في روايته الأخيرة "بيت من زخرف - عشيقة ابن رشد"، الصادرة عن دار الشروق، يؤكد إبراهيم فرغلي، أن التاريخ لا يكفّ عن إعادة نفسه بعناد غريب، يُهيئه له الصلف والتَعَنُّت البشريّين النابعين من الصراع على السلطة المعرفية.
باستثناء مشهدين، هما: مخطوطات ابن رشد التي استحالت طيوراً ورقيةً، تنطلق من صندوقها لتبلغ عنان السماء، وسقوط عين المرأة الغجرية من محجَرها وتدحرجها في البعيد، وما يتبع ذلك من دخول البطل إلى عالم قديم يمتد إلى الأندلس، يتخلى إبراهيم فرغلي عن غرائبيته التي ظلَّت عنواناً لكتاباته، ويدخل إلى عالم الرواية التاريخيَّة، بكتابته سيرةً مُتَخَيَّلةً لابن رشد، وإن كانت غير تقليدية في بنائها السرديّ، إذ إنها كما جاء على لسان إحدى الشخصيات: "كُتِبَت بنفس النمط الذي تتوافر به سيرته في كتب السِّيَر والتاريخ، شذرات غير مرئيَّة".
وكما أن الاستعانة بملامح من التاريخ في روايتيه السابقتين "معبد أنامل الحرير"، و"قارئة القطار"، تُعدُّ مدخلاً أساسيّاً عند فرغلي لسؤاله الأثير عن الهُوِّية، فقد احتَفَظَت هذه الرواية بذلك السؤال، مُضافةً إليه كارثة التشدد الدينيّ كنتيجة حتميَّة لإغلاق باب الاجتهاد، وتحريم التفكير، وتجريم الحكمة (الفلسفة)، ونقد النص، وتالياً أصبح هناك وجه واحد فقط هو الصحيح، وما دونه هو الضلال، ومن يعتنقه كافر، يتوجَّب قتله، أو على أقل تقدير التنكيل به، وهو ما حدث لابن رشد الذي نُفِي، وحُرِقَت كتاباته.
بدايةً، يُمْكِن فهم العنوان الرئيسيّ "بيت من زخرف"، على أنه إشارة إلى الزخارف التي تميَّزت بها العمارة الأندلسية، أو قد يكون إشارةً إلى تلك الحقبة الحضارية المنيرة من تاريخ المسلمين، والزاخرة بمختلف أنماط الفكر والمفكرين، قبل التعانها بالظلاميين.
الرواية تعيدنا إلى حكم المسلمين للأندلس، تلك المنطقة المُسَمَّاه بشبه جزيرة إيبيريا، والتي تضم حالياً إسبانيا والبرتغال وأندورا، ذلك الحُكم الذي ظلَّ قائماً لأكثر من سبعمئة عام
ابن رشد، الذي آمن بالعقل ونادى به، ورأى أنه أهم ما منحه الله لخلقه، وفرض عليهم ألَّا يُعطِّلوه، والذي وفَّق بين الحكمة والشريعة، أي بين الفلسفة والدين، مؤكّداً أن القرآن قد أكَّد حجيّة العقل، جاعلاً من التأويل الأداة الأنجع لحل الخلاف والتعارض إن وُجد بينهما، لم يستفد الناس من تحذيراته مما حدث في الأندلس في زمن ملوك الطوائف، ومن كيفية استخدام المذاهب في التفريق بين الناس، إذ لا يتعلم الإنسان من التاريخ، برغم تصوراته عن نفسه بأنه يفهم كل شيء، فحرق أبناء عصرِه كتبه، وحرَّموا أفكاره، وقد حدث الشيء نفسه في أوروبا في القرن الثالث عشر، وتمثّل في صراع توما الإكويني مع "الرُشديين". لكن التيار العقلاني انتصر في النهاية، وأسس المدرسة الرشدية. أمَّا نحن، فظللنا إلى الآن أسرى الفكر الرجعيّ، غارقين في المستنقع نفسه، نستنسخ إرهاباً دينيّاً متمثلاً في القاعدة، وجيش الإسلام، وجبهة النصرة، وداعش، وغيرها، وهو الفكر الذي ستعتنقه إحدى الشخصيات الشابة في الرواية أي زياد.
الرواية التي تتحدث عن محنة ابن رشد، تكشف لنا كيف تبدّلت الظروف في الأندلس، وكيف شهدت الأيام تشدداً تجاه الحكمة وعلوم الفلاسفة، وكيف أن السلطان أبا يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن، كان مثقفاً مستنيراً، متحرر العقل، منفتح الفكر، يتناقش في الحكمة والشعر، ويطلب من ابن رشد شرح وتلخيص وتبسيط أقوال الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، ثم التطور الخطير الذي حدث بعد وفاته، حين سيأتي من بعده ابنه أبو يوسف يعقوب المنصور، والذي كان صوفيّ الهوى، فانقلب على نهج والده. ومن أجل اكتساب العامَّة من الشعب في صفه -خاصةً وهو يخوض حربه ضد القشتاليين- يرضخ لفكرِهم القاصر، المُقصي للمخالف، ما يحيلنا إلى فكرة العلاقة الأبدية بين السياسة والدين، وكيف يَستخدِم الحاكم الدين لإخضاع المحكومين.
الرواية تعيدنا إلى حكم المسلمين للأندلس، تلك المنطقة المُسَمَّاه بشبه جزيرة إيبيريا، والتي تضم حالياً إسبانيا والبرتغال وأندورا، ذلك الحُكم الذي ظلَّ قائماً لأكثر من سبعمئة عام، وقد قامت الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل (صقر قريش)، ثم ابنه هشام الأول، ثم الحَكَم بن هشام، ومن تلاه حتى مجيء عبد الرحمن الثالث الناصر، ثم ابنه الحَكَم، ومن بعده ابنه هشام الثاني، وصولاً إلى الحاجب المنصور الذي مكر للخليفة الصغير وأمه صُبح البشكنجية، واستولى على خلافة قرطبة التي غَدَت منارةً للعلم، والتواليف، والعمارة، ولولا أمراء الأندلس ومآثرهم ما عرف المسلمون (وقتها)، ولا أوروبا (بعد ذلك)، النور والنهضة. وقد ظلَّت الأندلس تابعةً للخلافة الأموية، ومن بعدها الخلافة العباسيَّة، حتى أعلنت نفسها خلافةً مستقلةً بذاتها. كما أشارت الرواية إلى العناية الإلهية التي كانت تعيد للأندلس مجدها وقوتها كلما ضَعُفَت أو تفتَّتت بين الطوائف، كالمرابطين الذين أتوا من مراكش لاستعادة هيبتها.
لا عجب أن ينتصر ابن رشد للمنهج العقلي، إذ كان لنشأته عظيم الأثر في فكره وشخصيته؛ فقد تربى في بيت علم، وصاحَب أهل الطرب والموسيقى، وعاش بين المسيحيين واليهود، يتشارك معهم الاحتفالات واللهو مذ كان صبيّاً. وقد أضحى ابن رشد، الفقيه، والطبيب، والفيلسوف، الذي أسهمت شروحاته في ظهور حركة فلسفية في أوروبا أُطلِقَ عليها "الرُشديَّة"، وقد استفادت منه أوروبا بشكل كبير، إذ هناك من يرى أنها تمكًّنَت بفكره، من الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة.
يرى ابن رشد أن هناك علماً للخاصَّة، وآخر للعامَّة، وأنه لا يصح للعامَّة أن يطَّلِعوا على عِلم الخاصَّة، لما يفتقدوه من أدوات تحليلية وعقل نقديّ، ويرى أن من أفسد الشريعة هم بالترتيب: الخوارج، المعتزلة، الأشعرية، الصوفيَّة، وأبو حامد الغزالي الذي تحدَّث عن الحِكمة وأوَّلَها بمنطقه، ونشر تأويله ذاك على العوام من الناس التي لم تنشغل يوماً بذلك العلم! تماماً كما حدث مع إسكندر، بطل الرواية، والأستاذ الأكاديمي، الذي تقدَّم لكُليته ببحثٍ للحصول على ترقية، فنشره أحدهم على العامَّة، بينما لم يكن له أن يخرج من حدود حرم الجامعة من الأساس!
الرواية مقسَّمة إلى ستة أقسام: الخبيئة، أفيرويس، كتاب مانويلا، لبنى القرطبية، وكتاب إسكندر، أما القسم السادس فكان بلا عنوان. وكل قسم من هذه الأقسام، ينقسم بدوره إلى فصول. والرواية لا تتبع خطًّاً كرونولوجيّاً مستقيماً، فلا ترتيب في الأحداث، والسرد يقوم على تعدد الأصوات؛ إذ كل بطل يتحدث بلسانه، ويُعَنوَن الفصل باسم صاحبِه: المشًّاء، النسَّاخ، ابن جبير، الورَّاق، إسكندر، ابن زرقون، ابن عربي. كما أن هناك فصلاً يرويه طائر القُمْرِي، وهنا يجدر ذِكر رواية فرغلي "معبد أنامل الحرير" الذي كان الراوي فيها مخطوطاً! وبطول الرواية كان إسكندر، الذي هو البطل، والراوي، وكاتب الكتاب (لم يمنحه اسماً محدداً)، يتداخل ويظهر بشكل مستمر، فيُطلِع القارئ على تكنيك الكتابة والبناء، ما منح الرواية حيويةً تجعل القارئ متنبهاً طوال الوقت.
تتبدَّل اللغة بحسب الشخوص والزمان، وقد يتم تناول شخصية واحدة بعيون أكثر من شخصية. ويتكوَّن المتن من كتابات عدة لأشخاص مختلفين: مخطوط راحيل (صديقة لبنى)، وأوراق مانويلا التي أملتها على ميلينا، وكذلك كتابات إسكندر، الذي جمَّع كل ما سبق في كتاب يروي سيرة ابن رشد.
"الأدب يُرَتِّق ثقوب التاريخ"؛ عبارة تصلح كإجابة على استفسار يخص استعانة الروائيّ بقصة مُتَخيَّلة عن عشيقة لابن رشد، منحها اسم لبنى القرطبية، إذ إن اللجوء إلى تلك الحيلة قد ألقى الضوء على الجانب الخفيّ والرومانسيّ في حياة ابن رشد، والتي وُصِفَت بالجافة، وقد قيل عنه في الرواية للدلالة على جديته الشديدة، إنه لم يعرف سوى العِلم حبيباً ورفيقاً، ولم يترك القراءة والكتابة سوى في ليلتين: ليلة زواجه، وليلة وفاة والده!
استخدام الروائي لاسم "لبنى القرطبية" له دلالته التاريخية الواضحة، فعلى الرغم من ابتداعِه لتلك الشخصية، والتي لم يكن لها وجود فعليّ في حياة ابن رشد، إلا أنها إحالة على شخصية حقيقية حَمَلَت الاسم نفسه، وكانت كاتبة الخليفة الحَكَم المستنصِر بالله، إلى جانب كونها نحويةً، وشاعرةً، وبصيرةً بالحساب والرياضيات، وقد منحها فرغلي شخصيةً قويةً، ومميزةً، تعتز بكينونتها وحريتها، فكانت النموذج الأمثل، المتماشي مع فكر ونظرة ابن رشد للمرأة، والتي يراها مُنتِجةً ومُبدِعةً ومساويةً للرجل، الذي يعتبُ عليه لانتهاكه كينونتها، ومعاملتها كمتاعٍ.
السؤال الذي ظل يراود إسكندر: "لماذا ابن رشد تحديداً هو الذي تحمَّست للكتابة عنه؟ ولماذا أضحى ذلك النص الذي أكتبه مسألة حياة أو موت؟"، سوف يعثر على إجابته في نهاية الرواية؛ وهي أن قصته (التي تُعَدُّ نسخةً من قصة د. نصر حامد أبو زيد، والذي أهدى فرغلي الرواية إلى روحه)، لا تختلف كثيراً عن قصة ابن رشد؛ المحنة نفسها، والإحساس بالمهانة نفسه، ومحاكم التفتيش على القلوب، والتشدُّد والهوس الدينيّ.
لم يكن إسكندر وحده وجهاً لابن رشد، فالمقاربات والتشابهات التي تدلل على أن قصص البشر متشابهة، وتالياً التأكيد -بشكل ما- على فكرة إعادة التاريخ لنفسه، تمتلئ بها الرواية؛ فقصة حب ميلينا لأستاذها إسكندر، تشبه قصة حب مانويلا لأستاذها الجامعي، وهي أيضاً قصة حب لبنى لمعلمها ابن رشد.
تلقي الرواية الضوء على الكثير من فكر ابن رشد المتأثّر بأرسطو، وكذلك على مجايليه؛ سواء كانوا أصدقاء، أو كارهين له، كما تلقي الضوء على رؤية الجيل الحالي من الإسبان لتلك المرحلة من التاريخ
وكما بدا لنا مُفتَتَح الرواية مفعماً بالأمل في مشهد المخطوطات الطائرة، في إشارة إلى أن الأفكار لا تموت، لم تُخالِف نهاية الرواية بدايتها، إذ بَدَت هي الأخرى مُشَرَّعةً على الأمل، فلم يُسدَل الستار على أحداث قاطِعة ونهائية، بل دعتنا النهاية لتخيُّل أن مآل لبنى سوف يكون في معيَّة ابن رشد، وأن ميلينا سوف تجتمع أخيراً مع حبيبها إسكندر في مصر، وقد يعود "زياد" إلى رشدِه، ويُقلِع عن فكره المتشدد حين يقرأ مخطوط الرواية التي تتناول سيرة ابن رشد، والأهم أن إسكندر سوف يُكمل حربه ويَستبسِل في مقاومته لقوى الظلام والرجعية.
الرواية مكتظة بالتفاصيل والمعلومات، وبشخوص ثانوية كان من الممكن الاستغناء عنها، وقد أتى حوار إسكندر حول المثقفين شديد المُباشَرة، لكنه قد يكون ضرورةً لإبراز وإيصال فكرة تشتتهم، وضعفهم، وصراعاتهم، وسلبيتهم، وعدم إيمانهم بالعمل الجماعي، وأنهم في النهاية لا يعدون كونهم ظاهرةً صوتيةً، تكرِّر بالعويل والصراخ الكلمات الحادة نفسها في كل مرة، والتي سرعان ما تنطفئ جذوتها، ثم لا ينفكون يعيدون استخدامها في معركة تالية.
تلقي الرواية الضوء على الكثير من فكر ابن رشد المتأثّر بأرسطو، وكذلك على مجايليه؛ سواء كانوا أصدقاء، أو كارهين له، كما تلقي الضوء على رؤية الجيل الحالي من الإسبان لتلك المرحلة من التاريخ، وكيف ينظرون إلى الحقبة الأندلسية، وهل يعدونها جزءاً من ثقافتهم، أم يعدّونها فترة استعمار؟
الرواية البديعة، التي بُذِلَ فيها مجهود عظيم لا يخفى على القارئ، جرس إنذار لمجتمعات تأكل أبناءها، تحذير كي لا تتكرر مأساة رجل عظيم حُرِقَت كتبه، ولُعِنَ، وكُفِّر، بسبب سوء التأويل القائم على كبح قدرات العقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع