شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
فضاء غزة الممزق وشعار

فضاء غزة الممزق وشعار "باقون رغم الموت" الذي لم يأخذنا بالحسبان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الجمعة 23 أغسطس 202412:31 م

بعد نحو عشرة شهور على حرب الإبادة الجماعية وعمليات التدمير الشامل التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، رداً على أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحول قطاع غزة إلى فضاء مشوّه.

جعلت منه الإبادة مشاعاً مستباحاً بلا ضوابط أو قوانين، وبحدود مبهمة، كممارسة مكانية وتأديبية بحق سكان مستنزفين مادياً ونفسياً، ومساحات تشوهت فيها فكرة ملكية العام والخاص وأصبح صراع البقاء النجاة هو الفكرة التي تسيطر على أشكال التفاعل داخل هذا الفضاء.

لقد صار فضاء غزة العام فضاء متهالكاً وممزقاً ومشبعاً بالرماديات التي تشوه في الذاكرة كل صور المدينة الملونة.

وباتت الأنقاض أثر الزوال الذي نمنعه من الاكتمال كي لا تختفي صورة الذكرى ولا نخسر الشاهد على الجريمة.

ومع كل هذا الركام، قد يسقط من حسبة المدمر وسلاحه جدارٌ عصيّ يظل واقفاً بمحض الصدفة، سقفٌ صلب كامل الهيئة أو هيكلُ درجٍ حفظته جدرانه من موت محسوم.

تظل هذه الشواهد البصرية علامات للطريق الذي تم تجريفه وخلا من سكان المدينة النازحين.

وبين حين وحين، تصير هذه الشواهد بيوتاً وملاذاً للنازحين ممن لم تتسع لهم مخيمات اللجوء أو لم تشملهم خيم المساعدات، فتحمل جوهراً آخر يكتنز فيه معنى التشبث والبقاء.

تصير المدينة هنا قابلة للبعث من جديد، ويصير الخراب الممتد مسكناً وملاذاً للنازحين الذين يلاحقهم الموت عند كل لحظة. هنا، أقول كما يقول كل النازحين "هذا الفضاء الممزق لي"، وهذه الشواهد التي نعيد إليها الحياة هي طرفٌ منطقي في تسلسل السرد الموجع.

بيت مدمر استصلحه أحد النازحين وسكن فيه. بعدسة روان مراد

شواهد تخلق في بعثها مدينة جديدة وعمارة جديدة. نعم، صار تشكيل هياكلها بالصدفة، لكنه حدث، وتمسك بالحياة وأعلنها بجدارة واحتضن أصحابها الموجوعين، فصار لهم بيت ومسكن.

في مدينة تعرضت للتدمير الكامل، فإن جوهر النظرة المستقبلية يكون في إعادة الإعمار وإعادة هندسة المدينة.

وفي وجود هندسة معمارية تعمل ضد الصدفة، كونها قائمة على الحسابات الهندسية والتحليل وبرامج المحاكاة، فإنه لا مجال لتلك الهياكل التي تأتي بفعل الصدفة.

أي إذا أراد شخص بناء منزل، ووجد شجرة تعترض طريقه، فإنه نادراً ما يصمّم المنزل بما يحترم وجود الشجرة التي وجدت مصادفة. بل يقوم بتجريف الأرض كاملة ليبدأ تصميمه المحسوب بدقة على رقعة بيضاء كاملة.

التوجه في إعادة الإعمار مماثل، إذ لا يستعين الناس بالهياكل المدمرة كلها أو بعضها، والتي لعبت الصدفة دوراً كبيراً في تشكيلها. فهو مرفوض ومستبعد كونه خلق بالصدفة.

تقاوم الهندسة المعمارية عامل الصدفة باستمرار، حيث يقوم التصميم المعماري على استخدام الدراسات والاحتمالات الإحصائية وغيرها من الطرق لإيجاد الحلول المثلى للهياكل والمواد وتدفقات الطاقة وتوزيعها.

وعلى الرغم من أن العديد من التخصصات المكانية وجدت طريقها للاستعانة بالصدفة كموضوع وطريقة، مثل الدادائية والسريالية والتعبيرية التجريدية والرسم الحركي، إلا أنه من المخيب للآمال أن الهندسة المعمارية، التي تتداخل مع العديد من هذه التخصصات، تجنبت أي اعتبار جدي للصدفة.

الممارسات العمرانية في غزة، سيما تلك التي تأتي في سياق ما بعد الأزمة وخطط إعادة الإعمار والتدخل الطارئ، تحتاج للكثير من النقد الذي من الصعب أن يشمله هذا المقال.

لكن من الجدير لفت النظر لهذا الفضاء المشوه والممزق، ورفع وعي نظرتنا إليه، كي لا نخسر تلك الإمكانيات الشعرية والأيديولوجية التي يبثها الفضاء، والتي يمكن الاستثمار فيها بشكل إبداعي كونها تركز بشكل جذري على المكان والناس والتاريخ.

بيت مدمر استصلحه أحد النازحين وسكن فيه. بعدسة روان مراد

في هذا السياق، وجب إعادة تنشيط الممارسات الحضرية الظرفية والأدائية التي تدفع نحو تغذية المخططات المكانية بما لا يمكن التنبؤ به من الأحداث العامة والطارئة، والتي تترك متسعاً للتشوه أن يصير فوضى خلاقة من خلال الارتجال والتفاعل.

هذا ما حدث مع شواهد البيت المدمر، السقف والجدار والدرج المتهالك الذي صار بيتاً من جديد لنازح عابر ارتجل بيته بفعل الصدفة والظروف.

هذا المثال هو نموذج واضح وعملي للتلقائية التي تنسجم مع المنطق وتوسع حدود التمثيل والمعنى في الفضاء.

وهذه الحالات ليست نادرة الحدوث، بل هي متاحة للملاحظة في كل مكان وزمان، خاصة مع حالة الاستنفار الدائمة للمدينة المستهدفة وحالة التوتر المستمر بين المباني والزمنية، وحالات السكن والطقس الطارئة، والتدمير والاعتداء المباغت، والاستهداف الملعون الذي لا يرحم ولا يميز. فلماذا لا نملك هذا الاهتمام الواعي بجماليات الصدفة؟

الواقع مؤسف تماماً. فكل الممارسات ذات الصلة تسعى لإزالة الركام وقتل الصدفة وما تعجنه وتشكله من ماديات بمواقيتها الغامضة، وتتناسى بغير قصد أن كومة الركام في جملتها لها مضمونها الشعري والأيديولوجي.

فهي الذاكرة وهي الشاهد على الجريمة وهي التاريخ وهي حارس المساحة. فلولا وجودها، لن يكون من السهل أن يتعرف صاحب المكان على إحداثيات مسكنه أو يدرك موقعه في المكان المقتول.

غالباً ما تحدث هذه الممارسات دون وعي، مستسهلةً فكرة الإزالة الكاملة وتفضيل التدمير والبناء على الترميم والتجديد.

لقد دفعت الإبادة الشاملة بفضاءاتنا إلى حالة من الفوضى. وربما يكون من الصعب في ظل القيود والتحديات التي تصنعها المعاناة والألم والتهجير أن نستحضر الوعي بما يحدث من حولنا، والتفكير بعمق في فضاءاتنا المشوهة.

الواقع مؤسف تماماً. فكل الممارسات ذات الصلة تسعى لإزالة الركام وقتل الصدفة وما تعجنه وتشكله من ماديات بمواقيتها الغامضة، وتتناسى بغير قصد أن كومة الركام في جملتها لها مضمونها الشعري والأيديولوجي

على الرغم من ذلك، من المهم التركيز في التفاصيل الصغيرة من المخيم ومعسكر الخيام، إلى الحي المدمر المهجور، والتفكير بالتناقضات المذهلة التي تنطوي عليها هذه الفضاءات المؤقتة في مساحة معرضة للموت في كل لحظة، حتى وإن كانت غير منطقية. وأستعين هنا بوصف محمود درويش حين قال: "هذا المكان… نفي للمنطق".

فالتطور الطبيعي الذي خاضه اللاجئ الفلسطيني تاريخياً، وفي سياق منظومته المكانية وهياكلها- بدءاً من الخيمة والزقاق المؤدي إليها، إلى عمارته السكنية التي تلامس السماء، العمارة ذات الخمسة أو الستة طوابق بشارع مرصوف وكراج سيارات- يجعل من غير المنطقي استساغة فكرة العودة بالزمن إلى الوراء.

كيف يمكن أن تلغي سنوات من التطور تجاوزت الـ75 عاماً، في لحظة خسارة تصيبك وتعود بها إلى نقطة الصفر؟

لكن هذه الفكرة التي تبدو ضرباً من الجنون، أصبحت واقعاً قسرياً على الغزيين، الذين أفقدتهم الحرب كل شيء.

في لحظة واحدة، وجدوا أنفسهم يبحثون عن فضاء غير مشغول ينصبون فيه خيمه ويبدأون منها مجدداً عملية إعادة البرمجة الذاتية لحياة تجري حولهم بإيقاع سريع للأمام، وهم ينسحبون نحو الخلف بإيقاع لحظي أسرع بكثير.

كونكَ نازحاً، يعني أنك مجبر على الخوض في إيقاع زمكاني مجنون يسير باتجاه يخالف المنطق وتجتمع فيه التناقضات.

هذا يعني أن تكون قد ولدت في المشفى وكبرت في خيمة، أن تتنقل في السيارة ثم تنام لياليك فوق حصيرة. أن تشعل سيجارتك بولاعة وتطبخ طعامك على الحطب. أن تتصل بشبكة لاسلكية وأنت تعيش في خيمة بلا شبكة صرف أو إمدادات مياه. أن تضيء خيمتك بطاقة نظيفة من خلية شمسية ويأكلك البرد القارس داخلها ليلاً.

يُظهر الحفر عميقاً بين الخيام التركيبة والتشكيل والإعدادات الخفية التلقائية التي يقوم المجتمع من خلالها بالبعث من جديد، في كل مرة يتعرض فيها للتدمير والاستهداف.

وفي حين ينتهي هذا البعث إلى خلق فضاءات مؤقتة، إلا أن هذه الفضاءات غزيرة بالإنتاج الاجتماعي الذي يحمل الكثير من المعاني والقيم حول بنية المجتمع الحقيقية.

على المراقب من خارج المشهد ألا يكتفي بالمشاهدة السطحية، فبعض الفضاءات في غزة قد تبدو مسرحاً لتمثيلية كاذبة إذا لم نقرأ ما خلف السطور ونحفر بعمق أكبر نحو الطبقات اللامرئية، خاصة أن الصور والعناصر المرئية في الفضاءات تعمل كأدوات قوية للتواصل والتعبير وقراءة فضاء المدينة.

في سياقات بحثية عديدة قمت خلالها بطلب المساعدة من أصدقائي المحاصرين في غزة في محاولة لتوثيق ما تتعرض له المدينة وفضاؤها من تمزيق واستهداف، قام عدد منهم بإرسال مجموعة من الصور التي توثق تمظهرات العيش القاسية التي يختبرونها.

كونكَ نازحاً، يعني أنك مجبر على الخوض في إيقاع زمكاني مجنون يسير باتجاه يخالف المنطق وتجتمع فيه التناقضات. هذا يعني أن تكون قد ولدت في المشفى وكبرت في خيمة، أن تتنقل في السيارة ثم تنام لياليك فوق حصيرة. أن تشعل سيجارتك بولاعة وتطبخ طعامك على الحطب.

صورة من إحدى الجداريات التي رسمها الفنانون في أنحاء متفرقة من غزة بدعم وتنظيم من طوفان الأحرار. تم التحفظ على اسم المصدر لدواعٍ أمنية

ما لفتني كان مجموعة من الصور من شمال غزة لجدران صمدت بمحض الصدفة واستخدمها فنانون لرسومات جدارية اكتشفتُ لاحقاً أنها رُسمت تحت الضغط والمساومة والابتزاز غير المباشر من قبل مجموعة تابعة لحماس تحمل اسم "طوفان الأحرار" التي قامت بتنفيذ عدد من المبادرات، وأُعلن عنها في مؤتمر عُقد في اسطنبول في أيار/ مايو 2024.

وافق الفنانون المشاركون في هذه الفعالية في رسم الجداريات التي حددت مضمونها مجموعة "طوفان الأحرار" على القيام بهذه الرسومات مقابل مبلغ مادي زهيد لسد رمق جوعهم، في فرصة لا تتكرر في ظل حرب التجويع في شمال غزة.

وقد كشف أحد الفنانين المشاركين في حوار معه أنه تعرض للتوبيخ والشتم من قبل أهل المنطقة الذين شعروا بالغضب من جداريات لا تعبر عنهم وتكذّب ما يعيشونه وما يشعرون به.

جداريات حملت عبارات مثل "باقون رغم الموت"، التي تتنافى مع مواقفهم المستاءة من كل هذا الموت من حولهم وكل ما أثمر عنه السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

وقد أبدى الفنان شعوره بالأسف والعجز، لكن لم يكن لديه الكثير من الخيارات أمام فكرة الموت جوعاً.

صورة من إحدى الجداريات التي رسمها الفنانون في أنحاء متفرقة من غزة بدعم وتنظيم من طوفان الأحرار. تم التحفظ على اسم المصدر لدواعٍ أمنية

تستدعي هذه القصة فكرة أن العناصر البصرية داخل الفضاءات ليست حيادية. وغالباً ما يتم تسييسها واستخدامها لبث رسائل سياسية. وبالتالي، فإن قراءتها تتوجب مزيداً من التدقيق والتنقيب.

ومع تحفظي على سلوك الفنانين المشاركين وتفهمي لدوافعهم، وجب التنويه بأن الفن الذي لا يأخذني بالحسبان لا يستحق الاحترام. والجماليات لن تخدعني ما دامت تناقض جوهر إنسانيتي ولا تعبر عما أعيش، بل تكتفي باستخدامي نعلاً لها.

لكن إشارة واحدة كانت كفيلة بتهدئة غضبي، حين كتب أحد المارين على الجدارية المرسومة رأيه الذي نسف أكذوبتها الملونة: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ليصدح صوت آخر بالحقيقة الوحيدة: "هذا الفضاء الممزق لي"!

صورة من إحدى الجداريات التي رسمها الفنانون في أنحاء متفرقة من غزة بدعم وتنظيم من طوفان الأحرار. تم التحفظ على اسم المصدر لدواعٍ أمنية

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard