياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...